يوسف زيدان - بلدة المجد التليدة

الأرق قاسٍ، وستكون هذه الليلة طويلة.. أعرف ذلك وأتوقعه، وقد يعين التوقع لأمر ما على احتماله حتى يمر بسلام! كل شىء يمر بسلام ويسر، أو بمعاناة وعسر، لكنه فى كل الأحوال سوف يمر وينقضى، لأن الإنسان نفسه محكوم عليه بالمرور والانقضاء، فإذا استدام حال وطال أمده فلم يتبدل، مثلما يحدث هنا منذ زمن، عانى منه الواحد من الناس حيناً ثم مات عنه واستراح منه، كما ارتاح أبى وأبوه من قبله بعدما أمضيا حياتهما فى معاناة طويلة من تلك «الخرابة» التى خلف بيتنا، وكانت مساحتها قبل أن تتسع على هذا النحو صغيرة.. الصغير يكبر، والكبير يموت.

مقالات متعلقة

ومازالت الدراسة والخسارة مستمرَّتين

ليس تعليماً ولا فنياً

البلدة التى نسكنها، اسمها اليوم «المأوى»، وكانت سابقاً تسمى «المجد»، وهى تقع عند طرف الضفة الشرقية من وادى النيل، حيث تلتقى الأرض المزروعة الخضراء بالصحراء الصفراء الممتدة حتى الجبل الشرقى، وحيث يلتقى الوادى الطويل بدلتاه، ويقال إن بلدتنا كانت فى الأزمنة الغابرة عامرة، وحين توحدت البلاد على يد الملك «نارمر» الممدوح باسم «مينا»، أى المؤسس، أقام هنا حامية كبيرة لتصد هجمات البدو القادمين من نواحى الجوع القاحلة.

وبيتى هذا الواقع عند الطرف الشرقى للبلدة الشرقية كان قصراً كبيراً، يسكنه أمير الناحية وقائد الحامية، ثم تقلص حجمه مع الأيام وتهدمت بعض جوانبه بسبب الزلازل، فصارت مساحته ضئيلة وامتدت من خلفه «الخرابة» التى تتسع كل يوم وتلحق بها خرائب أخرى، بسبب هجران الناس لبيوتهم القريبة منها والمحتفة بها.. فى طفولتى كنت أسمع من أمى حكايات كثيرات عن العفاريت التى تسكن الخرابة، فأتخيلها عند هجوعى، فتطرد عنى النوم. وذات ليلة، وكنت آنذاك فى الثانية عشرة من عمرى، دهانى داهٍ دفعنى لترك سريرى والتسلل إلى سطح البيت. كنت كالمندوه مسلوب الإرادة. وفى قلب الليل وقفت وحدى أحدق فى ظلام الخرابة وجدرانها المهدمة، ولما استطال نظرى إلى هناك بعين الخوف والوجل، لمحت عفاريت تتزحَّف على الأرض وأخرى تنزلق إليها من جوانب الجدران، ثم تتصعد ثانية. أصخت السمع فوصل إلى أذنى هسيس احتكاك العفاريت بالحيطان المتشققة المتداعية إلى السقوط، وأطلت النظر بعين الرعب، فرأيت كل هذه الكائنات المخيفة تنظر نحوى بأعين حمراء ينقدح منها الشرر والرغبة فى الافتراس، فأدركت أنها تنوى التهامى وتأكدت من ذلك، عندما وجدتها تسرع نحوى، وتتسلق السور القصير الفاصل بين بيتنا والخرابة، صرخت كمن يوشك على الهلاك.

سمع أبى صرختى فأسرع إلىَّ من غرفته مهرولاً، ولحقت به أمى، فاحتضنانى بالأذرع الأربعة حتى خمد ارتجافى. كانت أمى تتلو تعاويذ تجلب إلى قلبى الاضطراب، ولم تصمت حتى نهرها أبى عما تفعل، فهدأت واستطعت الوقوف على ساقىّ بعدما كنت منهاراً.. نزل بى أبى الدرج، وأمى خلفنا، وفى غرفة الضيوف أجلسنى إلى جواره بعدما أضاء الأنوار كلها، فصيّر الليل كالنهار. سألنى عما أصعدنى فى جوف الليل إلى السطح، فقصصت عليه القصص، حتى كاد الرعب يعاودنى بسبب استعادتى ما كان قبل أن يدركنى أبى، لولا أنه أراح راحته الحانية على رأسى، فسكنت وتلاشت مخاوفى.

قال لى يومها إننى أتوهم ما أقول، فليس هناك عفاريت إلا فى خيالى، لكن الخيال يحاصر الإنسان بالأوهام فتغوص فيه وتبدو كأنها حقائق.. سألته مستغرباً: يعنى مفيش عفاريت فعلاً فى الخرابة؟ فقال واثقاً إنها لا توجد فى الخرابة ولا فى غيرها، هى فقط فى وهمى وخيالات خوفى.. قاطعته أمى بقولها: بس يا حاج العفاريت مذكورة فى القرآن!

نظر إليها بعتاب ممزوج بغيظ وغضب، فغضت نظرها كالمتأسفة المستسلمة الحيرى، فاكتفى بقوله لها، ربنا يسامحك.. وقال لى: تعال نام فى سريرنا، والصباح رباح. وفى ذاك الصباح الصيفى التالى أخذنى معه إلى السوق الأسبوعى، وفى طريق رجوعنا أجلسنى بالمقهى القديم وطلب لى العصير المعلب الذى كنت أحبه، فشربته مستمتعاً وشاعراً بأننى كبرت وصرت كالرجال أجلس بالمقهى. وهناك قال لى أبى برفق، إن البدو الذين كانوا قديماً يسكنون الصحراوات الشاسعة البعيدة عن بلدتنا، كانوا يتوهمون وجود كائنات لا تُرى فى النهار، منها الغول والعنقاء والجن والعفاريت. وكانوا من كثرة ما يحكون عن هذه الأوهام يصدقونها، لكنهم حين سكنوا المدن والبلدات الكبيرة انشغلوا عن تلك الحكايات وكفوا عن ترديد الخرافات، فاختفت، ولم يعد أحد يتحدث عن الغول أو العنقاء فانعدما، ولكن ظل بعضهم يذكر العفاريت ويتسلى بالحكى عنها، فيظن مع ذكرها أنها موجودة فعلاً.

قلت له إننى شعرت بها فى ليلتى السابقة كأنها قادمة نحوى لكى تلتهمنى! فسألنى إن كنت قد سمعت من قبل بأحد التهمته العفاريت، فنفيت، ثم استدركت بقولى إننى سمعت من أمى ومن غيرها عبارة «اللى يخاف من العفريت يطلع له».. ضحك بوقار ثم قال بأن المقصود من العبارة أن العفريت وَهْمٌ لا يظهر إلا لمن يعتقد بوجوده ويخاف منه، ولهذا لا يظهر العفريت لجمع من الناس، هو يظهر فقط فى وهم الخائف منه إذا انفرد، وازداد خوفه، فجعل الوهم الوهم كأنه حقيقة تُرى.. وأضاف أنه فى طفولته كان يتوهم تلك الأمور، حتى أفهمه جدى أنها خرافات، فاختفت. وأخبرنى أنه قبل زواجه بأمى كان كثيراً ما يختلى بنفسه فى الليل بالخرابة، وفى بعض الليلات كان ينام حتى الصباح على الدكة الخشبية التى بوسط الخرابة، هرباً من حر الصيف وازدحام البيت بأخواته الثلاث وإخوته الخمسة، خصوصاً أنه كان ينزعج كثيراً من شخير عمى «صفوان».. أصغر إخوته سناً.. وطيلة تلك السنوات لم ير أبى بالخرابة إلا الجدران، لأنه كان قد تحرر من أوهامه. بعد ذلك بأيام، سألت أبى عن أعمامى، فقال إنهم أثناء شبابهم استجابوا إلى تشجيع العمدة لهم بالسفر، وانخدعوا بالأمانى التى صورها لهم فذهبوا للعمل خارج البلاد، على أمل العودة بعد سنوات بالمال اللازم لبناء بيوت جديدة فى موضع الخرابة، لكنهم انشغلوا بجمع المال عن الغرض منه، ونسوا الأمل فى العودة والبناء.. وظلت الخرابة خربة.

وأخبرنى أبى أنه كان يتمنى أن يرزق بأولاد كثيرين، كى يستطيع أن يقوم بما أهمله إخوته الذين ذهبوا ولم يرجعوا، لكن الله لم يعطه من الذرية غيرى. ولذلك، فالأمر مؤجل إلى حين حتى أكبر وأتزوج وأنجب، فأسوى أرض الخرابة وأبنى فيها بيوتاً للسكنى، أو دكاكين للتجارة، أو مقهى ليلتقى فيه الرجال.. وقد راقت لى هذه الفكرة، ورأيت أنها تستحق التنفيذ حين يأتى الموعد المناسب.

■ ■ ■

الأرق قاس، وهذه الليلة استطالت كأن ظلامها لن يسفر عن إصباح. نظرت فى ساعة يدى الموضوعة تحت مخدتى، فوجدتها تشير إلى منتصف الليل، ولم أجد عندى استعداداً للنعاس، فانسحبت من تحت اللحاف بحذر كيلا أوقظ «نسمات»، وجلست مستسلماً للسهد على الكرسى المجاور للسرير. أحست بى زوجتى فاستدارت وهى بعد مستلقية وسألتنى عما يقلقنى، فقلت: لا شىء.. هى تعلم ما بى، لكنها تواسينى بسؤالها.

«نسمات» امرأة طيبة، وأمها كانت طيبة وحنونا وكان أبوها رجلاً فاضلاً، اختارها أبى زوجة لى فور بلوغى العشرين، لأنه كان يود رؤية أحفاد كثيرين، ووافقت لأنها كانت جميلة وشهية. أعنى أننى كنت وقتها أرى الجمال فى النساء، وأتوق فأشتهى. تأخرت فى الحبل. بلا سبب من جهتها، وأخبرنى الطبيب أن الإنجاب صعب لكنه ليس مستحيلاً، لأن حيواناتى المنوية ضعيفة. ونصحنى بالصبر.. حزن أبى سنوات، ثم مات واستراح من الأمل ومن ترديد الأدعية. وبعد رحيله بأربعة أعوام. استجاب الله له، وحملت «نسمات» بعد لأىٍ وطول ترقب، وأنجبت لى ابنى الوحيد «محمد» البالغ من عمره اليوم اثنتى عشرة سنة. حفظه الله لنا.

سألتنى «نسمات» إن كنت أريدها أن تحضر لى شيئاً لأشربه، فشكرتها ودعوتها لمعاودة نومها، واعداً إياها سأعود إلى النوم بعد هنيهة، فشدت إلى كتفها طرف اللحاف وأسبلت جفنيها. هى تعلم ما بى، وتعلم أننى أعلم أنها تعلم، فقد عايشت معى الحلم الذى تبدد اليوم، وكانت تستبشر بما أخطط له. أو تظهر لى استبشارها به لترضينى. فهى تدرك كم اهتمامى بالمشروع الكبير الذى طالما حلمت بتنفيذه، وحين أخبرتها بأننى اتفقت مع صديق عمرى «نافع» وأبناء عمومته الثلاثة على التشارك لإنشاء مزرعة الدواجن فى موضع الخرابة، أنا بملكية الأرض، وهم بالجهد والمال اللازم لتسوية الأرض وإقامة العنابر وشراء بطاريات التفريخ.. وقد كاد يتم كل ما اتفقنا عليه، لولا خبث العمدة.

عمدة بلدتنا الذى كان قبل عُمديته غفيراً ثم شيخ غفر، يتاجر بكل شىء. ورث أرضاً بوراً عن أبيه الذى كان فى مبتدأ أمره غفيراً ثم شيخاً للغفر ثم عمدة، وورث عنه أيضاً مكتب توظيف العمالة وشركة الصرافة وتحويل الأموال. ومثلما زَنّ أبوه قديماً فى أذن أعمامى حتى أقنعهم بالسفر إلى بعيد، ولم يعودوا. فعل الشىء ذاته مع «نافع» وأبناء عمه، حتى اقتنعوا بما خيّله لهم وقبلوا بالسفر إلى خارج البلاد للعمل كأجراء.. وانهار بذلك كل ما اتفقت معهم عليه، وتحطم حلمى عصر اليوم بسبب سفرهم.

العمدة يريد شراء أرض الخرابة منى، مثلما كان أبوه العمدة السابق يريد شراءها من المرحوم أبى. أبى لم يقبل، ولم أقبل القيام بما رفضه أبى، وأجبت على إلحاح العمدة ومضايقاته لى لإجبارى على بيع أرضى بما أجاب به أبى على إلحاح أبيه ومضايقاته: «لن نترك البيت الذى عاش فيه أجدادنا، ولن نبيع أرض الخرابة لمشتر يتطاول جوارنا بالبنيان حتى ينجرح مسكننا وينكشف من عَلٍ، فيصعب العيش فيه».

العمدة بارد الدم، ولا يملّ مما لم يمل منه أبوه. يريد أن نبيع كى يبيع من بعدنا ويكسب، ونخسر نحن. الحياة هنا صارت مرهقة، ومريرة، لا.. العمدة وأبوه وأمثالهما هم الذين جعلوا حياتنا مريرة مرهقة، وللأسف، ليس من السهل الخلاص، والله لا يريد أن يغدق علينا من رحمته، ويأذن لنا بخلاص.

■ ■ ■

الأرق قاس، والليلة انطوى معظمها، لكن الفجر لا يريد أن يطل.. نظرت مجدداً فى ساعة يدى المستدفئة تحت المخدة، فوجدت عقاربها اللاذعة تدل على الثالثة وسبع دقائق.. لا يزال الفجر بعيداً. تهيأت للقيام من قعدتى غير المجدية، وجولانى بين الذكريات والأحلام التى لن تتحقق قريباً، وكدت أستلقى إلى جوار «نسمات» عسى النوم يواتينى من بعد استدامة السهاد، لكن صرخة فزعة جاءت من ناحية سطح المنزل، فخطفت قلبى وانخطفت مهرولاً إلى السلم وخلفى «نسمات».

عند سور السطح، كان ابنى «محمد» يحدق فى ظلام الخرابة ويصرخ من شدة الفزع، ومن شدة الرعب ترتجف أطرافه، فلا تقوى ساقاه على الوقوف به.



يوسف زيدان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى