عبد الفتاح المطلبي - خطأ فوق العادة

ساءتْ أحوالي وصارَ عيشي وسط البلدِ مستحيلاً مع شِحّةِ مواردي ومزاجيَ المتفلسفِ أحياناً والرافضِ لدعاوَى غضّ البصر تاركاَ لإيماني الراسخ بقوةِ الأشياء أنْ تسوقَني إلى أكثرِ ما يخافهُ الناسُ في الحياةِ وهو أن تجدَ نفسك بين ليلٍ وصبحٍ على شفيرِ الفقرِ والعوزِ وهكذا أحصيتُ ما استطيع توفيرَهُ فوجدتُه لا يكفي إلا للسكنِ في أطرافِ البلدةِ حيث لا يرغب الناسُ ذوو المزاج الحسَن بالسكن هناك وها أنا أقضي ليلتي الأولى في سكني الجديدِ المكونِ من غرفةٍ ومخزنٍ ملحقٍ بها حولته فيما بعد إلى ما يشبه المطبخ، غرفتي هذه كانت مُطلةً على زريبةٍ للحميرِ منها البيضُ ومنها السودُ كلٌ جنبَ عربتهِ التي يجرّها صباحاً ومن أولِ نظرةٍ كنت منحازاً إلى الحميرِ البيضِ أُسَرّحُ نظري إليها معجباً بينما لم أعرْ السودَ أي اهتمامٍ كما إنني أعمدُ إلى إلقاء ما يفسد من مؤونتي من البذنجان والبطاطا وبعض الخبز الذي أصابه العفن إلى جهة الحمير البيض متأثرا بهيبة لونها وبوصفي كائنا يتوخى العدل في نفسهِ لُمْتُ هذه النفس على مجانبتها العدل ولو في النظرة بين هذه الكائنات المتآخية منذ زمن بعيد والتي لا تعير بالا إلى ألوانها ولا إلى نظرتي إليها تلك النظرة العنصرية الفاقعة وانحيازي الواضح على الرغم من أنني كأيٍ من سكان هذه الأصقاع أسمرُ اللون ميّالٌ إلى الدُكنة كما خلقني الله وكما فعلَ ذلك مع الحمير السود، شعرتُ أنني بنظرتي هذه وميلي إلى الحمير البيض قد أؤسس لفتنة بين هذه المخلوقات التي عاشت طويلا غيرَ منتبهةٍ إلى ألوانها وهكذا وجدتني أتأمل ما يجري هناك فاكتشفت أن كل هذه الحمير بيضَها وسودَها تعودُ جميعاً إلى مالكٍ واحدٍ أثارَ انتباهي بسلوكهِ المشين وتعسّفهِ مع حميرهِ السود إذ كان واضحَ الإعتناءِ بحميرهِ البيض لا يُكلفها بأعمالٍ كثيرةٍ بل يجعل ذلك من نصيبِ الحميرِ السود حتى أنني لاحظتُ أنّ نهيقَ الأبيض منها يخلو من رنّةِ الشكوى ويميلُ إلى الصلفِ قليلاً وكأنه يصرخُ بوجهِ أخيهِ الأسوَد بينما كانتِ الحميرُ السودُ تمارس نهيقَها محملاً بأنينٍ وآهاتٍ وكدتُ أسمعُها تبكي لولا أنّ ذلك لا تفعلهُ الحمير كما يتقنه البشر والأمرُ الآخر أن صاحبها يحرص على أن تكون معالف حميره البيض ممتلئةً بالتبن وبكثيرٍ مما تأكله الحميرُ عادةً بينما معالف الحمير السود لا تحوي شيئا يُذكر إلا قليلاً من قشور البطيخ، كانتْ بين يدي روايةُ سد هارتا لهسّة الألماني وكان الجوُّ مشبعاً بروائحِها الهنديةِ عندما خفقَ قلبي بشدة ثم تهاوى جسدي النحيل إلى الأرض وكمن يُفيق من غيبوبةٍ في داخلِ حلمٍ كنتُ أرى جسدي ممدداً على الأرض الإسمنتية وبعضَ الناسِ من حول جسدي المُسجّى ثم غبتُ في بعدٍ لولبي لا قرارَ له حتى لفظني كما في الأفلام الماورائية في مكانٍ ما من زريبةِ الحمير التي كنت أتأملها قبل خفقان قلبي وطيراني اللولبي، وجدتني أتسمّعُ إلى من يكلمني من وراء غواش، وكان يقول: الخطأُ محتملٌ أيها السيد وإن الأمورَ تجري بحسب ِقاعدةِ جَلَّ من لا يُخطئ وما نحنُ إلا مخلوقاته ويجوز علينا الخطأ، على كل حال لم تكن أنت المقصود بقبض روحك وراح يقول لرفيقه لقد تأخرنا يا صاح ، لم يعد جسدُه يصلحُ لروحهِ، ثم أدار عينيه في زريبة الحمير قائلا ما أمامنا إلا أنْ نودعَهُ في جسدِ هذا الحمار الأسود المحتضر ولما أفقتُ حماراً ذا لونٍ أسودَ كان صاحبُ الزريبة قد أكملَ ربطَ ساقي بحبلٍ إلى عربةٍ يجرّها حمارٌ أبيض لغرض إلقائي إلى قارعة الطريق الذاهبِ إلى البرّيّة، كان فكايَ طويلين ولساني ثقيلاً لا يصلح للكلام لكنني زفرتُ وشهقتُ ورفستُ الأرضَ ثم استويتُ على قوائمَ أربعٍ مكتشفاً لأولِ مرّةٍ أنّ أولئك الذين كلموني من وراء غواشٍ قد فعلوا بي ذلك مضطرّين وأقنعتُ نفسي المعبأةَ بجسد حمار أن ذلك أفضل من أن أتعفن في قبر، في اللحظة تلكَ عرفتُ كم انني كنتُ ظالماً بانحيازي إلى إخوتي البيض والآن علي أن أقنع إخوتي من حمير الزريبة السود بالثورة على ظلم القوي ذلك الذي لا يتوخَى العدلَ بسلوكه بيننا وبين إخوتنا البيض، الحقيقة أنني كنت متحمسا لقضايا الحمير السود بما أملك من روحٍ ثوريةٍ سابقة الأمر الذي لم أكنه يومَ كنت أطل عليها من نافذة غرفتي بيد أن الحمير السود بدت حميراً فقطْ وكما عهدتها دائماً لا تتعاطف مع مشروع مقاومة الظلم الواقع عليها ووجدتني حمارا ثوريا وحيدا بين حميرٍ اعتادت بؤسها وأدمنته إلى حد اللعنةِ وهكذا كان علي أن أواصل ما تبقى لي






من حياة بجسد الحمار الأسود متذكراً الأيام الخوالي التي قضيتها متأملاً من غرفتي المطلةِ على زريبة الحمير ومتمنياً أن يُطل على الزريبة أحدٌ ما ليراني كما أنا حماراً من بين حميرٍ كثر[1].


[1] للوكيوس أبوليوس ..رواية يقال إنها أولّ الروايات ..(ولد في حوالي عام 125 قبل الميلاد، في مدينة مادور، والتي يطلق عليها اليوم مداوروش في ولاية سوق أهراس، الجزائر- ويكيبيديا)....( وُيطلق على الرواية أيضًا الحمار الذهبي. وقد كتبت في 11 جزءًا، بأسلوب طغى عليه التعقيد والمحسنات اللفظية. وتتعرّض لمغامرات شاب يُدْعَى لوسيوس، شاءت الصدف أن يُمسخ حمارًا. فصار يتنقَّل من مكان إلى مكان، وهو يُمعْن النظر في غباء البشر وقسوتهم. وأخيرًا تنجح الإلهة المصرية إيزيس في إعادته إلى هيئته البشرية- ويكيبيديا)...تذكّرتُ الروايةَ وأنا أقرأ هذا النص الرشيق الذي حازَ جماليةً أكثرَ باعتماده الخيالَ جسرًا لتجسيدِ الهيمنة والعبودية اللتين تزخرُ بهما المرحلة ....هو نصّ يتجاوز بعنصري البياض والسواد إقرارَ العنصرية إلى كلّ ما يمثّل انهيارًا للعلائق المذهبية ..وإلى هذا التشتتِ والاغتراب ..تشتتِ الواقع واغتراب النّاص .... بوعبدالله فلاح-ناقد وشاعر –الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى