قصة ايروتيكة سلام إبراهيم - التسلل إلى الفردوس ليلاً

* إلى إبتسام زغير – أم نصار – الرفيقة مع حبي واعتذاري
أبحر في يم بشرتها السمراء، في زغب الوجنتين الطفل، في استدارات جسدها الأليفة المخبوءة تحت السروال الفضفاض، والقميص العريض، والتي كاد أن يصبح لمسها أمنيةً لشدة دنوها واستحالتها. فمنذُ ليلة التحاقهما حيث قضياها متعانقين، في جوف مغارة ضيقة واطئة السقف، انسلا إليها زحفاً بصحبة الدليل، لم يجمعهما فراش واحد. ظلا ينتهزان الخلوات أثناء تجميع الحطب من غابة السفح، أو في حلكة ليل الجبل الدامسة حيث تتسلل وقت نوبة حراسته، فيمارسا الحب على عجل بلهفةٍ مجنونة، في المغاور والكهوف وحمام ومطبخ الفصيل، مرتبكين، يكتمان لهاثهما الضاج في غور الجسد والروح خوفاً من الفضيحة. شرد ببصره عبر جلستها المتوثبة قبالته نحو غابات السفح القاتمة في هذه الظهيرة الربيعية المشمسة، منصتاً إلى هدير نهر "الزاب" المنحدر في الوادي العميق، ورامقاً حافة القمم الشاهقة ورقعة السماء المنظورة من قعر الوادي. كان يقلب في صمته وشروده تفاهة كل القصة، كل هذا الوجود الملتبس، الغريب، غير قادرٍ على الإجابة على سؤال بسيط: لِمَ لا يسمح قادة الموقع ببناء غرف للمقاتلين المتزوجين رغم وفرة الأمكنة وفساحة الأودية المتداخلة والعصية والبعيدة جداً عن كل الطرق الجبلية السالكة؟.
ـ لِمَ تسكت؟!.
تجسمت ملامحها المتنمرة في عنفوان رغبتها المحتدمة والمكثفة في حروف السؤال. تجّلتْ باهرة الجمال، بالغة البوح، عارية، ترتجف بكل مسامها. وحده وسط حشد عيون المقاتلين المتجمعين عقب وجبة الظهيرة، والرامقين بفضول جلستهما المتطرفة خلف الفسحة الكائنة أمام المطبخ. وحده يغور في لحظة اختضاضها الصامت وهي تلقي احتدامها في كثافة سؤالها اللائم. وحده من يفهم شبق الأنثى عندما تتحرر وترغب في الآخر دون حاجز. وحده يفهم سر غضبها الشاد حروف سؤالها مثل قوس، والذي أذهله وجعله غير قادرٍ على أن يذكرها بشكواها من حَرَجِ ليالي حلول زوج إحدى الرفيقات، الذاهب مع خيوط الفجر، في مفرزة، قد لا يعود منها كما يحدث أحياناً، فيقضي ليلته السابقة للسفر وسطهن مع زوجته. لم يستطع تذكيرها ورغبة عناقه طوال ليلةٍ توقدت في دمها الساخن. كانت تأتيه وقت الفطور الصباحي، متورمة العينين، عكرة المزاج، فاقدة الشهية. تعرض عن الطعام رغم أن الوجبات محددة بثلاث، وتقابل إلحاحه كي تأكل بمزيد من التجهم والعناد، فيداعبها بعسل الكلام، مسفراً عن رغبته بها في وحشة ليل القاعة، يسر لها بأحلامه في عناقها، الولوج بأحشائها في الذروة الماحقة. يسرد لها بهمس ضاحكاً، مزيجاً من أحلام يقظته ونومه.. عندها تتجرأ فتبث شكواها من أرق ليلة مبيت المقاتل الذي ذهب غبشاً وسطهن، الحاضن زوجته في قعر الظلام وضيق المكان الذي يحتشد بآهات تصدر من كل الزوايا والأركان، من موقع فراش الزوجين، من حفيف الأغطية، وطبة تقلب الأجساد المتأرقة، المتلظية بعذاب عتمةٍ محشودةٍ بهسيس اللمس والأخيلة. كانت تقول:
ـ يحس الواحد وكأن ثمة من يقترب منه ويشرع بالاندساس معه في الفراش.. شعور فظيع.. أليس كذلك؟.. فكيف أستطيع النوم إذن؟!.
ـ لا!.
قالها بحزم رغم شروده المتأمل.. الحالم، ثمن الليلة غالٍ.. غالٍ. فطالما سمع أحداث تلك الليالي همساً. كانت تفاصيلها تسرد بيقين الخبر، رغم حدوثها في حلكة تلك الغرفة الضيقة الرطبة الواطئة السقف، المتوسطة غرف القادة، وكأن موقعها هذا يحميها من غارات المقاتلين الحالمين بضوع الأنثى ذلك الحلم شبه المستحيل. الزوجة تَسِرُ لزوجها لحظات الخلوة والوجد بما جرى في ليلة الزائر المتوسط أماكن رقادهنّ. تسرد ما يعّن لمخيلتها القادحة في ظلام الغرفة، بهسيس وحفيف الأغطية المجسمة فداحة الشهوات الكتيمة التي لا معنى لقمعها في واقع الحال. فالنسوة الثوريات متزوجات على سنة الله ورسوله، دافع عزلهن واهٍ. إذ حرمهنَّ مما أباحته أعراف مجتمعٍ يعتبرونه متخلفاً ويسعون إلى تشكيله من جديد، لكن مثالية الثورة المسلحة كانت أفدح، فتشيع أخبار تلك الليالي وكأن الزوج ضاجع زوجته في وضح النهار وليس في حلكة غرفة الأسرار.
ـ لماذا؟.. الكل يفعل ذلك إلا أنتَ!.
قال بحزم ـ إلا.. أنا!.
في غمرة فيض الشمس الهاطل من حافة القمة، أبحر من جديد في حرقتها وهي تضرب كفاً بكفٍ وتحدق نحوه تحديق لبوة تبغي عناق صغارها:
ـ ما هذا العناد؟.. ولِمَ؟!.
ـ ليس عناداً!.
ـ ماذا تسميه أذن!.
ـ ماذا أسميه.. ماذا؟.. ماذا؟.. هكذا.. عناداً كما تقولين!.
استكانت للحظة في صمتٍ مضطرب قبل أن تقول بنبرة منكسرة، وظلال حزن راحت تطوف في بحر عينيها السوداوين النجلاوين، المحملقتين بملامحه الدانية:
ـ مشتاقة.. مشتاقة!.
ـ ..!.
عاود الإبحار بصمتٍ في تفاصيلها المذهولة، صاعداً من عري العنق المهتز إلى الحنك الملموم مثل قبضة طفل، والشفتين المكتنزتين اللتين أيبسهما الظمأ الطويل، إلى الوجنتين المضرجتين بنيران الرغبة الحبيسة، وجسر الأنف الشامخ الذي يضفي على قسماتها زهو الأميرات، ليهبط من سفحيه الصقيلين نحو ألق العينين المتلهفتين ببحريهما شديدي العتمة، الشاخصتين نحوه.. لا يعرف ماذا يقول؟.. ملجوماً بعنفوان الرغبة المتأججة في عناقها والالتفاف بجسدها الساخن طوال الليل، والذي أصبح عريه شديد الحضور في الخلوات والأحلام، في ليالي القاعة الخانقة المكتظة، في ليالي المفارز المضنية، والمبيت في بيوت الفلاحين والرعاة وجوامع القرى البعيدة. الجسد الساطع في لحظات استعار الشهوة، التي تزيدها توهجاً، العادة السرية المستعيدة مجدها القديم، وكأنه رجع إلى بواكير مراهقته الضاجة التي لم ترتوِ من شيء. احتدم في الصمت البارك على المسافة الفاصلة بين وجهيهما المتضورين بعذابٍ لا يسعه الكلام. كان يحترق في أعماقه وهو يبحر في أخيلة تنبعث من كمال القسمات الدانية، الوالجة أحشاءه. نهض من رماد رغباته رامقاً الغد:
ـ .. سيذهب إلى قتالٍ وقد لا يعود، كما حدث للعديد من المقاتلين الذين يغادرون في الصباح بوجوههم المرحة، ليكونوا في عالم الظلمات عند الظهيرة أو المساء..
اختض من الأعماق مثل كل مرةٍ ينتابه فيها هذا الهاجس، لا جبناً من الموت الذي صادفه مراراً، وعرفه عن كثب في جبهات الحرب الطاحنة مع إيران، لكن وقتها كان مطمئناً لوجودها بين أهلها. أما هنا في وحشة الجبل حيث ارتدت الكائنات البائسة.. المحرومة إلى حقب الغرائز الأولى، الدارسة في الضوء واليقظة، لكن الزاهرة في الأحلام والظلام. ليس جبناً بل خشيةً من وحشة وضعها البشري عقب رحيله، فهو لم يكن ملحدا مثلها، بل يعتقد أن الموت إلغاء جزئي للكينونة البشرية.. ولذا فهو معني بما يجري بعد إيابه إلى السكون المفكر.. اهتز في تمليه العميق لشجون البشرة السمراء الناعمة الغضة، المنتظرة قراره. اختض في جموده شاملاً بنظرة وجوه المقاتلين القاسية، شهقة الجبل خلف قامتها المنكسرة في جلستها المستكينة على صخرةٍ كمقعد. ارتعد متخيلاً حالها لحظة استقبال خبره، فكاد أن يهوي نحو انكسار جلستها.
ـ سنرتب فراشنا في زاوية الغرفة البعيدة!.
ـ ..
وأضافت مشرقة الملامح همساً:
ـ وسنطفئ الفانوس!.
* * *
ظل يتقلب على فراشه المنزوي، في الظلال الكثيفة للأعمدة الخشبية الساندة سقف القاعة. يستعر وهو يتأمل المقاتلين الملتفين في دوائر، يلعبون الورق والشطرنج، قسماتهم المغبرة في النور الشاحب الهابط من الفانوس المعلق بالجدار، لحاهم الكثة وروائحهم العطنة، البنادق المتدلية من أوتاد خشبية ثبتت بالحائط، كومة الأحذية جوار الباب، سحب دخان السجائر المتلونة في لطخات الضوء المتكسرة على الجدران والشبابيك وأحشاء السقف الخشبية الواطئة. ينصت لصدى ضحكاتهم المتشنجة، الحارزة خلف نغمتها ألم دفين، تقوله التقاطيع الحادة، وردود الأفعال في حركة الجسد ونبرة الكلام. أبحر في بحر الفراغ، كما يحدث له غالباً منذُ طفولته، حين يجد نفسه بغتةً غير قادرٍ على فهم لحظته:
ـ لم هو هنا ؟.. لماذا يجري له ما يجري ؟.. وعلامَ هذا القلق والتوتر؟.. وأين يبغي في الغد؟.. هل صحيح حقاً أنه سيقصد غداً مع رفاقه لنصب كمين يباغت جندياً ساهياً بطلقةٍ قاتلة؟.
كان يبحر هارباً من عاصفة الأسئلة العافطة على كل جدٍ وقانون ونظام.. يبحر في متعة تلك اللحظة الحالمة، الغاطة حتى قاع الفراغ. من تلك المناحي الدفينة كان ينتظر خلود هذه الحيوات المعذبة إلى نومها المكتظ بالأخيلة والكوابيس التي توقظه مفزوعاً على صراخ مذبوح، هذيان مبهم، آهات شهوة من يكاد يبلغ الذروة معانقاً الوسادة والبطانية المتكورة بين ساقيه. من لحظة الفراغ الخاوية، كان يتخيل تلك الغرفة الضيقة المزدحمة بست نساء، والفائحة بروائح الأنوثة والعطور السرية المسكرة، سيحل الليلة فيها متسللاً، وجلاً، مرتبكاً بعد أن أحالتها الحكايا المنقولة همساً بين المقاتلين إلى جنةٍ ما بعدها جنة. كان يهمس لزوجته ما يسمعه. وكانت تستخف بأخيلة الثوريين، لكنه هو الآخر لا يختلف عنهم في قرارة مخيلته، الملتهبة بأمكنة النساء منذ الطفولة، كان يتخيل عبق السحر المنبعث من النافذة والباب في أعماق الليالي، ذلك العبق الذي يقال أنه حطَّ بسمعة مقاتل أربعيني، فضحه متلصص أخر عندما وجده ملتصقاً بالحائط جوار نافذتهن المظلمة يَنحب بصمتٍ ماسكاً عضوه القائم، أو ما يحكى عن الأنين والآهات الصادرة من جوفها أثناء الأسحار، وفي الأغباش الثلجية والتي يحلف من ينقل عمن كانت نوبة حراسته في تلك الساعة أغلظ الأيمان بأنه سمعها، وما تثيره الحكاية من أخيلةٍ عن عمليات سحاق تجري في تواطؤ يفرضه الظلام والحرمان. أو ما يقال عن مقاتل كان خجولاً رغم شجاعته في المعارك، اقتحم الغرفة في نوبة هياج مجنون أصابته أثناء نوبة حراسته، فَسُجِنَ. أو ما يقال عن اختفاء ملابسهن الداخلية ومشدات صدورهن المنشورة على حبلٍ يستدير حول مدفأة الغرفة الصفيحية في ظروفٍ غامضةٍ وقت انشغالهن بإعداد الطعام أو جلب الحطب من الغابة، والعثور على تلك الألبسة الداخلية والستيانات ممزقةً في المغاور والكهوف والمقبرة وغابة السفح وضفة النهر الهادر في عمق الوادي. حكايات وحكايات لا يدري أحد هل حدثت فعلاً أم اختلقتها أخيلة رجال عزاب ومتزوجين تركوا زوجاتهم في المدن البعيدة منذ سنين، يشيخون بين صخور الجبال الوعرة. كان غاطساً في الفراغ يتابع بعينين شاردتين حلقات اللعب الدائرية تنفض بكتل بشرها المتشبحة المنسحبة، إلى أماكن رقادها الموزعة بين أفرشة المقاتلين، الذين آبو باكراً إلى فسحة النوم والأحلام والبواطن الغامضة، يرمق كتلة أصابع امتدت نحو بكرة التحكم بذبالة الفانوس، فأحالت الإنارة إلى خليطٍ من حلكةٍ وعتمه مرتعشة بوشل النور الخابي المذعور في قعر الزجاجة المعلقة. هَوّمَ في سكونه الحالم تحت البطانية الرطبة منصتاً إلى حفيف الأغطية، وتقلب الأجساد الخالدة إلى رقادها، إلى اختلاط إيقاع الأنفاس النافثة غيض يومها، بآهاتٍ وأنات وزفراتٍ يفضحها الصمت والسكون الهابط على الأجساد المتعبة من شأن نهار الجبل الشاق، مختلطاً بإيقاع أشباح القاعة المشرعة على موات لحظتها، والكتل التي آبت إلى سكونها تحتدم عند بوابة النوم متقلبةً، متكومةً متناثرة، يطفو ألمها في شحوب الظلال لحدود جعلته يرى تلك الأجساد المعاندة القوية هزيلةً تعوم في صمت فراغه مثل أشباح تطل من حافة القصة. انتفض منتشلاً نفسه من غبار الفراغ. اعتدل في جلسته ساحباً جسده من غور الفراش ليتكئ على أسفل الجدار المغلف بالنايلون. فرك عينيه بسبابته المتكورة. عاود الحملقة بالأجساد. كانت تهبط متدثرة بأغطيتها البالية، ساقطة في غفوةٍ مثل قدر، غفوة فريدة لا تختلف عن غفوة جنود خنادق الحرب مع إيران حيث الجسد يستنفد كل طاقته أثناء النهار. أطربه بوادر شخير الذوات المتدلية في بواطن عوالمها المجهولة. أطربه النغم الناشز في اضطراب الهواء المسحوب نحو الأحشاء المجهدة، الصارخة من ذلك المروق الشفيف. أزاح بهدوء بطانيته، ولبث في تكوره وجلاً ينظر نحو فتحة الباب المسدودة ببطانية مزدوجة بدلاً من الخشب والكائن في طرف القاعة البعيدة. انسل من زاويته الحالكة سائراً على رؤوس الأصابع، بخطوٍ مرتبكٍ وكأنه مقبل على سطوٍ. يطأ حافات الأفرشة المتلاصقة أثناء عبوره الأجساد المبعثرة والمندملة في رخاوة قيعان الظلال الكثيفة. انزلقت قدماه في جوف الحذاء، وامتدت يده نحو حافة البطانية المسدلة، وقبل أن يدلف في جوف ما بين البطانيتين التفت نحوهم متخيلاً لحظة اكتشافهم مكانه الفارغ في بحر الليل وهم يناوبون في الحراسة. سيشحذ غيابه أخيلتهم المحمومة، فتشبّ بهم إلى ذروة لذائذ تتغذى من تفاصيل الصباح، مستعيدين نغمة صوت الرفيقة المقصودة، إيقاع ضحكتها، وجمر عينيها المحتدمتين بالشبق وهي تحتضن في الظلام الساطع وسط خمس إناث المتغيب عن فراشه. سيعانقون المطلق في شبوبهم ليهبطوا هبوطاً مريعاً إلى قفر الخواء. سيلعنون حظهم العاثر ويحررون الحسرات، ويعتنقون رماد أخيلتهم الأليمة وهم يندسون تحت الأغطية العطنة. سيحدقون فيه في الصبيحة بعيون حاسدة تحاول سبر مباهج الليلة الفائتة في غرفة الأحلام. غمره الليل الحالك خلف الباب. تلمس الممر المتعرج بين الصخور بالغريزة قاصداً المرافق الصحية، معتبراً أن ذلك ضروري جداً، فكيف به لو اضطرته الحاجة في عمق الليل وسطهنَّ. انتفض على كفٍ ناعمة أطبقت على معصمه:
ـ وين صرت!.
قالتها بنبرة مرتعشة اتسقت مع رجفة أصابعها الطويلة العاصرة معصمه بتوتر وقوة عصراً متناوباً أشعل دمه:
ـ انتظرت غفوتهم!.
ـ لماذا؟.. أنسرق؟!.
ـ أدري.. ولكن!.. سأعود بعد دقائق.
ـ سأنتظرك عند العتبة.. لا تتأخر.
* * *
خاض في الحلكة متخذاً درباً يستدير بعيداً وسط صخور الوادي، متحاشياً المرور في الفسحة التي يناوب فيها الحارس. دَبَّ في الصمت الأجوف تتنازعه الظنون والمخاوف من الغد المجهول، ميمماً شطر الضوء الخافت الراشح من كوة نافذة غرفتهن الداخلية، محتدماً بشهوةٍ فريدة يزيدها عرامة وعرياً وتجرداً الخواء المرعب لضفة الوجود الأخرى.. الضفة الحالكة، صمت التراب وأخيلة العالم السري المخبوء تحته في الأعماق، العالم المهول من أخيلة البشرية، والمقفل سره أبداً. العالم الذي لا إياب منه. العالم الذي قد يكون في النهار التالي فاتحاً أبوابه لجسده الخارج في غبشة الصباح إلى مهمة قتالية. اقترب من حافة غرف الطين الممسوحة بظلام السفح المتشبح وكأنه يعتنق السماء. استدار يساراً ليدخل الفناء الصغير المحصور بين الغرف الثلاث المتقابلة، خافق القلب، تائقاً للتحقق ولو في الظلام من كيان الحبيبة بالأصابع والأنفاس، بالأطراف والبشرة، بالصدر والقلب. التحقق من كتلتها النابضة. الولوج في أحشائها الساخنة، التلاشي فيها. وجدها عند العتبة متجليةً، تبث من قوامها الممشوق لهباً يسخن مسام جسده. وحده يدرك عمق هذه اللحظة المتألقة، المتكررة في أوقات فراقهما القسري. وحده يعرف كيف تتألق برغبتها وتمنح كل كيانها، في فترة اضطراره إلى الاختفاء في مدن أخرى هرباً من جبهات الحرب. كانت تأتيه في بيوتٍ سريةٍ كتلة نار متأججة تبغي الغور فيه، المكوث في أحشائه. تأتيه مثل شمسٍ مباركة وتحل فيه فيضاً من مباهج لا تنسى. وجدها مضيئةً في الحلكة:
ـ تأخرت!.
همست بلهاث وقبضت كفها الناحلة الساخنة معصمه والجةً باب الغرفة الخفيض. عصفت به رائحة نفاذة أليفة ما أن جاوز العتبة. رائحة انبثقت من سحيق أيامٍ غابرة، من سني طفولته البعيدة، رائحة جعلته يستكين لأعشار الثانية مأخوذاً، وهو يحل شريط حذائه الرياضي في فسحة الأحذية جوار المدخل. رائحة دلقت في كيانه ضوع غرفة بيت أهله القديم الوحيدة. تلك الرائحة نفسها المنبعثة بعبقها الطاغي من أسرة وستائر وهواء وظلال وزوايا وأنفاس وأوقات ومواسم تلك الغرفة الواسعة، الوحيدة، المشادة بالطابوق، والتي جمعته أخاً وحيداً لسبع أخوات جميلات يكبرنه. رائحة مسكرة كان ينغمر بمسْكها، وهو يندس معهن في الفراش المشترك، المحتل فسحة الغرفة، جوار سرير أمه وأبيه الخشبي بأعمدته النحاسية الأربعة المغطاة بالستارة الشفيفة التي تنسدل من حوافها حاجبة ليل الأبوين. رائحة ستنعجن بدمه، وهو يلتصق بلدانة أجساد أخواته المراهقات، اللواتي كنّ في غمرة النوم يتحسسن جسده بأصابعهن الناعمة الغافية. هل حقاً كان يحصل ذلك أم أن الأمر هو مزيج من ذاكرة الطفولة الرجراجة، وأخيلة مرحلة البلوغ في بيئة صارمة ؟!. لم يجد جواباً في حيرته المقيمة والتي رافقته حتى سن النضوج. ظل يستطيب تلك الروائح، ويختلس لحظات الخلوة دافناً وجهه في تلافيف ثيابهن المبعثرة في خزانة الملابس المشتركة، يعب من أريجهنّ السري المخدر المنبث من كتبهن المدرسية، من أشيائهن الصغيرة. أفحمه الضوع القديم الهاب من أحشاء الغرفة، مزيج من أنفاس الجوري، الحناء، ضوع الأنثى لحظة اضطرام رغبتها الحبيسة، ضوع خافت مثل ظلال تشي به أحمر الشفاه، صبغ الأظافر، دكنة إصبع المكحلة، كريمات البشرة، ضوع الملابس النسائية الداخلية الحميمة، العارفة المبتلة بنبض الجسد السري، لحظة البوح الصامت في الأمكنة والأعراف الصارمة. عبق رحيق سري لا يصدر إلا من أنفاس الأنثى لحظة تألق الشهوة المكبوتة بزواجر التقاليد القاسية.
ـ أش بيك.. تستحي؟!.
نزع حذاءه واستقام مستيقظاً من سحر الضوع الفريد، ليواجه عشر عيون شاخصة نحوه، من ظلال الضوء الشحيح المتسرب من الفانوس المعلق وسط جدار الغرفة الأيسر. عيون مترعة بالفضول والشبق، عيون تتملى عميقاً. عيون حيوات تدرك أنها ستفقد قيمتها العملية بعد قليل، عندما ينطفئ الفانوس ويستحكم ضوء الأخيلة. من نظرة واحدة أدرك، أن الفراش الأعرض المرتب لصق الجدار في الزاوية البعيدة عن المدخل، والمحاط من الجانبين بفراشين هو فراش ليلتهما . يتحتم عليه الدوس على الأفرشة المصفوفة بين المدفأة المتجمرة جوار الباب وحافة فراشهما الذي أحسه بعيداً وثيراً. غاصت قدماه الحافيتان في طراوة الأفرشة مخترقاً كسر المرايا الصغيرة المثبتة بالجدران، خائضاً في بحر الأنفاس الأنثوية المصبوبة، اللاهثة، الملاحقة خطوه الوجل، المرتاب، مضمخاً بكثافة الأريج المتضوع من الأردية والأفرشة، الحقائب والوسائد، الأغطية وأشيائهن الصغيرة المزدحمة، في تجاويف النوافذ والروازين العمياء، وجوار الوسائد الملاصقة لنايلون الجدار المطّبع بالورد. هبط بجسده المتوتر على الإسفنج الناعم. هبط بنبضه على سفينة الليلة التي قد تكون الأخيرة. اتكأ على الوسادة الطويلة متحاشياً التحديق بهنَّ، حاساً بدمه الفائر يتدفق بغزارة إلى وجنتيه. حنطه إرباك شبيه بلحظة إدراكه لمأزق الاحتكاك الليلي بأجساد أخواته الحميمة وهو يتأرجح على حافة البلوغ، فيستيقظ في الصبيحة غير قادرٍ على مغادرة الفراش رغم إلحاح أمه، كي يفطر ويذهب إلى المدرسة، يتشبث بالغطاء حتى يرتخي وسطه المتوتر. تلك المحنة المحرجة كان لا يتخلص منها إلا في الصيف حيث ينتشرون في حوش الدار الفسيح، تحت قناديل الله الفضية المنثورة في ليل سمائه. حصر ناظريه بها. كانت تعدل البطانية العريضة بنشرها، ثم ترتيبها بطيها بطريقة يسهل سحبها والتدثر تحتها دون عناء. هبطتْ بجسدها المنحوت جواره باسمةً جذلةً في ضوء الفانوس الناري. تحدق دون حرج به وبهنّ مما جعله يتجرأ ويشملهن بتحديقه سريعة، فأصابته العيون المحملقة وكأنها نوافذ تطل على دخيلته. عيون ترمقه وفي أطرافها ظلال تموج بأخيلة ما بعد إطفاء النور. أخيلة جوف الليل القادم بالهسيس والآهات المكتومة والآذان المرهفة. ليل صعب مثل معركة ضارية ستدور في بواطن حلكة مفضوحة. استطال الصمت محكماً وثاق الوجوه والألسن. أصابهنَّ ارتباكه بالعدوى، فطفقن يعددن أفرشتهن ويتحدثن بهمسٍ متجنبات النظر إلى تحديقه القلق .
هل كانت نظراته تنتهك حدودهنَّ أناء خطف العيون؟.. أم أن الأمر معكوس، فهو من سينتهك طقسه السري هذه الليلة، وجسده بكل ما فيه من دلالات الحضور وسطهن يشي ويفضح جسامة هذا الانتهاك المرغوب من كل الأطراف!.
هل وشت نظراته، بما كان يفكر فيه. تلك المناحي من التفكير التي جعلته يجرد الأفعال من ظلالها الإنسانية ليصل إلى سؤال مبهم عن معنى وجوده مع زوجته في حميمية الفراش يشاركه لحظات وجده وتماهيه في أتون الآخر، خمس نساء سوف يأرقن وتتبلل ألبستهن الداخلية مع إيقاع الآهات وهسيس الأغطية المنزلقة، وهمس احتكاك الجسدين الموغلين بأحشاء بعضهما. الجسدان المشتاقان اللذان حتى لو لم يأتيا بأي حركة، فمجرد خلودهما إلى الفراش المشترك سوف يستثير كوامن الغريزة الغائرة في الأرواح المحرومة. بغتةً تجرد من ظروف الجبل الغريبة التي حطت به في باطن لحظته وسطهنَّ. لحظة طالما جعله شارداً في طفولته، عندما يتجرد متسائلاً عن معنى وجوده في الأمكنة المحددة، التي يجد نفسه مداناً، مهاناً في البيت والمدرسة والشارع، وفي نضجه وهو ملقى في زنزانة ضيقة في مديرية الأمن العامة ببغداد، معصوب العينين، مقيد المعصمين والساقين..
ـ لِمَ يجرِ له ما يجرِ وهو الطيب القلب الذي لم يفكر لحظة في إيذاء الآخرين؟!.
هل سبرنَّ غور لحظته فارتبكن من تجرده الذي أربكه وهو يرى نفسه وسطهن مثل لحظة ارتياده المبغى أول مرة، حينما كان طالباً في سنته الجامعية الأولى ببغداد.. تسلل إلى بيتٍ خلف ساحة الميدان، واصطف في أحد الطوابير الطويلة، بانتظار دوره للدخول إلى غرف العاهرات، اللواتي يحدق بهن وهنَّ خارجات من أبواب الغرف،عقب فراغهنَّ من الزبائن، يهرولنَّ نحو المغاسل عاريات من الأسفل بأفخاذهن المتينة، قاطعات صحن الدار المسقف بالزجاج، لتعود واحدةً وتسحبه من ذراعه المستسلمة إلى الحجرة شبه المعتمة. سيدس عضوه المتصلب في جوفها المباح. سيبلغ الذروة وحيداً وسريعاً. ستقول له جملة لم يدرك معناها:
ـ إذا تريد أعطيك من وره بربع دينار.
وقتها كان مشمئزاً من نفسه والوجود والمرأة ومغامرته الأولى في الولوج الكامل في الأنثى.
هل هذا السؤال الأجرد مثل أفق رملي فضحه ارتباك جسده.. سؤال عارٍ يلح من تجاربه الجسدية الفادحة، سؤال هو ما جعل عيون الرفيقات ترمقه بشغف لحظة دخوله، تَشْرِد متحاشيةً تحديقته المنشغلة بسؤاله المرتد إلى حقبة الغرائز:
ـ أهو هنا هذي الليلة ليمارس ما تمارسه الدودة والعصفور والزواحف بكل تلقائية وجودها في المحيط؟!.
تلبد في احتدام حواسه المضطربة، شاعراً بالانسحاق. تمنى لو يكون الآن راقداً في فراشه العطن وسط المقاتلين في القاعة، شأنه كل ليلة دون هذا الإحراج، واحتدام المشاعر المركبة التي أخذته إلى مواجع مؤلمة في محطات عمره المضطرب الضاج. كانت متماسكةً، تحتوي بنظراتها العارفة بالغريزة، كل مسببات ارتباك الأطراف:
ـ لنطفئ الفانوس.
جهرتْ لاغية ارتباك الحال. رحبنَّ بأصواتهنَّ الوجلة المتداخلة وكأنهنَّ ينتظرنَّ لحظة الإظلام بنفاد صبر. كان مستسلماً وهي تندس جواره تحت الغطاء، والرفيقة الراقدة تحت موقع الفانوس المعلق، تنهض من جلستها، ترفع جسد الفانوس من وتده ضاغطةً بإبهامها على النتوء الرافع لزجاجته، وقبل أن تنفخ بزفيرها، التفتت نحوهما حارزةً قبيل حلول الظلام أبعاد كتلة الزوجيين المتمددين جوار أجساد النسوة المجاورة، المغطاة حتى الأعناق في الظلال المتحركة على إيقاع اهتزاز الفانوس بين يديها:
ـ ألا يحتاج أحد إلى شيء؟!.
ـ لا.. لا.. لا.. .
نبرتْ الأصوات الأنثوية المخضلة من أنحاء الأفرشة. انتشله الحوار والمشهد من جحيم التداعي المر، فطفق يحدق من موضع زاويته المتطرفة، مركزاً على شفتي الرفيقة المكتنزتين المشققتين عطشاً في انكماشهما قبل نفث الزفير العادم لرعشة الضوء. تابع دفقه المسموع، الذي جعل النور الشاحب يشب وينطفئ، لتحل حلكة كاسحة، سميكة أطبقت ماحقةً الكتل والذوات، مشعلةً الأخيلة والهواجس والذكريات. سكن في جموده المستطلع غور الظلمة الهابطة بالصمت المتوتر. تخايلت له عيونهنَّ المتحجرة، المصوبة نحو موقعهما تبرق كعيون القطط. فزَّ محتدماً وفخذها المتين الملفوف لفاً، المتأجج، المحموم يلاصق فخذه في حراك ناعم مثل تساقط ثلج خفيف في ليلٍ جبلي دامس. اضطرم منصتاً لأنفاس النسوة الصاخبة، لحفيف الأغطية، لنفث الحسرات المنبثقة من فوح الأرواح الصابرة في خواء وحدتها على وحشة الفراش الرطب. حسرات تتصاعد خافتةً لتجوس في أحشاء الظلام، في عمق الليالي. حسرات تبوح بلوعة الزوجات المحرومات من حميمية جسد رفيق العمر المتخشب في القاعة المجاورة. أنصت مكبلاً بأخيلته التي تحفر وجوههن الساهرة. أنصت متحاشياً لبرهة من الزمن المغفل اتقاد الجسد الفائر لصقه. أنصت مبحراً في تضاريس وجوههن الساهرة في جوف الحلكة الدامسة، متخيلاً آذانهن المرهفة، المتوثبة لالتقاط أي حفيف أو هسهسة أو ذيل آهة مكتومة تصدر من فراشهما.
خمس إناث يحلمنَ الليلة بأجساد أزواجهن المتضورين شبقاً، المقلبين ليلهم الطويل في القاعة الكبيرة والغرف، على مسافة أمتار معدودة.
خمسة أرواح معذبة يحاصرها الليل برغائبه وحماقاته.
خمسة أرواح تتلظى بباطن الحلكة من سعار الشهوة المستثارة عما يصدر من فراش الزوجيين المتعانقين تحت ستار الظلام.
خمس جمرات متقدات تحت رماد الأغطية في قعر الظلام.
بصمتٍ.. سرت الأصابع تحت الأردية. تشابكت.. و.. افترقت. صعدت.. و.. نزلت. مسحت.. و.. انحشرت. تحركتْ ببطء. تريثت في الاستدارات المبهجة اللدنة، وانزلقت على السطوح الملساء، لتتجمد عند صدور آهة من الأجساد المجاورة. استطال اللمس فابتلت الأعضاء أكثر من مرةٍ قبل أن ينغمر الجسدان المتفتحان، الملتهبان، في احتدامٍ كعراك، بعد أن تحررا من ألبستهما تماماً. أطلق ما يشبه الزئير وهو يلج أحشاءها الملتهبة، وكيانها المكتظ بآهات تخرق مسامه وتنفلت حوافها في الصمت الصاخب. في غمرة الاندماج ذاك. في ذروة البهجة الفريدة، أحس بثمة أصابع تجوس ملامسةً أنحاء ظهره العاري. أصابع تنتفض، تنبض شجناً له طعم مختلف عن أصابع الحبيبة الوالج فيها، والمشغولة في التمسك بعنقه المطل على جسدها المفروش المفتوح في السواد المضيء وكأنه وردة جوري مرتوية في بستان. في غمرة الأشواق المباحة في الظلام.. في الاندماج والتداخل العذب، مدَّ ذراعه بحركة التفاف محيطاً بموقع الأصابع المندسة من الجوانب، وبكفٍ منبسطة هوت قابضةً على سخونةٍ خلفتها الأصابع المنسحبة.. لأريج السخونة التي احتوتها قبضته طعماً مختلفاً، جعله يمعن في محاولاته طوال الليل دون أن يفلح في القبض عليها. الأصابع السحرية المخلفة عسلها في المسام، في خواء القبضة الخائبة، بين الأصابع القابضة على حفنة من هواء الغرفة الحاشدة بالأنفاس، في صمت أبلغ من ضجيج، وظلام أسطع من نور. أصابع أفقدته شيئاً من بهجة الجسد المائج، الطيع بين ذراعيه. الأصابع العجيبة التي تتسلل عند احتدام اللهاث المكتوم، وعلى إيقاع الاهتزاز العنيف المصحوب بذيول الآهات وحواف الزئير المخنوق، المختلط بالأنات الخافتات، والآهات المترافقة مع ضحكاتٍ مختنقةٍ تحت الأغطية.
في الصبيحة التالية كنَّ يحدقنَّ فيه بعيون مرتوية. عيون أشعرته، كأنه مارس الحب تحت الأنظار وفي وضح النهار. عيون جعلته يستعيد شارداً، وهو يلوك وجبة الفطور، خاطر الأصابع الغريبة التي انتهكت جسده في الظلام . عيون أثارت سؤالاً مبهماً:
ـ هل كانت الأصابع في ذروة الحلكة والحراك حقيقيةً أم أنها قادمة من أرث خياله الجامح؟
في غبشة الصباح كان يعبر مع مفرزة قتالية صوب الضفة الأخرى.


====================
سلام إبراهيم - رواية – الإرسي – عن الدار المصرية في القاهرة كانون الأول 2008 فصل منها

pablo-picasso-fille-mandoline
صورة مفقودة
  • Like
التفاعلات: 4 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى