قصة ايروتيكة عزيز باكوش - ايروتيكا/ايروتيكا

تمطى وتثاءب فجأة, ثم دفع الى الهواء جسده المتهالك , من فرط العياء والتدخين طوال الليل ناحية المدينة العتيقة.
في الخارج,الجو رائع , هادئ، شفاف منعش و يشد الروح, نسيم الزوال يسربل برداء من النشوة والحركة , الأجساد ,والأزهار، الأفكار والذكريات .
داخل القاعة , دخان , ظلام, صمت يلف الأشباح المنغرسة في أطياف انسيابية , تبرز ثم تتوارى, فتبدو شبيهة بحقل أعشاب برية .
قبل العرض بدقائق, صهد تانفه الخياشيم، زفرات تجف لها المسام, سحب دخان كثيفة محورية , تمتطي صهوة فضاء رمادي شاحب، تلوحه، ترسم سياجات , تتفاعل ,وتتقاطع مع الحركات الزافرة هادرة دون يأس .
من جرح هذا السفر, حيث يتجانس الترقب الكسيح, بالصخب الهادر, تتسلل موجة زعيق لا ينقطع, فرقعات لا تهدأ , إلا عند الانبطاح فوق كرسي مهترىء, كخيل صاهلة جموح.
باب السينما كبير ومطواع , لا يكف عن الالتفاف يمينا او يسارا, يسمح ببصيص ضوء على رأس الثانية, ومع كل ولوج , يتسلل ضوء خاطف, ما يلبث أن يتوارى, كي يغرق الفضاء من جديد في بحر عتيم . يشقه ضوء مصباح "الجلاسة" , يتفحص الأجسام التي تدلف , والتي تتباين قاماتها, أهواؤها ,ليقودها الى حيث تجلس , ملامح كسيحة منخورة هدها السأم, سحنات رفلاء سودتها أقبية بلا هواء بلا سخاء, شباب من كل الاعمار , يؤثث التسيب انتظاراتهم , وتشيد الفوضى أدراج مجدها الأزلي في سلوكاتهم من النظرة الى الجلوس ,مصحوبة بفرقعات الأصابع, وسلخ فضلات عباد الشمس , وتعديل القبعات. حجت لتستمتع بعرضين مثيرين .
هن أيضا شابات في عمر الزهور, كاعبات بقاماتهن الشهواء يرتدين ألبسة مشجرة , تعصر بقسوة ولذة سيقانهن المكتنزات , الملتهبات بالتلاحم والالتصاق. وهن يفرقعن أعلاكا من كل الأنواع,ويطردن بوهم كالح أنفاسا مفترضة دون كلل أو ملل.
من عمق هذا الفضاء الضاج لحد الصرع, تملكني فزع غير عادي. وتساءلت بصوت مسموع, آه لو تبدأ الفرجة الآن..
القاعة امتلأت عن آخرها, وفاضت , بما في ذلك الممرات المخصصة للعبور , فما مبرر هذا الازدحام وهذا التأخير؟.
ينبغي على الفرد أن يكون مفتونا بالشاشة ,حتى تلتهمه مثل هذه الطقوس والمزارات , ويهوى عن آخره في طوفان جارف من العتمة والضجيج , اللعنة , اللعنة ,على هذا المكان الذي يقذفني إليه شيطان الجوع الرجيم , لأزج بنفسي في أحضان بركان بشري فائر .
صحيح, إني اعشق الفن السابع حد الجنون, لكني بالمقابل , أهيم بالصمت أيضا ف"بيريسيون" يقول إن أهم ما اخترعته السينما الناطقة, هو الصمت , فلماذا لا تحمل تلك القادمة إلينا من كل التخوم ..لحظة صمت؟
هاهي ذي فتائل الضوء الخجول المنزرعة في غوارب المكان تشرع في الأفول..من فوق ,ثمة فوهة مشعة, ترشق الستار الأبيض الفاقع بوابل من الأسماء والرموز والأرقام...وللوهلة الأولى , صمت رهيب.
" أ رفض رفضا تاما تدخل الكنيسة في السياسة , وارفض بشده البيان الصادر من الكاتدرائية, حيث انه بيان سياسي بحت ,ولا يمت لقدسية الكنيسة في شئ او رسالتها الرعويه. وأؤكد ان الكهنوت ليس له الحق في الترشيح في انتخابات مجلس الشعب او اي انتخابات سياسيه من قريب او بعيد. او التاثير علي الناخب المسيحي بأي صوره من الصور ضد او تأييد لأي مرشح سياسي . ويجب ان يحذوا البيان حذو الكنيسة ."
يستمر الصمت , وتدلف أجساد رشيقات , مسربلة بمسوح كنائسية فوق الممشى الأحمر الفاقع مسربلات بلباس يجفف ارض الكنيسة, تندلق تموجات بخور وقداس وصلبان, ربما تتهيأن لإحياء قداس وسط كاتدرائية القديس سانطوس, تكريما لأحد باباواتها تقديرا لعفته وسماحته ونبله
هواجس طافت بخاطري ,ارقب في نو ع من التوتر والاندهاش المشهد الذي ينداح أمامي , ممشى محفوف بشمعدانات تحترق, تعبره أشباح في صمت , أيقونات مرمرية مضمخة بطلاء الشوكران , تتدفق عبرها أمواج بخور روائحها تمور هنا وهناك, تتمطى عبر التعاميد المقببة والسرايا الضخمة الخارجة لتوها من فسيفساء تنغرس في جذور الروح .
الكل يفضي الى غرفة مظلمة جنباتها , حيث تنتصب طاولة كبيرة تناثرت فوقها بعبث أرواق وصحون وذهون , وعلى الردهة المختارة بذوق فوق طبقة قماش مزركش تمدد الكتاب المقدس .
"باسم المسيح ابن الرب يعلن كبير الأساقفة قداس المحفل الكبير .." وتابع في كهانة" الرجاء الصلاه من أجل مؤتمر الروح القدس بان الرب يفيض من روحه على كل شخص يريدالأمتلاء بالروح القدس ,ويريد أضرام هذه المواهب ,ويريد الأقتراب من الرب يسوع"
بهذا الكلام المبجل المرشوش بالرهبة والجلال , من تلك العيون الكابية في العتمة ستحل اللعنة وتنبجس الكارثة. عصابة سفاحة من كبار قساوسة الكنيسة الإنجيلية, تحضر فصول اخطر عملية تهريب ستمكن أفرادها من الاستيلاء على معظم ممتلكات الكنيسة و أنفس كنوزها بعاصمة الفاتيكان.
للوهلة الأولى ,حرصت على تتبع أطوار هذه الملحمة الجهنمية الرهيبة, لأنها تلامس تخوما حساسة لأحد أهم الأديان السماوية, لنتخيل أن أسقفا معمدا يتورط في مؤامرة, يردد الدعوات طوال الوقت ,على مقاومتها والتصدي لها بإيمان روحاني خارق, لكن فضاء القاعة الضاج ضيع على الفرصة ومنحني لذة الاستمتاع على مدى الساعتين , بشريط مسترسل من الصور والحركات الخرساء.
في لحظة , سرت داخلي قشعريرة لم أعهدها من قبل, ساد المكان صمت رهيب, كل شي يقبع بلا حراك, زلزال من السكينة خلخل تضاريس المكان, ثمة ميثاق ابدي مع الصمت يشرعه ظرف طارئ ,تجتاح القاعة هدنة تمنحها مسحة سلام سفلي خارق . فظيع هذا الذي يقع. رهيب ومهول لحد الجنون , لم أكن أتخيل أن في مستطاع سلطة مهما تطاولت وسائلها القمعية أن تغرق هذه القارة من الصخب في بحر من الاستكانة والصمت .. ..أية سلطة تلك التي تستطيع ان تقبر هذا النزيف الحاد ؟ زعيق كاسح يكسر الدماغ., ويشطر للذاكرة تفاصيلها ؟ أية قوة؟ أية سلطة؟
كل ما في المشهد الآن, بل كل ما في الغرفة الصغيرة الحمراء, لا يعيق انسياب الحركة الشاعرية الرقيقة للجسد، الجدران، مكسوة بطبقة "فيرني" بلون الورد، لوحات زيتية خليعة تعانق الجدران،ملابس نوم داخلية لسيدة عذراء معلقة على مشجب معقوف من خشب السنديان, و على الأرض, تمدد سرير عتيق مطلي بطبقة من الأحمر القاني من فضاءه الداخلي، ينهض ((جسدان نسائيان في لباس حواء)) يبتسمان،يتبادلن القبل و اللمس في غنج و دلال، و المشهد في حقيقته لاتكفي الجرأة ولا الوقاحة على وصفه،كان يلوح من منظرهما أنهما لولا ما القي عليهما من مسؤولية ضمير بالمساس بقدسية شهر رمضان الأبرك،لقفزتا من وضعهما المثير الشاشة،و عربدتا بشكل مغر في فضاء القاعة الزاحمة بالوحشة و الصمت والغليان , بصورة بشعة لا يليق مجرد التفكير فيها،قلت لنفسي وأنا أمهر الأشباح الراقدة في غيبوبة من الشهوة و الانبهار ((شيطان الغواية نفسه لا يستطيع أن يبتكر شيئا افضح من هذا،ثم أن حجز تذكرة مقابل التحديق برهة في هذا الهراء، معناه تدنيس صوفية الجسد، و تمريغ قداسة الشهر في وحل من الدناءة و الأشياء الساقطة.
حدجني الشاب المتقدة شهوته على يميني ,"لكنهما قطعتين شبقيتين فاتنتين تستحوذان على الحس وتبعثان في الجسد المشلول ألف رغبة وشهوة ..."
"انظر. يقول الشاب ." أليس فيهما من الرشاقة والغواية ما يملأ النفس بشحنات مدمرة من اللذة القاتلة."
ادخل شفتيه في فمه ثم أردف "صدقني , عندما أعيش هذه اللحظة الأبدية, أنسى كل ما يعلق بالذاكرة من مشاكل حياتي البئيسة..فقر بطالة..كل شيء.
اذكر ان شيئا ما شدني, ومنعني من التعقيب على كلامه. شرعت لتوي أحدق في الشاشة متظاهرا بالاستخفاف , ولم أتردد في إبداء بعض المواقف , التي تنم عن احتقار مثل هذه المشاهد, والحقيقة أن ثمة إحساس كان يملؤني حتى الفيضان ,يدغدغ منطقة الشهوة داخلي, ويهمس , لا تدع أمية عينيك لتستمر, وامنح زرقتها ثقافة الصورة الشبقية , ثقافة الجسد الأنثوي المنتشي ..التي ما أحوجني إليها.
هي الآن عارية تتمدد, نهداها تعلوهما حبتان سوداوتان نبتتا على القمة, لا مست إحداهما بحساسية مفرطة صدره المزروع بحقل شعيرات معقوفة منزرعة هنا أو هناك, وسورت بذراعها عنقه المطوق بقلادة من الذهب الأصفر .. القاعة تتوغل في صمتها بعيدا , لا شهيق ولا زفير.. خيل إلي لحظة ,أن أرواح الأناسي نفخت خطا في أجسادها داخل هذا التجويف السفلي , صوت الآهات..هامسا شحيحا لا يكاد يسمع, لكني التقطه بوضوح شبه تام.
خذني.قالت الفاتنة.فانا ارغب في هز ما تحمله , أعصرني كبرتقالة فائرة, كي تخلق الشهوة الفوارة المتقدة نارها بين الضلوع , اجعل من الجسد الذي أنت سيده قبسا من رغبة تمور بها أرجاء اللذة السهرانة...ابتلع ريقي , تجرعني مثلما قرص منوما لحظة أرقك , واجعلني قذيفة اتشظى ..انشطر أشلائي في سماء فحولتك البدائية.
كان البطل وسيما لحد الإغراء , والبطل في نهاية المطاف, إنسان لا يمكن أن يكون دون أسرار ولا نزوات ولا أيد قذرة تعبث في ذاكرة الأجيال . فتقذف عبر اللقطة ما يعجز الشيطان عن تصوره لحظة الخروج القصوى , لكن للبطولة وهم وتواطؤات, تمارس دناستها في استغفال العين الحامية للثقافة والحضارة والإنسان.
الآن وحده الذهول سيد الآفاق, ثمة أياد تتشابك, تتداعك , تتزاحم أصوات كمن يدعو كلاب جرباء للاقتراب بمصة من الشفاه اليابسة . قلت لنفسي بصوت مسموع"هلا أمطرتمونا بوابل من الصخب يا أبناء الريح, واردفت " أية قوة اخرصتكم عن الكلام , وجعلت منكم أيقونات صماء قابعة في متاحف النسيان...
ما يدور الآن أمامي مروع مثير شبقي حد الجنون , موجة ايروتيكية تسيح في الأمكنة كما الهواء , يالها من مفارقة عجيبة , لا شيء يقدر على أن يمتلك الدهشة, وان يستلب الوجدان سوى اللحن الذي تعزفه الرغبة ويشدوه وترها الحساس , زمننا الذي نحياه, تتقلص فيه درجة الاهتمام بما هو لفظي , وتجتاح فيه الصورة جغرافية الذاكرة , هذه الصور المخاتلة التي تعمل بفوضى متزنة, أمام عيون حشد مغلوب على أمره.
لقطة واحدة تمر على الشاشة, قادرة على تغيير منطق جيل حسب التأثير الذي يراد لها تحقيقه, لان اللقطة توحي بالفكرة, والفكرة تعمل على لي عنق الذاكرة , فتدجن السلوك ,حيث يقبع مستهلكا لكل ما تقع عليه العين , بلا جمرك ولا تأشيرة..وتلك هي الكارثة.
حملت أسئلتي في ذاكرتي في الخارج هواء المساء العليل ما يزال منعشا , حدج شاب في سيقان شابة تدعك عيناها "الله على الزين؟ منشوفوكش؟؟؟؟؟؟


.
صورة مفقودة

محمود مختار

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى