أحمد درويش - صراع الراوي والفيلسوف في قصص يوسف الشاروني

يعد الكاتب القصصي "يوسف الشاروني" واحدا من أبرز كتاب القصة القصيرة في الوطن العربي في نصف القرن الأخير، ويعتمد بروزه على ركائز من الكم والكيف، واتساع مجال المناورة أمام قلم قصصي موهوب، ومثقف.

بين النصف الثاني من الأربعينيات والنصف الأول من التسعينيات، وعلى امتداد نحو نصف قرن ظل القارىء العربي يتابع إنتاج الشاروني الذي قد تتنوع مناخاته ووسائله الفنية وموضوعاته المثارة بتنوع مناخات وأذواق العقود الخمسة التي عبرتها، ولكنها تلتقي رغم التنوع حول محور الجدية في التناول، وعدم الاستسلام للأنماط المألوفة، وتداخل الموهبة العفوية مع الثقافة المكتسبة والتخطيط الواعي في صراع ليس من الضروري أن يصل بالقصة في كل المرات إلى درجة الكمال، ولكنه يعكس الطموح والحلم والمحاولة والمشارفة والإخفاق أحيانا، ولعله من خلال هذه الدرجات يعكس بصدق ملامح التجربة الإنسانية ذاتها.

والشاروني، شأنه في ذلك شأن الأقلام القصصية الكبيرة، لديه القدرة على أن يفجر "القابلية للقص" في الأشياء المألوفة المنطفئة، وربما كان هذا في ذاته يمثل تطورا فنيا أساسيا في تاريخ القصص المحلي والعالمي، ففي القديم كانت "قابلية القص" تنبع من غرابة الحدث وقدرته على الإدهاش من خلال مخالفته للواقع أو تباينه معه ومن ثم كان "الحدث الغريب" هو البطل، بصرف النظر عن راويه الذي يمكن أن يكون فردا أو جماعة، وكان النص الغريب يظل مفتوحا ويتم تناول طرف الخيط في كل جيل ليتم النسيج عليه.

الالتقاط البصري

لكن القاص المعاصر ربما شأنه في ذلك شأن الشاعر المعاصر أيضا، يحاول أن يفجر الدهشة في الحدث العادي، أو في بعض جوانبه لتتولد أمامه "قابلية القص" دون أن يتابعها بالضرورة إلى نهاية الشوط، وربما يتم تفجير الدهشة من خلال كسر الألفة، وقد يتجسد ذلك عبر الاقتراب الشديد أو الابتعاد الشديد، فتتجسد في الحالتين رؤى قد لا تلتفت إليها أنفاس الحياة اليومية مع أنها جزء منها، إن حاسة الالتقاط البصري مثلا تستيقظ عند أحد أبطال الشاروني مجهولي الاسم، وما أكثرهم، في قصة "الطريق إلى المعتقل" فإذا بالصبي الصامت الذي لا يستطيع أن يكسر حاجز الصمت مع والده الذي يصطحبه يقترب بنا من أشياء لا نكاد نلمحها، فعندما يدخلان محطة السكة الحديدية لاستقلال القطار يتراءى المكان من خلال عينيه على النحو التالي: "ارتقينا الدرج، ودلفنا بين الأعمدة، الكثيرة المنتصبة، وعرج والدي جهة النافذة الحديدية الضيقة، وامتصته الزحمة وسمعنا صفير القطار، ونفذنا من باب إلى باب، ثم انخفضنا في دهليز رطب مستطيل ثم عدنا فارتفعنا على سطح الأرض ونفذنا من باب ثم من آخر، وشاهدت الرصيف يعج بالحمالين والحقائب والمتعانقين والأطفال والسيدات، ثم ازدحم القطار بحيث بدا كأنما عزم على ألا يزدرد آخر، واحتشدت في نوافذه وممراته وأبوابه رءوس وأيد ومجموعة من المناديل المترنحة القذرة، وبدا بعرباته الست الضيقة المنخفضة ونوافذه الكثيرة المتعددة وسطحه المقوس كأنما هو سلسلة فقرية لحيوان جيولوجي هائل بائد قد علاها فجأة جيش كبير من النمل".

إن المعالجة البصرية هنا لم تكتف برصد ما يتسرب إلى الحدقة من خلال المشهد "العادي" وإنما حولته إلى محاولة احتواء ما تتسرب إليه الحدقة من خلال المشهد "القصصي" ومن خلال ترسيب العناصر الجزئية للموقف الواقعي قادتنا في انسياب إلى الموقف "المجازي" من خلال التشبيه الذي ظهرت خلاله الحيوانات الجيولوجية البائدة إلى جانب جيوش النمل الزاحفة، أي أن الحدقة اتسعت لتشمل في لقطة واحدة أكبر مخلوق متصور، وأصغر مخلوق واقع، بعد أن امتلأت جوانبها بصور المشهد العادي.

وربما قادتنا هذه الملاحظة الأخيرة إلى ملاحظة يحيى حقي التي أبداها بصدد قلة استخدام يوسف الشاروني للتشبيه في كتاباته القصصية، حتى أطلق عليه عبارة "عشماوي التشبيه"، وقد لا يتفق القارىء مع يحيى حقي في هذه الملاحظة حيث تظهر أدوات التشبيه في وقتها الملائم في كتابات الشاروني، ففي قصته الشهيرة "دفاع منتصف الليل" والتي كتبها في أوائل الخمسينيات نجد مواقف تتزاحم فيها التشبيهات. بل إن التشبيه ليوظف أحيانا لتجسيد لحظة مجردة تتراسل من خلالها الحواس، كما حدث في قصة "سرقة بالطابق السادس" حيث تصور الجلسة الرتيبة في مقهى بلدي "وقد التصق الناس بمقاعدهم والتمعت وجوههم وتركوا أقدامهم أمامهم مدلاة كأنهم ملل متكاتف أسود، أو كأنهم ذباب أليف قد اطمأن إلى قضاء ليلة في هذا المكان"، أما الطرقات الضيقة بمنازلها العالية في نفس القصة "فكأنها أخاديد حفرتها أظافر مجنونة".

والالتقاط السمعي

إن حاسة الالتقاط السمعي تبدو أقل ورودا، مع أنها تكون أكثر توقعا في بعض المواقف القصصية عند الشاروني، فبطل قصة "سرقة بالطابق السادس" وهو موظف صامت منعزل تكاد تذكرنا علاقاته برفاق العمل ببطل قصة "المعطف" لجوجول "أكاكي أكاكي فيتش"، هذا الموظف الذي يسكن غرفة بالطابق السادس ولا يتحدث إلى جيرانه ولا إلى أهل الحي، ويكتفي بأن يعيش في عالمه الداخلي على أصداء قصة حب قديمة باهتة بدأت تتآكل أطرافها، وتتحول إلى حب صوفي، تتغير الحياة من حوله فجأة حين يكتشف وقوع سرقة بمحتويات غرفته الفقيرة ويتزايد اهتمام الجيران والزملاء به تزايدا يكاد يزعجه، بل إن جارته الإيطالية لتقترب منه في لمحة خاطفة اقترابا ينعش الصورة الباهتة للمرأة في خياله، ولقد كان عالم الصمت المحيط به مغريا على أن تلتقط أذنه تنويعات لعالم المسموعات من حوله، ولقد فعلت ذلك بجدارة في مرات قليلة، عندما دخل مركز البوليس للمرة الأولى فوقعت عينه على كثير من الأشياء التي رصدها، ووقعت أذنه على "صفوف من السلاسل والقيود المعتمة البيضاء حتى لكأنما هناك صليل خافت يملأ المكان"، لكن الموقف هنا وفي كثير من لحظات أبطال الشاروني المتفردين كان يتطلب مزيدا من رهافة السمع.

إن "المكان القصصي" الذي يصوغه الشاروني، يبدو غير منعزل عن المكان الواقعي، وغير مطابق له في آن واحد، وهو إذا كان يستعين على تشكيله حينا بالرصد وحينا بالربط المباشر من خلال أدوات التشبيه، فإنه يلجأ أحيانا إلى وسائل الربط غير المباشر من خلال تجاور المشاهد التي تساعد على خلق انطباعات متماثلة دون التعليق عليها، وقد لجأ الشاروني إلى هذا التكنيك في فترة مبكرة، ربما قبل شيوع طريقة "تيار الوعي" في الكتابة القصصية العربية، وقصة "الوباء"- التي كتبها سنة 1950، والتي تتحدث عن امرأة شابة اضطرت لأن تتاجر بجسدها، وقد عزمت على أن تطهر نفسها من خلال رحلة حج لولا حصار وباء الكوليرا للمدينة التي تعيش فيها- خير مثال على ذلك.

الاستدعاء الفني

إن الصراع بين الفنان "اللاواعي" والمثقف المخطط "الواعي" ربما يتبدى في قصتين شهيرتين للشاروني، كتبت أولاهما في أواخر الأربعينيات، وكتبت الثانية في بداية الخمسينيات، وهما "زيطة صانع العاهات" سنة 1949، و"مصرع عباس الحلو" سنة 1951، وقد أهديتا معا إلى نجيب محفوظ، صاحب "زقاق المدق" لأن "زيطة" و"عباس" هما في الواقع من شخصيات رواية "زقاق المدق" التى كانت قد نشرت سنة 1947، وقد أراد الشاروني أن يستدعي الشخصيتين من "أرشيف" نجيب محفوظ لكي يفتح ملفاتهما من جديد، ناسجا بذلك لونا من الكتابة القصصية، بدا محيرا لبعض النقاد مع أنه ينتمي في جملته إلى فن كتابة "قول على قول" وهو فن عرف الأدب العربي من قبل بعض صوره في أعمال مثل "رسالة الغفران" التي قد تمثل من هذه الزاوية صورة من صور استدعاء "ملفات" الأعشى ولبيد وزهير وعلقمة وغيرهم من الشعراء والعلماء والرواة الأقدمين، وإن كان الاستدعاء يتم هذه المرة من وثائق تاريخية لا تخلو من الالتباس بملامح قصصية أسطورية، والاستدعاء في الحالتين قديما وحديثا يراد منه إعادة انطلاق مجرى الرواية الذي كان قد توقف على لسان الراوي الأول، والتحكم في تشكيله وتشعبه من جديد، وليس هذا المنزع الفني أيضا بعيدا عما شاع فيما بعد في الأدب العالمي والمحلي، وعرف باسم "التناص" Intertextualite حيث يستدفىء النص بنصوص سابقة عليه، ويستعين بروحها في ضخ دماء جديدة، ومذاقات مختلفة في النص الأدبي المستلهم والمستلهم منه على سواء، بل إن فكرة "إعادة التوزيع الموسيقي"، ليست بعيدة عن هذا المجال، حيث تختلط النغمات التي تضخها موهبة المبدع الأول والمبدع الثاني.

إن "زيطة" و"عباس الحلو" عندما تم إعادة تناولهما على يد الشاروني تم اللجوء في معالجتهما إلى فكرة "المروحة" من خلال توسيع الدائرة المكانية والزمانية وأيضا، تمت محاولة إلباس الفكرة الفنية أثوابا جديدة أو التطريز على الأقل على أثوابها القديمة، فزيطة الذي توفي في السجن منذ أيام يتقدم القاص بالتماس إلى الجهات المختصة مطالبا بأن يصنعوا له تمثالا ويقيموه على رأس زقاق المدق، راجيا أن يفصل حضرات المختصين كل الفصل بين ذلك العمل الإضافي الذي أدى به إلى السجن، وأخذ جزاء عنه، وبين هذا العمل البطولي الذي وقف زيطة حياته عليه والفهم الرائع لمعنى العاهة الذي كان يدركه بحدسه وعبقريته، وكيف استطاع وحده أن يواجه مدينة صاخبة ضاجة، وأن يلبي لها في إخلاص حاجة ملحة ضرورية، ومن خلال هذه النظرة الفنية وتأثرا بمناخ الحرب العالمية الثانية التي ازدهرت صناعة زيطة في صنع العاهات خلالها، تتسع الدائرة لكي ينضم إلى زيطة آخرون، عُدّوا زعماء وأبطالا على حين عُدّ هو مجرما.

قابلية القص

إن هذا الزخم القصصي المكثف الذي تسانده شبكة من التخطيط المحكم، يتحقق على نحو جيد في كثير من قصص الشاروني، حيث يستفيد "الراوي" من خبرة "الفيلسوف" دون أن يستسلم له، وربما تكون قصة "الأم والوحش" التي كتبت سنة 1970، واحدة من النماذج الجيدة المحكمة عند الشاروني، فالقصة تتحقق فيها عناصر "قابلية القص" بشكليها القديم والمحدث، فغرابة الحدث وهي منطلق الشكل القديم تتحقق من خلال قصة الأم الشابة الشجاعة التي تجد نفسها وحيدة مع طفلها في حقل ناء وتتعرض لهجوم من ضبع فتقاوم بشراسة حتى تنجو بطفلها بعد أن تفقأ عيني الضبع وتفقد ثلاثا من أصابع يدها، لكن هذه الغرابة في الحكاية، تشكل مجرد خميرة يمكن أن تصاغ على مستويات متعددة، فيمكن أن تكون مجرد خبر صحفي ينقله مراسل الصحيفة في ثلاثة أسطر، ويمكن أن تكون أسطورة مقتضبة أو ممتدة تلوكها ألسنة العجائز على أعتاب المنازل في القرى قتلا للوقت، ويمكن أن تتحول كذلك إلى نص "قابل للقص" من خلال الوسائل الفنية التي أشرنا إلى بعضها في صدر هذه الدراسة، والقاص يتنبه إلى هذه الإمكانات من خلال العناوين الداخلية التي وضعها في قصته وأولها عنوان "لقطة قريبة"، وقد اندرجت تحت المعالجة الفنية الحديثة، ثم عنوان "لقطة بعيدة" الذي اندرجت تحته الصورتان الأخريان، لكن هذا التنبه لا يفسد عليه المناخ الفني الذي يتطلبه "الراوي" بل ربما زاده تألقا من خلال إظهار الفرق بين "القص العادي" و"القص الفني"، فمراسل إحدى الصحف أبرق إلى صحيفته يقول عن الحادث: "وقعت مساء أمس معركة ضارية بين أم بقرية الكرنك مركز الأقصر وضبع ضخم دفاعا عن طفلها، وقد استطاعت الأم في النهاية أن تصرع الوحش بشجاعتها دون أن تصاب إلا بخدوش قليلة".

وجوهر الحكاية التي نقلها المراسل في أربعة سطور، حكاها القاص في مائتين وعشرين سطرا، دون أن يحس المتلقي بأي قدر من التزيد، بل إنه ربما أحس بلون من العطش الفني يتطلب الارتواء من خلال اقتراب أكثر من أعماق النفس، إن المكان يكاد يلعب الدور الرئيسي ويحقق خصوصية الموقف وأرض الصراع التي تواجه عليها الأم ضبعا يتأهل لافتراس طفلها: "الجسر بعيد عن القرية، واقتراب الشمس من نهاية الأفق الغربي، يزيد المكان وحشة ووحدة وسكونا، والحيوان يقف متربصا، لعله تأهل لاقتناص فريسته ثم اكتشف عنصرا دخيلا فتريث يستوثق من قدرة هذا الخصم".

إن تهيئة المكان المتفرد، مضافا إليه الزمان الذي يقترب من حافة الغروب استعدادا للإيغال في وحشة الليل، يجعلنا في مسرح مغلق، لا تقع فيه الحواس إلا على الخصمين الرئيسيين، ومن ثم فمجال اقتراب الحدقة في اللقطة القريبة لن يكون الرصد البصري أو السمعي كما رأينا من قبل في "الطريق إلى المعتقل" أو "دفاع منتصف الليل"، أو "سرقة بالطابق السادس" وإنما سيكون الاقتراب اختراقا لرؤية الداخل سواء في الأم أو في الوحش، ومحاولة لرصد التأهب والتأهب المضاد، واحتساب الخطوة القادمة، والوقوع في فخ المفاجأة غير المتوقع، والاقتراب من حافة الهاوية، والإفلات بمزيج من المصادفة- المعجزة، والشجاعة الخارقة وتحسس دقات القلب وابتلال الجسد ووهن الأعضاء وتيقظ الروح خلال ذلك كله، ومن الطبيعي أن ينشط "الوعي" خلال هذه الثواني التي تمر بطيئة ويتدفق تياره، فيرفد الموقف برؤى تساعد على التماسك أو تزيد الخوف، وكثير من هذه الرؤى يتحكم فيه الراوي، وقليل منها يقترحه الفيلسوف.

من الحكاية إلى الرصد

إن الحديث عن التطور الذي تم في فن القصص من "الحكاية المتميزة" إلى "الرصد المتميز" ربما يقترب بنا من نقطة أخرى هي مفهوم "الجمال" في العمل الأدبي، ولا شك أن تطورا جذريا قد حدث في الفن القصصي والشعري بل في الفنون عامة حول معنى أن يكون المشهد "جميلا"، وعلى حين كانت تستأثر بعض الأشياء بمفهوم المشهد الجميل كالقمر والبحيرة وخضرة الريف، والوجه الحسن، ولحظة الفجر أو الأصيل.. وغير ذلك، فإن الأدب والفن منذ القرن الماضي بدأ يبحث عن الجمال في الأشياء العادية وحتى في الأشياء القبيحة، ولم تكن رؤية "الأزهار" في "الشر" عند بودلير إلا مظهرا لفلسفة الجمال تلك، وكذلك كان جاك بريفير يبحث عن الشعر في مداخل المناجم وغبار الفحم، ودخان السجائر وزحمة الأسواق، وأرصفة الطرق، وأصبح من المألوف أن يقال: "إن لوحة محكمة لخنفساء، خير من لوحة غير محكمة لوجه حسناء"، ولعله من هذه الناحية أقدم يوسف الشاروني على تجربة البحث عن الجمال في القبح الخالص في قصتين متميزتين هما "اعتراف ضيق الخلق والمثانة" سنة 1980، و"المقرف المضحك أو من تاريخ حياة مؤخرة" سنة 1983، ومن اللافت للنظر أن الأفكار الفنية المبتكرة عند الشاروني، تقدم في شكل ثنائيات كما حدث في تجربة "التناص" في "زيطة" و"مصرع عباس الحلو"، وقد يكون حظ التجربة الأولى من الثنائية أقرب إلى روح "الراوي" بينما تكون الثانية أقرب إلى روح "الفيلسوف"، وربما يكون ذلك لأنها تكتب بقدر أكبر من الوعي بعد أن تتلقى التجربة الأولى، صدى طيبا، ولقد لاحظنا ذلك في الثنائية التي علقت على "زقاق المدق"، ويمكن أن تلاحظ ذلك أيضا هنا في ثنائية "القبح الجميل"، فالصبي الذي خلق بعيب خلقي في المثانة، كان يدفعه إلى التبول اللا إرادي في صباه، وكثرة الاستئذان من مدرسة الفصل للذهاب إلى دورة المياه، وسط سخرية زملائه وسخرية المدرسين فيما بعد، هذا الصبي سيختلف مع صديقه "ابن عسكري النقطة" فيقذفه بطوبة تشج رأسه، وحين يهرب خوفا من "العسكري" تهدىء أمه الأمور وتطيب خاطر زوجة العسكري، لكن الصبي سوف يبل الفراش هذه الليلة دون أن يتعرض لكثير من التأنيب، وفي صباه سوف يميل إلى الثقافة ويكتب الشعر والقصة ويجرب الرسم والنحت، وبعد التخرج سوف يعمل في مجال الاقتصاد في "شركة التأمين العالمية" ولكنه سوف يعاني في كل مراحله من مشكلة تنظيم "إخراج" القدر الزائد على طاقة المثانة، وسيدفعه ذلك إلى تتبع نظم دورات المياه على مستوى الأسر والبيوت والشوارع والدول، وسوف تنتهي حياته في الزنزانة لأنه قتل "الشاويش" عرفة عبده علي زيدان، الذي يقاسمه الشقة لخلافه مع زوجته على استخدام دورة المياه، أليس لافتا للنظر أن يكون الخلاف مع ابن "العسكري" في الصغر، وقتل "الشاويش" صادرا من "المثقف" الذي يعمل في مجال "الاقتصاد" والذي يعاني من مشكلة تنظيم "الإخراج" والتنفيس الضروري لسلامة البدن؟ أليس هذا تعبيرا من بعض الزوايا عن الأزمة الكامنة بين الاقتصاد والثقافة والنظم العسكرية حول تنظيم "التنفيس" في مجتمعاتنا؟ ومع ذلك فالقصة لم تقل ذلك، ولو أنها قالته لأفسدت كثيرا من الأشياء، فلقد كان "الراوي" هو الذي يتحرك على مداره فيرمز ويعالج ويحكي ويشغلنا عن كثير من الأشياء إلا عن متابعة المسكين "ضيق الخلق والمثانة".

ومع أن منهجا قريبا يتبع في قصة "تاريخ حياة مؤخرة" فيتم التركيز على لون آخر من "الإخراج" ويتجه التفكير إلى المؤخرة بدلا من الرأس، وإلى الاهتمام بأوراق الصحف لا من أجل ما تكتبه من أخبار سياسية أو اجتماعية، بل من أجل فائدتها في دورات المياه، ولا يكون للحرب من نتائج بالنسبة للبطل إلا أن مؤخرته نجت من شظية كادت تطيح بها، وأن أوراق "التواليت" ارتفع سعرها وكادت تختفي من الأسواق، مع أن "القاص" ينجح في تركيز الاهتمام حول هذه البؤرة، فإن جانب الوثائق الذي ازدحمت به "مؤخرة" القصة، التي جمعت من العصر المملوكي واليابان وكوريا وسان فرانسيسكو والهند وسجون مصر، أثقل الحركة القصصية، ومال بالميزان قليلا لصالح الجانب الفلسفي التأملي.

الرغبة في التجريب

إن هذا الصراع المستمر بين "الراوي" و"الفيلسوف" في كتابات يوسف الشاروني القصصية، يشف عن رغبة مستمرة في "التجريب" وعن أمل في إحكام دورة العلاقة بين الثقافة والموهبة، وهي رغبات وآمال لا يتم تحقيقها بين يوم وليلة، وغالبا ما يدفع الرواد الذين يطرحون التجربة جانبا كبيرا من الثمن، من خلال انطفاء البريق عن بعض أعمالهم، وازدهار بعضها الآخر، ولكنهم يمهدون الطريق أمام أجيال تالية، لطرح محاولات ترتكز على تجربة الرواد بكل جوانبها، وكذلك فعل الشاروني وجيله من الرواد مع القصة القصيرة العربية على مدى نصف قرن متصل.

1994

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى