باسم سليمان - المسافر

مازلتُ في مقعدي منتظراً امتلاء الباص. تجلسُ إلى جانبي أنثى، فأفسّر رائحة الدرّاق التي نضجتْ في صيف ذاكرتي.

(استدارة إلى الخلف ومن ثمّ تقول: أغادر؛ لأنّي فعلُ مغادرة!)

عبر إحساس دائري، بعيداً عما تعطيك الزوايا من ضبط للشعور، ترتد نحو المركز لتصبح ذاتكَ، المحصورة بين قوسين، جاهزة لتنال منك الاستدارات؛ بدءاً من رحم، قصيرة إقامتكَ فيه، ومن ثم ثدي تستبدله بإصبع، تُضرب لأجله بعض الكفوف، مروراً بسيجارة تشربها خفية؛ لكي تبقى صغيراً في حضرة أبيكَ، وكرة تركض خلفها وتجري معها لتدوسكَ الكرة الأرضية بعدها.

(مؤخرتها التي رسمتُ عليها القارات ثم لملمتها بشفتي قيصر توِجَ للتوّ سيداً للعالم) استدارة إلى لأمام، إلى الوراء، إلى اليمين، إلى اليسار. سر، قف، راوح مكانك، كم تملك الأنثى من حرية في تقديم الاستدارات؟ بطنٌ، فظهرٌ، في حين أنتَ تعطي استدارة واحدة نافخاً بطنها فقط وهي تنفخ فيكَ رأسكَ، قلبكَ، عضوكَ.

اهتزّ الباص، نظرتُ نحوها، مسحتها من الأعلى إلى الأسفل، رجعتُ إلى الذي أنا فيه، فما الذي أنا عليه؟ الكرسي، قدمي، السرير، جسدها، أو أكثر من ذلك ومن الذي خطر في بالي يوماً كأن أتخيلها فوقي على سبيل المثال! هل سهوتُ عن ذلكَ أو سهونا؟ لربما تقصّدنا ذلك مهملين بعضاً من الذي رفضناه في متحف لاشعورنا، فلو ناقشنا ذلك قليلاً؛ لاكتشفنا أنّه لم ننجز شيئاً، مما نظّرنا فيه على طاولات المقاهي. كنا متقابلين ، وجهاً لوجهٍ، جنباً لجنب، مفوضين يدينا بكل الصلاحيات، لاختصار هذا الجسد المتهالك، ليتعرى في غرفة، عملتُ جاهداً على تدبيرها.

اعترفتُ بحبي لها في اللقاء الثاني، لكنّها تأخرتْ كثيراً لتلفظ تلك الكلمة، مع أنّي أشكُ في قولها لهذه الكلمة، على الرغم من أنها قبلتْ جسدي فوقها مبكراً. همستْ لي يوماً: تستطيع بكل تأكيد، تنظيف هذا الجسد، ولكن نادراً ما تستطيع التخلّص من كلمة تفوهت بها.

لم ترض لجملها أو كلماتها إلا التوازي، ولنقم ما شئنا من الجسور والتقاطعات. ألوانها حقيقة وليست انكساراً للضوء، فأحمر عذريتها نبيذي، وبياضها لا يتضمّن غير السواد.

تغلق سماعة الهاتف قبلي، معلّلة ذلك بكرهها لصوت "التون" المتقطّع، فلو كان قلبي يدقُ دقة مستمرة ولا يسقط عضوي باهتزازات متتالية لما كانت انهارتْ قبلي وتركتْ أنفاسي تلفح وجهها.

ألهذا غادرتْ؟ أم أن الكلام يبقى كلاماً!

لو أنّ الحياة جملة واحدة وكفى. أنظر إليها، والشاي فاض من كأسي.

***

يرتفع صدرٌ ويهبط. يعلو الباص ويسفل بسبب تعرجات الطريق، أما أنا، فأرتقي ذكريات وأنحدر مع نسيان دائم، قاد نعاساً، يهمسُ بصوت قديم: لا تستطيع المقارنة بين طاولة وغرفة.

لقد عارضتني كثيراً عندما أبدلتُ الغرفة بأخرى، إلا أنها نسختْ أثاث الغرفة السابقة -كملاحظة اعتراض دائمة على ما فعلت-كما كانت في الغرفة السابقة، إلا الشباك الذي تمنّع واتجه نحو الشمال، فعلقتْ على الحائط الجنوبي لوحة لنورس اجتاح الأفق بجناحيه، لم أفهم تماماً ارتباطها بغرفة لقائنا الأولى، وهي لم تعطِ تفسيراً، ولم تسمح لي بأن أحلّ هذا الارتباط إلى خيطه الأخير، مع معرفتي أنها كانت تعاقبني بصمتها.

إلى أي درجة تتمسّك المرأة بالمكان؟ أدركتُ ذلك عندما رقصتْ عارية وسط الغرفة وكأنها تعمّدها.

باحتْ بقبولها الغرفة الجديدة، وأنا أدخن السيجارة الثالثة بعد أن ذبل عضوي، انتزعتْ سيجارة وخرجتْ، إنها لآخر الليل عندما تفرغ مثانتها كما اعتادتْ أن تفرغ العالم من معالمه وتشكّله كجديلة لفتاة لم تأتِها عادتها الشهرية بعد. صرختْ يوماً في وجهي: إن هذه الدماء، صوت الجرح المستمر؛ لهذا الخلق المنكوس دوماً نحو السماء.

****

الاهتزاز المتواتر، المقطوع بعددٍ من المطبات والحفر، وضربات الفرام، دفعني لأقول: آه، أي سرير كنّا ركبناه؟ لو كان الأمر هكذا! عندما استقبلتني بأرقام ميلادها الأربعة. تسلّل النوم إليها، أرختْ رأسها ولو قليلاً على كتفي. فتشممت رائحة الدراق الممزوجة مع إيقاع الأنفاس نفسها وهي نائمة على صدري.

يرتجّ الباص نتيجة دخوله في حفرة، فتعدّل وضعها، تشكّل صمتها من جديد، لابدّ أنها أجالتْ نظرها عليَ من زاوية عينيها، تحركتُ قليلاً، لعب الهواء بستارة عينيها.

رياح .... من أين؟

من ناحيتها، تداعب شعرها، فيلسع وجهي، أغلقتُ النافذة الشمالية وفتحت الجنوبية، .... هدأ شعرها.

(أنا من قطعتُ تذاكر السفر، راقبتني من بعيد، لم يكن لها ظلّ، ولربما ظل ّخفيف لكثرة الإضاءة الليلية.)

نائمة على كتفي ككتاب يضطجع على صدر صاحبه بعد أن غلبه النعاس. أطوقها بيدي، فتتجه نحوي بوضعية جنينية، تهمس بأذني، أتشهّى السمك، أنا حامل من ذكر السمكة الحمراء في الحوض الدائري في غرفتكَ الجديدة، سأنجب حورية ولن تبيع صوتها بقدمين.

- سأبيع كل شيء من أجل ذيل سمكة.

- سأصطادكَ من عيون البحارة، سأرمي شباكي في تفاصيل الأزرق وسأضعك في الحوض الدائري في غرفتنا.

- سأتزوجكِ على جرف شط عال ونقفز إلى البحر.

أزيحُ ستارة وجهها، أصمتُ شفتيها، أقيسُ مسافة عنقها، واستدارة نهديها، فيتضخمان كبالوني عيد ميلادها، ويرتفعان في فراغ الباص، تعلوهما صدارتها، أتسلق، أجلس على قمة حلمة نهدها الأيمن، وأرقب العالم من فوق، يمتدّ سهل بطنها نحو الأسفل، أتدحرج كقلم حمرتها من حقيبتها، راسماً خطاً أحمر على طول المنحدر، أعود صغيراً، طفلاً في الرابعة لربما أصغر، لم يعد لي زمن، ليس من جسد، ولكن لي كلّ المفروض، لأتوغل قدماً، بين الحين والحين أنظر إلى ...؛ لأرى عينيها تبرقان بحنان وصمت يهمس: امضِ.

********

سائلٌ أحمرٌ خضَب يديَ، فضضتُ عذريتها بجسدي كاملاً، إنّه ولوج كامل.

ينوس الضوء من خلفي، لتضمّني عتمة دافئة، أتلمس الدرب عبر دقات قلبها المتسارعة، ليسود بعدها صمت طويل.

الريح باردة، وصوت سيارة إسعاف يرسم شفاه الصمت، مازالت بقربي نائمة، مازلتُ في داخلها غافياً، أقف قريباً من قبرها، تهتزّ أنصال العشب الصغير بتواتر اهتزاز باص بضوء أزرق داخلي.

التذكرتان تلعب بهما الريح، تفلتُ أحدهما، فتطير، لا أحرك ساكناً، أتابع عمال الشحن وهم يرحلون الحمولة عن الرصيف المقابل.

التفتُ إلى فتاة الدرّاق بجانبي، الثلج ينهمر خارجاً، أمسح الزجاج و...




***


فيروز:( أنا عندي حنين وما بعرف لمين)

لماذا تلك المواربة؟ لكل ٍ منّا حنينه ويعرف لمن؟ هذا الحنين الذي يركض خلفكَ، أمامكَ، ويتلطّى بين قدميكَ ككلب وفيّ.

هربتُ مراراً، وتكراراً، لكن في النهاية، أسلمتُ نفسي إلى سجاني، وكلّ يوم مشمس أجمع غسيله النظيف جداً وأغسله بالملح وعلى ضوء الشباك وفيروز (يومية بيخطفني من بين السهرانين) أتلمّس آثارها، بصمة إبهامها الأيسر لقلبي، ورسم كفيها على ظهري لضمة طالتْ كنهر، فيما سبابتها تقاطع شفتي من أجل صمت في حضرة الحب وقبضة كاملة انتزعت عضوي ثم وضعته في مزهرية مع وردة وحيدة يابسة في ضوء الشباك.

***

رائحة الدراق تفوح كرائحة الكحول في المشفى.

***

الشريط الأحمر لهديتي، المعقود كأذني أرنب يعلو ويهبط مع صفارة متقطعة لشرطي السير، فكّتْه كجديلتها، لتلقيها في مساحة أنبوبة الإنعاش.

على السطح المقابل تُوجد امرأة منشورة على حبل، بينما انسحبتْ من الرؤيا، كما اعتادتْ أن أنزع صدارتها، فتخرج منها كسوار من ساعد.

تحتاج الذكريات لدفتر ينبض جلده بالمفارق، وطاولات المقاهي، والانتظارات، والقبلات اللاهثة لراكضي المسافات الطويلة.

صفارة الشرطي تأخذ منحى مستمراً كما الطريق إلى غرفتي آخر الزقاق.

فتاة الدراق قربي، تضع سماعة "الوكمان" على أذنيها وكأني بفيروز (بصير يوديني لبعيد يوديني وما بعرف لمين وما بعرف لمين)

الممرضة تضع السماعة على صدرها تستمع لنبض عميق ...

تقرع لمرة واحدة بعد أن تكون اجتازت شارعاً ماطراً، لتمضي إليّ.

دائرة الماء تتسع حول قدميها كهالة القديسين!

- كم أحبكِ مبّللة!

تطلب الممرضة منّي الخروج، يختفي انعكاسي من زجاج الباص، فيغدو صوت فيروز بعيداً، يخرج معها من الباب الموارب بعد أن تلصق قبلة على جبيني وتكتب عنواناً آخر.

***

لم أكن قريباً لأحد كأميّ، وأمي تقول: عندما ينضج الدرّاق تمتلئ السماء بالبثور وتكحّل-بدلاً من عينيها-شاربي وتتمتم: الكحل خير من العمى.

العمى هو ظهور معالم الرجولة وامتلاك حق الابتعاد، أما جدتي فتقول: الشبّ بلا سيجارة مثل البنت بلا إسواره.

ابتعدتُ وحلقتُ شاربي ودخنتُ كثيراً، وبدلاً من الأسوارة، أهديتها خلخالاً، استرخى كالظهيرة فوق كاحلها الأيمن.

وضعتُ الوردة اليابسة قرب قبرها على ضوء السماء.

- أحبك َأن تنتظرني، هكذا أشعر بالأمان.

رغم أن دفتر الذكريات كانت تكتبه في الغرفة، كانت تكتب عندما أغرق في النوم، لمْ أطلع عليه حتى في غيابها وكأني أريد أن أترك عذرية ما، لم أفضها.

تكتب بقلم الرصاص ذي الممحاة الحمراء في رأسه.

(الأقلام تكتب بأقدامها)

تبري قلمها بمبراة قلم الكحلة وتجمع البقية في حوض زجاج، امتلأ ربعه بعد أن أنهت الدزينة الثانية من الأقلام التي أهديتها إياها.

***

أمسح لهاث حرارتي عن الزجاج و...

***

قلم الرصاص، قلم يغفر، قلم بريء، قلم للطفولة؛ لتتعلّم ارتكاب الأخطاء بدون حساب. ممحاته الحمراء، حلمة الطمأنينة، الحلوى التي كنتُ آكلها خفْيةً عن أمي؛ لذلك أحذر العودة إلى طفولتي عندما تُلقمي نهدكِ لفمي.

تحوّلت إلى القلم الأزرق بعد قسم بالكحل، وثبات خطِّي. وداعاً لطفولة أمارسها في حصّة الرسم، وعلى مسوداتي، ولكن نهايتها، سلّة المهملات.

- هل كان دفتر ذكرياتكِ مسودة؟

قلم الرصاص، قلمٌ يملكُ غفرانَه بممحاته.

قلم الحبر يحتاج إلى كفارة تدور بين الشّطب واستخدام الماحي الأبيض وتمزيق الصفحة و"جعلكتها" ورميها في سلّة المهملات.

القلم الأزرق يؤثّر في المكان، قلم ينتمي للبحر والسماء.

إنّه قلم الرُّشد حيث يبدأ ميزانك بالعمل وكفتاه بالغمز.

قلم الرصاص قلم ينتمي للرّمل.

لو تُكتب حياتي بقلم الرصاص، فأمحو الأثر، وأعيد الكتابة فوق ما محي. قلم الرصاص آلة للزمن للعودة إلى الماضي، لأمحو يوم ألصقتِ طابعاً على جبيني وأرسلتني لعنوان آخر.

*****

- الحاضر ظلال ذكريات.

في محاولة لإيجاد نوع من العلاقة الودّية بيني وبين القلم الأزرق، بدأت أشْكله في جيب القميص ولأنه قلمُ، سكين، كنت أستحضر الضمادات، الماسح الأبيض، لأخيط جروحه ولكنّها كندب الجروح تختفي من وجهك عندما يعتادها الآخرون.

- لماذا لمْ أحبكِ في زمن قلم الرصاص؟

الورقة البيضاء، لحظة في الزمان. المكان كقطرة مطر تشظّت على كفّ تبتهل، أمّا جسدكِ المنداح في الأبعاد، فكان الورقة الدائمة ولأن قلم الرصاص لطفولة لم التق ِبك فيها، فلم يخطّ على جسدك، كان لزاماً عليّ أن أكتب كما في حياتي بالقلم الأزرق، فهو الورقة الدائمة.

على بطنكِ خططتها (أحبك) بعد أن زرعتُ شجرة نخيل في سرتك.

أرتجلُ الشعر؟ وأخطه على صدركِ، بطنك، فخذيك، ساقيك، أصابعك، حلمة نهديكِ أكتب باستعجال، أتكلّم بصوت عالٍ، فيما أنت تقهقهين ضاحكة.

- أنا المنبر الوحيد الذي تلقي عنه أشعاركَ. ثم تمتصين صوتي بقبلة تجعل خطي يعلو ويهبط.

- جسدكِ لا يحتاج للماسح الأبيض؛ ليتخلص من جنابة قلمي الأزرق.

*****

أوشكتُ على الوصول، أخرجتُ دفتر مذكراتكِ من حقيبتي، تأملته مع شظايا حوض الزجاج المنكسر وبقية أقلام الرصاص المتناثرة كالياسمين في الزقاق المؤدي إلى الغرفة.

- إنه لكِ كاملاً.

استدرتُ إلى فتاة الدراق وبعينين مقنعتين كالموت: هذا لكِ

أنزل من الباص وصوت فيروز (ما بعرف لمين ما بعرف لمين)


**********************

طفلنا الذي أنجبناه بغفلة من رحمِكِ. لماذا لمْ تنازعيني على مستقبله أم أنك اكتفيت بالماضي منه، لكي تنجزي حاضر الهروب، غاسلة جسدكِ بالصمت وروحكِ ببرزخ الشعر.

هل خفتِ على جسدكِ الممشوق كحورة أن يصبح كدالية تخاف إثم عنبها، أو أن يمتلئ بطنك بالوقت، أو أن يلدغ وحام الدقائق والشهوة إلى عقرب الثواني خطواتكِ المنسابة كشعرك الذي انتهيتِ من تسريحه، فيثبّته بيده، فلا تلعب به رياح الرحيل، أم الخوف على ثدييك من أن ينتفخا باللقاء، فلا تناسبهما بلوزتك الضيقة كبسفور الانتظار بين قارتين.

على الرغم من كل الأسئلة التي من المفترض أن تُحمىَ من أجوبة، لن تسألي أسئلتَها، ومع طمأنينة الشمع المشتعل بعيداً عن تيار الهواء، أطفأتِ الغرفة وراءكِ وأغلقتِ الباب طويلاً، مختصرة المكان إلى خط يمتد إلى الأمام، لأقاطعه بأربع طقات للقفل وأسحب المفتاح للمرة الأخيرة وأنتِ الآن لستِ سمائي، فأستظل بأرضي!

******

ليكن معلوماً لكِ، هو طفل كالفأر، يعترف أن الحياة فتات، فلا ترين من حضوره إلا ذيل طائرة الورق بعد أن انقطع خيطها في غابة الغيم، حيث تسكن بياض الثلج وألوانها السبعة. إنّه لص يشبه الموعد المزعوم، كثيراً ما يسرق انتباهي وهو يتعمّق على الحائط ليحاكي ورقة أسقطها في سلة المهملات.

****

لم أطلق عليه اسماً! فأنتِ لن تندهي عليه، ومَنْ غيرُ الأم جدير بأن ينده على طفلها، ولكن قليلاً ما تلفظ الأم اسم ابنها، فهي بذلك تجعل له قرينة من الجان تحميه من كيد النساء.

والآن طفلنا لن تكون له قرينة ولا ثدي أنثى سيقبله ويُسمع نسبَه إلى نهد، مادام نهدك قد أنكره وتركه نهباً للحليب الصناعي.

عندما عدتُ إلى البيت طلبتُ من أميّ، أن تناديني باسمي وبشكل دائم، ابتسمتْ أمي: الولد يريد عروساً! أمي تعدّ لي زوادة كاملة للحياة.

*****

هل تقبل أن تنزل على ضرّة؟ أترضعه؟ وتغير له حفاظه، وتصحو ليلاً لأجله، لربما! لن تعدل بينه وبين ابنها وسيصدمها رجل يتأبط طفلاً يناديه: ماما!

كنتُ واثقاً من موافقتكِ -تريدين هروباً كاملاً- لتكنْ أنثى أخرى، ورأيتِ ذلك حسناً ومن وقتها صارتْ قرابيني بلا أسماء.

منذ سلّمتُ العجوز قاطع التذاكر مفتاح الغرفة (حيث كنّا نتهالك من يلفظ أنفاسه أولاً) قال: للمحطات أخطاؤها، فودّعته.

رفضتُ شراء تذاكر السفر، أسافر بمصادفة التقاء الأماكن، كنتُ خائفاً من الحقائب الجديدة.

إنّه يكبر ويرسم خطوطاً كثيرة على جدران غرفتي، أستيقظ في الصباح لأجد شاربي قد نما، فهو يحب تزيينه بالكحل - ماما تضع الكحل- نلعب لعبة الغميضة، أخسر بشكل مريع، فهو يعرف غرفتي ويناديها، فتجيبه زوايا جديدة للاختباء.

سأل مراتٍ عديدة عليّ في غيابكِ.

- أمكَ تأتي مع المطر ومن وقتها بقي مبتلاً.

كنتُ أشعر به عندما يتكاثف الضباب من حولي، فأستدير نحوه وأحضنه، فأعبّ من دخان سيجارتنا الأخيرة بعد أن تلصقي فمي بفمك، وتزفري نفساً طويلاً.

*****

نزعتُ الأرقام من حياتي، هما يومان ما أعيشه؛ الأول هو البارحة حيث غادرتِ، الآخر اليوم الذي سوف يمتدّ.

كنتُ أعمر منكِ بسنوات ولكن سوف أغادر بعدكِ بيوم واحد.

أمي تقول: إني ممسوس، رغم شهادتها، بأني أعقل وأهدأ الرجال في عائلتها!

لم أمسس الحجابات التي علقتْ بقمصاني الداخلية ولم أعترض على التبخيرات التي تدور حول رأسي كل صباح مع أدعية حفظتها، عدا عن ذلك، فرائحة البخور كحضور تأملك في حوض الزجاج بعد أن تضعي نثرة من علكة البخور على مقدمة السيجارة وتشعليها.

يجب أن نشعل البخور لروح جميع الاستعادات. أنظف في آخر الليل مقبرة الدخان في سلة المهملات بعد أن تكوني غادرتِ ورميتِ وراءكِ وردة ذابلة. في الصباح أغلق الباب ألتقط الوردة وأهديها إلى سياج، قطفتُ لكِ الورد منه مراراً.

طفلنا يسأل عن معنى كلمة ليل. إنه يريد أجوبة كثيرة وأنا لا أملك رداً إلا "أنك رحلتِ".

******

في كتاب ما، قرأتُ سطراً؛ أنّه يلزم لتحضير روح شخص، أنْ تجيد رسمه، كان السطر قد توسط صفحة خالية إلا منه، لو يكون الرسم بالأذن؛ لكان أفضل، فيدي كما اعتادتْ لا تجيد غير الامتداد إليك.

لم أستخدم نظري إلا للتحديق بعدما تخللت صورتك الأشياء.

خطوطي ضعيفة ... "ولكنّك تملك لوناً أكثر من كل من عرفتهم" تقول من تعلمني الرسم. ماذا تفيد هذه المفاضلة وأنا أخفق بتزجيج حاجبك الأيمن، فيما يصرّ ابننا أن أرسم رمشك، فهو يريد أن يضع الكحل عليه. أخيراً توقّف عن السؤال عن الليل، فهو موجود على رموشك كما الأفق موجود على الجبال شرقاً وغرباً، فيغمره البحر حتى سرته التي قُطع حبلها عندما أغلقتِ الباب وأدرتِ المفتاح أربع دورات ولففتِ سرته بالشال الذي أدفئ رأسي به في مشي آخر الليل، خفتِ عليّ من البرد، فحوطت رقبتكِ بالشال.

قبعة الصوف تغمر رأسه تماماً؛ "هكذا لن تبرد" وشالكِ ستلعب به الريح وأنا أخطو خارج الزقاق المؤدي إلى غرفتنا.

ما زال وجهكِ عصياً على الرسم، مدرسة الرسم يبدو أنها لا تعارض وجودي وتلصصي على رجلها النافر من اللوحة وهي تحلق له ذقنه، فيما تبلل الفرشاة بالماء، فيترك بعضاً من ريقه على حلمتها، تبعده، فيمتد خيط من الرضاب كجسر ما بين شفته ونهدها.

أسنانه بدأت بالظهور، فيرطب وجهي بلعابه؛ ومن ثم يمسحه بكلمة بابا.

إني لا أجيد الرسمن ولا رغبة لي بزقاق آخر، ولكن حصلت على صداقة مدرّسة الرسم.

مع اللون بقيتُ التلميذ ومع الامتداد كنتُ الأستاذ. معكِ كانت الكلمة طاولتنا، نحتسي قهوتنا ونكتب في مساحات البياض في الفنجان، ولكن اللون يستر ويخفي ما ورائه، في حين الكلمة كالدانتيلا تشي دوماً بغريزة أساسية للاقتحام، لربما يصحّ القلم للولوج والريشة للعادة السرية، لذلك ظلتْ العلاقة مع مدرّسة الرسم تنوس بين اللون الأزرق وعمقه والرجل المُلقف ثدييها في اللوحة، على الرغم من التواطؤ الذي لا نعترف به. أنا والمدرّسة نرقص رقصة الثور ومصارعه.

*****

لا فائدة من الرسم لاستحضار من هو موجود، فعادة ترسم الصور للموتى ليلحدوا مرتين.

- ستمطر - صاح ابننا-: ماما قادمة، امتلأت سلة المهملات بالورق.

أعود لأجده ملطخاً بالألوان، فيما ظلّه قد تخلّلته فجوات من نور كظلّ عريشة، أظنّه تعلّق بمدرّسة الرسم، فقد تكاثرت لوحاتها.

إنه يعرف الألوان ويردّد اسم مدرّسة الرسم، ولكنه يسميني "ميمتي" وبكى في المرة الأولى التي سمع أمي تنده عليّ باسمي بعد طلبي منها ذلك.

- "لم أفهمّ!" ولكن كنت أرى بعينيه زقاقاً آخر.

على طاولة ما، كانت مدرّسة الرسم تسرد اللون الأزرق، ومن ثم بدأ الرمل يتسرب من عيني اليسرى إلى عيني اليمنى.

تقدّم نحوي وبيده زورق من الورق كنت قد رميته في سلة المهملات، وأشار إلى حوض السمك، حيث عينها قد عتّقتْ عيني بلون يشبه طحلباً بحرياً، صبغت يديها به وأخذتْ ترسم دوائر خمساً حول سرّتها. مصتْ إبهامي، كما يفعل بإبهامه، ثم رسمتْ قطراً يصل بين الدوائر الخمس وانسحبت من حلقة الرقص.

كنت أعتقد أن التساوي بعدد أحرف الأسماء لا بدّ أن يؤكّد قدراً ما، وهذا ما فعلناه، وجها لوجه.

- ليطلق كل منا كلمته الحاسمة.

قلتها لكِ مسمياً مشاعري، مردياً قلبكِ الذي تسرب منه الضغط، فبدأ يخفق كالستارة بوجه النافذة المفتوحة.

الرياح المتقلّبة لا تخدم ربان السفينة، إذاً، لتبق ستارتكِ هادئة، هذا ما قلتُه لمدرّسة الرسم.

رجعتُ، تعلّق برقبتي:"ميمتي"، وأشار لورقة على الطاولة، وهمس، هذا اسمي من ثلاث أحرف.

- من ناداك؟

- اللون!



*********************


يمصّ سبابته عوضاً عن إبهامه. تلك السبابة التي مسحتْ الكلام عن شفتيكِ لقبلة نظيفة، وتأكدتْ من انتفاخ حلمتكِ بزهرة الثلج في استراحة الشتاء عندما الشمس تميل كراقصة أخذها إيقاعٌ جنوبيٌ.

ينام فارداً جسده، فتبدو يده كغليون بحار يتعاطى رياح الملح في قهوته، مراقباً نورساً كرقاص ساعة، في حين أنام بوضع جنيني على طاولتي، أمص قلم الحبر الناشف، وكثيراً ما أكسر عقبه، وأترك البقية كقطعة تبغ سوداء، لا ألبث أن أبصقها في سلة المهملات.

يسألني عمّ أكتب عندما يستيقظ ليشرب أو ليقضي حاجته، فأجيب وأنا خجلٌ من الصفحة البيضاء: أكتبُ قصة؟

يرد بفتور: كالقصص التي تحكيها لي قبل النوم.

- لا، إنها قصص للكبار.

- متى يقرؤونها؟ هل تكتب قصصاً لأمي أيضا؟

.....................

أحمله إلى السرير وأشعل سيجارة، أفتح النافذة قليلاً، المطر في الخارج يسقط بهدوء، كنتِ تحبين هذا المطر.

إنّه كاللص، لا تشعر به إلا وقد وصل إلى جيب السترة الداخلي ولكنكِ لا تحتاطين بمظلّة أمانٍ منه، تحبين التناسب بين ما مشيناه تحت أنامله ومقدار البلل الذي أكسبكِ إياه، هكذا كنت تحددين عدد كؤوس النبيذ وكيف ستلوذين بصدري باحثة عن دفء. للحقيقة كنت تائهاً لولاه، إذ من غير طريقته الربيعية في القفز في برك الماء التي تصادفنا عبر الطريق الذي يزنّر القرية شرقاً كان الدم في عروقي سيتجمد كقرون الجليد التي كانت تتدلّى من شباك الغرفة.

الآن أفهم هذا العجوز: دع العصافير تشرب –معلقاً-على كلامي: إن الخزان يسرّب الماء.

تعدّين القهوة وتنتظرين شمساً، ليبدأ عداد الماء بالتساقط، من أين لك هذا الجَلد؟ لتستيقظي مبكراً، في حين كنت أستعير مطرح نومكِ على الجانب الأيمن للسرير وأغطّ طويلاً بعدكِ في النوم، لاستيقظ على همسك: "أنا ذاهبة".

حدث مرةً وبعد أن أيقظني سعالكِ أنْ همستِ لي: المسافرون يستيقظون مبكراً. هذا ما خُيّل لي أني سمعتُه: لأن فيروز كانت تتصل بجدتها في كحلون.

يقفز سعيداً بانتشار قطرات الماء.

- بابا هل رأيت قوس قزح؟

...................

يملك قوس قزح قدرة على تحقيق الأمنيات لمن يعبر تحته، ابتسمتِ: "سأثبتُ هنا، اجرِ واعبر من تحته وعندما تمر، سأصرخ لكَ" ولكن ضجيج المدينة كان يخفي صوتكِ، فأعود خائباً.

في قريتي سوف ينجح الأمر، ولكنّي هنا الآن، أمّا أنت فلا! فأتذكر بديهيتكِ التي نقضتْ الفرض، مادامت الأمنية مرتبطة بنا، فيلزم مرورنا سوية ولكن من سوف ينده علينا؟! أنظر إليه وقد سبقني بمقدار ظلي، إنه هنا الآن، ولكن أين أنتِ؟

**********************

- كيف يموت الإنسان؟

رجفتُ كباص لم تنفعه مكابحه، ارتميتُ على الكرسي، لماذا لم انتبه إلى هذا السؤال الذي يختبئ في عينيه؟

جرحتُ وجهي بشفرة الحلاقة، سال الدم وردياً، كانتْ عيناك متسعتين وصامتتين فيما ترمقينني كتمثال المرأة التي تحمل خابية الماء وتمضي في الصخر.

- إنها تشتهيكَ.

لمْ نكن نرمِي الورود عندما تذبل، تحملينها وهناك حيث اعتادكِ السياج، تضعينها بخفّة بعد أن تتأكدي من أن صاحب الدار لن ينتبه.

- إنها تنمو بطريقة عشوائية لا أحد يهتم بها، المرأة العجوز تسكن وحدها، دعكِ من هذا!

- من قال لكَ ذلك، هكذا نَشعر أن المرأة العجوز مازالت قادرة على التلصص، فنعطيها حياة إلى أن يأتي يومٌ نحمل فيه هذا الورد إلى قبرها.

عيناه معلقة بي كشصّ صنارة اصطادت سمكة حمراء، أنظر إلى حوض السمك الفارغ، أتمتم كيف يموت الإنسان؟ كما تغلق كتاباً!

- تعال...

أمدُّ يدي إلى حرف الشباك، أتناول أصيصا و... : "احفرْ قليلاً هنا".

أخرج من الغرفة، أسأل أمي عن بعض حبات الحنطة، تتحوّل أمي إلى عصفور وتخفق عالياً.

الموت يعني بيتاً وحيداً ويداً افتقدتُ لمستها، وصدى لا يجيب غير صوتكَ. عدتُ إلى الغرفة كان الثلم الذي حفره، جميلاً كشفتيكِ: "خذْ، ضعْ قليلاً من الحبّ هنا".

وضع أربع حبات، وأمسك التراب بسبابته وإبهامه كمن يمسك قلماً، وأهاله بهدوء المطر الذي تحبينه ثم مسّده بباطن كفه.

يدكِ تنداح-كتمويجات بحيرة اُسقِط فيها حجر -على ظهري وأنا أصغي لدقات قلبكِ التي تتلاشى كنورس يجتاح الأفق.

- ضعْ قليلاً من الماء.

********************

السياج يخضرّ، ولن تمتدّ يدكِ كي تقطف زهرة الياسمين.

فيروز تنده يا طير ... عيناه متسعتان ... لون أخضر يتوسّط الأصيص

- ماما هناك على التلة...

جلسنا سوية على صخرة يمتد أمامها بساط أخضر كسماء مملوءة بالنجوم وقوس قزح يمرّ من فوقنا، همس بأذني: "ماما تستيقظ".

نظرتُ إلى الشرق، كانت الشمس تنهض عن التلال، أصبحتُ أستيقظ مبكراً

همستُ له:

- "وأمي أيضاً".

10\6\2007


من المجموعة القصصية : تمامًا قبلة - 2009 - دار كيوان
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى