شيخة حليوى - قبلة على خدّ شجرة عارية

وجدا زاوية مناسبة في الحديقة العامة تكشفهم على البعض القليل وتخفيهم عن البعض الآخر. أطالت النظر إلى عينيه ثمّ انزلقت نظراتها إلى شفتيه. وهو أيضا فعل ذلك.

قبل أن تلتقي الشفاه توقّف فجأة وقال: معي أحمر شفاه لماذا لا تضعين القليل منه؟ ستكون القبلة أكمل. أعجبتها الفكرة، رغم أنّها استغربت من فكرة شابّ يحملُ في حقيبته أحمر شفاه. بحثت عن مرآة في حقيبتها ولم تجد. تطوّع هو أن يرسم الأحمر على شفتيها بهدوء ودقّة لا تخلوان من حنان واضح. أغمضت عينيها وتركته يرسمُ شفتيها الرفيعتين الرقيقتين. كلّما خرج اللون عن الإطار مسحه بطرف إصبعه، ثمّ عاد كي يُرمّم ما أفلت من يده.

-انتظر، سأذهب إلى الواجهة القريبة أرى فيها كيف يبدو الأحمر على شفاهي.

عادت بسرعة وكان ما زال ينتظر في مكانه وأحمر الشفاه بين يديه تحسّبا لتعديل طارئ.

بدا وأنّهما أصبحا جاهزيْن للقبلة الموعودة. اقتربا وقبل أن تلتقي الشفاه قال:

-ماذا لو فعلنا ذلك بعيون مفتوحة عكس القبل التي نراها في التلفاز؟

-لا أعرف. قد يكون الأمر مربكا.

-فلنجرب، لن نخسر شيئا.

اقتربا مرّة أخرى، مالا بجسديها العلوي كلّ نحو الآخر بينما ساقاهما بعيدان. عيناهما تنظران تارة إلى العيون وتارة إلى الشفاه. تراجعت فجأة.

-عيناكِ خائفتان.

-وعيناكَ أيضا.

-هل هذه أوّل قبلة لكِ؟

-نعم هي اوّل قبلة حقيقيّة.

-ماذا تعنين بحقيقيّة؟

-أقصد ليست مُتخيّلة، فقد قبّلتُ الكثيرين في خيالي. وأنتَ؟

-هذه أوّل قبلة متخيّلة.

-ماذا تقصد؟

-كنتُ أراقبكِ أكثر من مرّة وأنت تمرّين من هنا وأتخيّل كيف سأقبلكِ.

قبل دقائق كانت تقطعُ الطريق من مدرستها إلى محطّة الباص الذي يقلّها إلى قريتها البعيدة. وها هي الآن في حديقة عامّة تتهيّأ لقبلة مع شابٍ لا تعرفه.

فاجأها في الشّارع: هل تعرفين طعم القبلة الأولى؟-

لم تصفعه، لم تشح بوجهها عنه وتكمل طريقها ولم تشتمه بدلال الراغبة المُتمنّعة. استهوتها فكرة مجنونة، أن تقبّل شابا غريبا.

-لا أعرفه. لم أجرّبها بعد.

-هل نكتشف طعمها معا؟

-هنا في الشّارع؟

-لا هناك في الحديقة الكثير من الزوايا لا يراها أحد.

مشى وتبعته في صمت وهي تتلفّتُ حولها في قلقٍ. صعدا الطريق المؤديّة إلى الحديقة العامة المسوّرة بأشجار عالية. دخلا من بابها المقوّس الأخضر. في تلك الساعة آخر الظهيرة كانت الحديقة شبه خالية إلا من كهل هنا وامرأة متعبة هناك وأمّ تغنّي لطفلها كي ينام.

في زاوية بعيدة عن الجميع جلسا على المقعد الخشبيّ الذي اختاره الشاب.

تحسّست يدها. لأوّل مرّة لن تستعين بها وهي تدرّب نفسها على قبلة محتملة. تجعلُ من السبابة والإبهام فما وشفتين وتقبلهما بشغف. في قريتها الجبليّة هناك من يُقبّل الشجر والماعز وأحيانا الحجارة. في الغرف المُظلمة تصير القبلة صوتا خجولا لا أكثر. لاحظ الشابّ قلقها وتردّدها ثمّ قال:

-إنّها قبلة عابرة لا تحتملُ كلّ هذا القلق، سنعود بعدها غريبيْن ويمضي كلّ واحدٍ منّا في طريقه. إنّها تجربة لا أكثر في مسرح الحياة، أليست الحياة مسرحنا الأكبر؟

نعم هي بالفعل مسرحنا الأكبر. ما هي وظيفتك في هذا المسرح، أعني في الحياة؟-

مجرّد طالبٍ جامعيّ يتوق إلى إنهاء دراسته والسفر بعيدا عن هنا. وأنتِ؟-

-(ضحكت) أنا؟ مجرّد طالبة في المدرسة أتوق أن أبقى فيها إلى الأبد.

لماذا؟ هل هي ممتعة إلى هذا الحدّ؟-

-أحيانا. هي فقط تجعلني قيد الحلم دائما، فتظلّ أحلامي مؤجّلة.

ساد صمتٌ قصير بينهما استغلّه الشاب كي يقترب منها مستعدّا للقبلة الموعودة.

انغمست معه أخيرا في قبلة جافّة متردّدة. بالكاد تشعر برطوبة شفتيه. كان هو قد أغمض عينيه وظلّت عيونها مفتوحة.

من بين الشجر خرجت مجموعة من الشباب والشابات. تحلّقوا حولهما في حركة احتفاليّة جدّا وراحوا يصفّقون بحرارة. سلموا على الشّاب مهنّئين وبعضهم ربّت على كتفه كأنّه جنديٌّ عاد للتوّ من معركة عادلة. أكبرهم سنّا قال للشابّ بهدوء:

-كنتُ أتوقّع حرارة أكثر في المشهد ولكنّك أقنعتني. لا أنكر أنّ هناك تطوّرا في أدائكَ. في انتظار الدهشة الكبرى، أعرف أنّها ستأتي.

والفتاة غائبة عن مشهدهم، تكاد تصير شجرة تظلّل المقعد أو المقعد نفسه. وهو يمسح الأحمر عن شفتيه التفت الشابّ نحوها وقال:

-اعتذر منكِ، لقد كانت القبلة في الحديقة العامة مشهدا في مسرحنا التجريبيّ المتنقّل. نحن مجموعة من الشباب والشابات نؤمن أنّ الشارع هو المسرح الأصدق. وكان اليوم دوري في اختيار مشهد عفوي وليد اللحظة. أعتذر مرّة أخرى وأشهد أنّك شريكة بارعة.

زاد شعورها بأنّها شجرة عارية لا ظلّ لها. هزّت رأسها، ثمّ وقفت فجأة ومشت حتّى وسط الحديقة وقالت بصوت عالٍ واثق:

-أيّها الجمهور الرائع شكرا على تصفيقكم، ولكنّ المشهد لم ينته بعد. لم تُسدل الستائر بعد. لقد خرج شريكي عن السيناريو ولكن عذره أنّه ممثّل مبتدئ.

وسط دهشة الحضور تعود إلى المقعد بجانب الشابّ وتقول له بصوتٍ عالٍ:

-هيّا أيّها الشّاب، ألم تقلّ إنّ الحياة مسرح كبير؟ هل تغادر مسرحك ولم تؤدّ دورك بما يرضي جمهورك الرائع؟ لا بأس لو حسّنت مهاراتك في التمثيل وفي التقبيل. ولا أخفي عليك أنني حين أجمع سبابتي وإبهامي على شكل فم تجريبيّ متنقّل تأتي القبلة أشهى وأجمل من قبلتك. حاول أن تعمل على تحسينها، تحسين قبلتك، ليس في الحدائق العامة بل في الغرف المظلمة.

تقترب منه ثمّ تكوّر سبّابتها وإبهامها على شكل فمّ وتلصقهما بفم الشابّ. تقبّلها بشغف قبلة طويلة وحميميّة جدّا. كان هو كالمأخوذ وهي تشدّ رأسه بقوّة نحوها وتغلقُ فمه بأصابعها.

من باب الحديقة ركضت فجأة نحو الفتاة مجموعة كبيرة من الفتيات في مثل عمرها ورحن يصفّقن لها بحرارة ويحضنّها ويرقصن حولها وسط صيحات التشجيع والفرح وجمهور آخر يقفُ مذهولا أمام المشهد:

– لقد أبهرتنا! أدهشتنا. هذا أجمل وأقوى دور تقومين به على الإطلاق. ليتَ المعلّم كان معنا حتّى يرى هذا التطوّر في أدائكِ. أنتِ ممثّلة رهيبة.

-شكرا يا بنات. لا أنكر أنّني توتّرت قليلا في البداية ولكنّي تداركت الأمر لاحقا.

قامت من مقعدها واثقة وخاطبت جمهور الشّاب:

– شكرا لحسن متابعتكم، كنتم جمهورا رائعا ومتفهّما. ليس من السّهل أن أقف لأوّل مرّة أمام جمهور متمرّس في المسرح وقد كان جمهوري حتّى الآن زملائي في المدرسة ومعلّمي وطاولات الصّف هي خشبة المسرح الرئيسيّة. أعترف أمامكم أنّ الشارع مسرحٌ متفوّق جدّا.

صار الشّاب شجرة عارية. اقتربت منه وطبعت قبلة ناعمة على خدّه:

– انتهى دوري في مشهدكِ الّذي تسلّلتُ إليه، ولكنّي ما زلتُ أنتظر الدهشة الكبرى أيّها الشّاب. قد أعيرك فمي المتنقّل في مشاهدكِ القادمة على مسرح الشّارع.

خارج الحديقة تسارعت خطواتها وهي تودّع صديقاتها:

– سيفوتني الباص مرّة أخرى، ولكنّي ضمنت علامتي غدا في مادة المسرح. إلى اللقاء.



38317483-a324-49fb-98ac-bdc07ede8631.jpg
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى