عبد الحميد البرنس - الخطوة التالية للأنثى

خرجا للتو، من مكتب حامد عثمان المكيف، في أحد مباني الجامعة الأمريكية.
كانت تشير إلى نحو الثامنة مساء.
وكان الهواء الساخن نوعا ما باهتا، مشبعا حد الاختناق بمخلفات عوادم مئات السيارات المتزاحمة، وقد بدا في شحوبه وركوده ذاك مخيما، أعلى رأسيهما، لا مثل ستارة قاتمة من كربون، بل مثل معطف رصاصي قديم باهت معلّق، بإهمال شديد، على مشجب.
وهما كذلك متجاوران، وحتى تقدما قليلا، في شارع محمد محمود، باتجاه ميدان التحرير القريب، لم يتوقع حامد عثمان أبدا، أو حتى خلال أحد أكثر أحلامه تلك يقظة وشاعرية، أن ينتهي به المطاف، بعد مرور ساعات جدُّ قليلة، على فراش مها الخاتم لأول مرة، أو كما لو أن الفردوس يقبع بنعيمه الموعود مباشرة خلف أسوار الصد العنيد المخاتل. فكيف إذن لا تتباعد توقعاته، ومها الخاتم، عهدها داخل المكتب، كانت لا تزال تسير ملتفة، منذ أن لمسا بأقدامهما نهر الطريق الجاف، بالصمت الكثيف الغامض كثير الاحتجاج نفسه، الذي أعقب محاولة تقبيله الأولى والفاشلة لها، قبل نحو الساعة، وقد بدت له فجأة إذ ذاك، مثل جسد خال من حياة، على الرغم مما أبدت عندها من مهارة، لا تنقصها الحيوية، في صنع حائط صد منيع فوري وحاسم، حال دونه ونيلها، كما قرر هو مبادرا، بل رغب بشدة منذ أن رآها أول مرة، في باحة مكتب الأمم المتحدة، في المهندسين، وهي تتقدم باتجاهه، كشيء لذيذ عبرَ عتبة الحلم، على غير توقع، إلى الواقع.
بعدها، ولا يدري هو كيف تمّ ذلك، وجد حامد عثمان نفسه، وهو يتراجع، ويعود ليجلس بالضبط كالمهزوم في معركة على كرسيه الدوار وراء المكتب، شاعرا بفداحة شوق الرغبة الحبيس ذاك الموّار بداخله، وهو ينكسر على العتبات الصَّلدة لذلك "المدعو في القواميس": "الحرج"، أو كما لو أنّه قام للحين واللحظة بالطرق، على باب غريب. وكان لا يزال يلف حامد عثمان ذلك الشعور المتفاقم بالحرج والخذلان التامّ، وقد أطبق بقسوة على خناقة، عندما رفعتْ مها الخاتم رأسها أخيرا بما بدا عذوبة مباغتة.
وقالت:
"أرغب في السهر معك الليلة، يا حامد!".
فكر حامد عثمان، على خلفية تجربة سماعية أخرى، أن الأمر إذن لم يكن رفضا أو ممانعة بل جزءا من عملية تحديد أدوار قد يقوم بها خبث أنثوي حميد طابعه الدلال، أو لا بد، قد تنطوي عليه لعبة الغرام الخالدة. وما لبث أن مر على ذهنه كما الغيمة القريبة تُبسط ظلا على الأرض، حزنٌ خاطف، ذلك أن وعيه النظري بالعالم قد يبدو ربما يا للفخر كقارة أما تجاربه العملية وأسف لا يُحتمل عليها، فلا تكاد تتجاوز حجم زنزانة ضيّقة، كعجيزةِ فيل.
ومع أنّ حامد عثمان أدرك هكذا مبكرا أن عليه أن يبتعد عن دفة القيادة، على الرغم من هبوب نسمة تلك العذوبة المباغتة التي أبدتها مها الخاتم منذ دقائق، والتي خففت من شعوره الذاتي المتفاقم ذاك أنّه أفسد خططه وجهوده بتسرع أخرق آخر لعين، لم يبدُ على وجهها هي، حتى بعد أن ألقتْ تلك الدعوة بالسهر "معا"، ما ينبئ أبدا أن طريق الوصول، إلى ما بين فخذيها، ليست بمثل ذلك الطول والعناء المتخيلين. زاد من معاناة حامد عثمان وارتباكه وتعقد حيرته، عندما رآها تاليا، وهي تخرج من شنطة يدها أدوات للزينة بينها مرآة صغيرة، فأعطاها حامد عثمان ظهره، وهو يتوقف قبالة حمالة الكتب الخشبية البيضاء الصغيرة عند الركن القصي من مكتبه، حيث بدأ يتأمّل شاردا، في أحد أجزاء موسوعة حنّا بطاطو، عن تاريخ العراق، من دون أن يرى الموسوعة حقا، بينما أذنه هناك، وهو يسمعها، وهي تشرع في الدندنة، وصوتها أسى كثيف في غير موضعه، بأغنية لفيروز، من كلمات مرسي جميل عزيز، فاطمأنت نفسه قليلا.
ما فات على حامد عثمان إدراكه في حينه وظهره لا يزال لمها الخاتم المنشغلة بتفاصيل وجهها أن الأغنية بدت على لسانها في خفوتها وترجيعها البكائي ذاك مجردة تماما من دفق الثورة وتوهج خصوبة إرادة الحياة اللذين يميزانها. في الواقع، ما حكم مركز تفكيره في أثناء وقفته، وأعماه عن إدراك الطابع الاستسلامي وإن شئت سمّه "ذاتي العزاء" لطريقة مها الخاتم تلك في الغناء، لم يكن سوى التشوش، بالحنين إلى الوحل، التمرغ في قعر القاع السحيق الآسن للرغبة، وإن شئت كذلك سمّه الذوبان فيما هو دنيء ومظلّم، بل حتى فاسد، وإن يكن ناعما أو خشنا أو حتى مهلكا أو لزجا لا يهم، بقدر أهمية أن يكون ملموسا وذا حسيّة جارحة. وكان حامد عثمان قد بدأ يفقد حاسة اللمس الحميم لديه من قلّة استعمال وطول تخزين. وقد استحضر هويته، في أثناء وقفته تلك نفسها، قبالة موسوعة حنّا بطاطو، كمساعد باحث بالجامعة الأمريكية، أخذ حامد عثمان يفكر: "ليس بالوسع إذن التنبؤ أبدا بما قد تكون عليه الخطوة التالية للأنثى".


william-adolphe-bouguereau-art-paintings.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى