مالك داغستاني - دُوار الحريَّة

(5)
رغم كل هذا فإن الثوب سوف يسلِّم أنه بعد الكأس الثالثة لرجل وامرأة يرقصان وحيدين، سيتحول إلى صادٍّ لإمكانات الجسد في التعبير الأكثر جنوناً والأكثر شاعريةً، حين لا يعود ثمة
أي حرير قادرٍ على فلسفةِ النهدين الأجمل من القصيدة التي تمتدح صلابتهما، والعنق وأعلى الكتف والسرَّة كما تقدر هي بذاتها أن تفعل عندما بذاك الفيض والحلول المتصوف تَتَنَقَّل في المكان فيترجرجُ الهواء آنَّاً من الانتشاء.
: لماذا يطلُّ طيف الحزن هذا من عينيكَ ونحن ذاهبان معاً إلى هذه الجنة؟
: لم أكن أعلم على وجه الدقة، ما إذا كان الآخرون قد تلمَّسوا أيضاً تلك الميزات التي تتفرَّدُ بها بحَّةُ ذاك الفلوت البدائي حين تَهدِلُ في غرفة كل ستائرها مسدلة وليس فيها سوى ضوء وحيد خافت في الـزاوية، إنها لا ترتدُّ ودَرْجاً على عادة كل الأصوات عندما تصدمُ عائقاً ما، إن صوت الفلوت ينثالُ عـن الأشياء والجدران والستائر حتى يصل إلى أرض الغرفة ويتجمع في بركة من الموسيقى ثم يرشحُ، عكس كل الأصوات التي تصل عبر حاسة السمع، يرشح إلى خلايا السابحين في بركته عبر الجلد، وإضافةً إلى القوة التي تمتلكها نغماته في الدفع نحو المطلق، فإنه يساعدُ، مُتَّكِئاً على الميل الفطري، على التحام الخلايا المذكرة والمؤنثة.
: إنكَ تحرقني…إنكَ تسبب لي الخدر والتنميل... يا الله إنك رجلٌ بما يكفي.
: وإنك.. إنك لامرأة بما يفيض... ولكن هل كنتِ تحققاً مؤكداً بين الذراعين وعلى الضلوع وأنت تَرِفِّين على صدري؟ هل كان وجودك غير قابل للإنكار وشفتاكِ تمرّان بحفيفهما اللاهب وبتلك النعومة الخيالية على العنق والكتف وطرف الوجه؟ أم أنك كنت محض طيفٍ جاء من تضاعيف الحكايات البعيدة، طيفٍ يلصقُ وجههُ ويخبئهُ في عنقي، طيفُ أميرة ساحرةٍ تشدُّ كفيها على كتفي وظهري وتقتحم بعناقٍ حارٍ وملتهبٍ روحي وجسدي، عندما كانت تلك الموسيقى تسبح خلف المشهد، وكان الجسد يتحرك أو يسكنُ بموسيقاه الخاصة، جسدٌ لم يكن أي تفصيل فيهِ من أعلى الرأس إلى الكعبين لا ينطق لغتهُ الخاصة، ولا يقول ما صاغته الطبيعة خصيصاً مـن أجل قوله.
ربما يحق لي القول الآن بأن الجسد الأنثوي وحده يشي بأن هناك إعجازاً أكثر تعقيداً من تدبير الطبيعة، وأن قدرة خارقةً وعصيَّةً على الإدراك هي التي صاغته بكل هذه الروعة، وأني أنا الذي كان يطيبُ لي القول بأن جسـد المرأة هو نهداها أولاً، وماعداهما لا يعدو أن يكون سوى الربضات المحيطة والتي وُجدت فقـط لتؤكد بهاء وازدهار هاتين الحاضرتين المعجزتين، فلديهما وعندهما فقط الموار والصخب واللذة والانشداه، إنهما ملعب الشفتين وموطن الأنفاس الحرَّى وانقطاع النفس من الإعياء في التمرغ والارتشاف….. لكنني عندما سأعرف هذا الجسد الفذَّ وأدرك قداسته الخاصة فإن فلسفتي عن النهدين سوف تنهار أمام سـحر كل خليةٍ فيـه، وسوف أعترف بأن الرجل الذي لم يعرف امرأة بكل هذا الجموح والاعتداد بالجسـد سيكون لديه نقصٌ خطيرٌ في فلسفته عن الجمال الأنثوي وعن المرأة عموماً.
كان جسدك كورالاً من الغناءِ الساحر والمهيب، أوركسترا تصدح بمقطوعة خرافيةٍ، هارْبُ الشعر وناي العينين الذاهبتين إلـى المطلق، ماندولين النهدين وبيانو السرة وفيولين الزغب النديّ، كلارينيت الساق ولير أصابع القدمين، هل كانت تلك الأصوات التي تتناهى إلى سمعي تركيباتٍ لبعض الجمل الموسيقية في ذاكرتي أم أنها حقيقةً كانت هناك موسيقى يعزفها هذا الجسد الإغريقي الساحر.
طبعاً أنا لا يروق لي أبداً أن أقارنَ بينك وبين إلاهات الإغريق، أنا المفتون دائماً بما هو حارٌ ونابضٌ بالحياة، ولكني الآن ومن هذا البعد الزماني الشاسع عن الأنثى فإني أصوغك تمثالاً فوق قاعدةٍ رخاميةٍ لامرأة من عاجٍ أبيض، جسداً عارياً يتوجه بكلِّيتهِ نـحو الشمس التي تشرق للتو وكأنها تفعل ذلك لأجله ولأجله فقط، جسدٌ يشتبكُ مع الضوء والهواء بعناقٍ ملتهب ومحموم وكأنه غير راغب بشبق الرجال وكأنه مكتفٍ بمضاجعة حلمهم به، أو معانقة الإشعاعات الحارة للنظرات المحترقة، ثم يصل إلى نشوتهِ.
إني في هذه اللحظة وأنا وحيد على فراشي في هذه الجغرافية البليدة، أقول لنفسي، ربما هكذا، يمكن لرجلٍ مثلي أن يرى أو يحاول ارتداء الجسد الأنثوي من على مبعدة سبع سنوات، حين يلتهب خياله ويجهدُ من هذا الارتفاع الزماني الشاهق أن يطلَّ بعينين نصف مغمضتين، ويرى الأنثى أو يلامسها أو يقترب منها عاريةً في السرير، إنه الارتفاع الحلميُّ والضبابيُّ والمثير للشكوك بواقعية الرؤية من هذا البعد الجحيمي.
كانت موسيقى الجسد تنسربُ إليَّ منجدلةً مع بحة الفلوت لتخلق تلك الاندفاعات التي كانت ستبدو غير مفهومة وخارجةٍ عن رتابة هذه الرقصة المألوفة لو لم تكن موسيقى انضغاط النهدين على صدري وذهابُ كفيَّ وعَشْر أصابعي في أسفل الخصر مرئيةٌ بوضوح على ضوء ذاك القنديل الخافت في تلك الزاوية، كانت حرارة وجهك في عنقي تبعث فيَّ تلك الحرائق التـي سوف يعرفها تماماً كل من سيوجه دعوة لامرأة ما إلى مثل هذا الاحتفال الأسطوري وتلك الرقصة الحلم، وشعرك الذي كان ينسدل على كتفي والضوع ينبعث منه فيدير الرأس ويردي إلى تلك الانسحاقات المؤكدة.
إنه شعرك، خيمة وجهينا في العناق الطويل وسِجاف القُبَل، خرافة سرير نومنا وزخرفة الوسادة، ملاءة الشهقات الأخيرة وأعشاش نوم التنهدات، شعرك وِشاحةُ كتفي ووشم صدري، زبرجدة المساء وماسَةُ ليلنا، دثار الدمـوع ومنجم العطر، شعرك مخبأ الجنياَّت اللواتي يعابثنني فأُقبِّل عبير مرورهن لمحاً من الخصلات إلى دمي، صديق الأصابع في السهرات الطويلة وملعبها الأثير، كهف الراحتين ورسائلك الأحلى على كتفي، أوجار نوم أصابعي وأُولى نداءات الصباح على دمي، آنية القرنفلة الوحيدة، هو شعرك، سخاءَ انهمارُ جَعْده على وجهي وإصغائه لحرقة الالتحام، خباء اللثم السريع على العنق، خِدْرُ المساررات الخجولة وحلو التأوهات، شعرك، دَفْقُ شعشعةِ انفجار الهواء وشعشعة الوضاءةِ حول نجمة وجهك، إزارة انتهاء همسنا ونجاوانا المدنفة في تلاشياتها الأخيرة.
وفجأةً تراخت راحتي عن خصرك والحقيقة إن قولي هنا لكلمة "فجأة" هو شيء من قبيل المجافاة المجحفة لـروح ما جرى وإغفالٌ ظالمٌ لـتلك الصيحة النداء التي ندَّت عن موسيقى ذاك الفلوت البـربري، كـانت تلك الصرخة هي الإيذان بأن الآن وفي هذه اللحظة بالذات يجب الهبوط أو الصعود إلى ذاك الالتحام فوق الأرض المغمورة بالموسيقى، وسحبتُ كفيَّ عن خصرك وأسندتهما بتشبثٍ متشنجٍ علـى معصميك في ذات اللحظة التي بدأت فيها الغرفة تأخذ لون عاشقين مدلهين {وبسرعةٍ نزع الولد الأوراق من خيوطها وبدأ تحويلها إلى قصاصات صغيرة جداً، وبذات الارتياب الذي مازال ينساب من نظراتها وهي تراقبه بفضول متمددة على أرض الغرفة وثيابها مبعثرة قربها، سألته...
: ما الذي سنفعله بها؟
: هذه الأوراق؟ إنها الأزهار التي ستنزل علينا من السماء بعد قليل.
: وهل تمطر السماء أزهاراً؟
: عادةً لا … ولكنها اليوم ستفعل.و…} راحت شآبيب الياسمين والجُلَّنار وزهر الدراق تهطل من سماء المكان وتطفو فوق بركة الموسيقى، ونحن، وأنا أسحبك معـي نهبطُ ونستحم ثم نهبط ونستحم ونستحم ونستحم في ذاك السرير المرتجل من الموسيقى والزهر طافٍ فوقها، غاذِّي السير نحو ابتكار ما يوائم الإحساس الداخلي العارم بالصلاة.
كان قدس الجسد يدعوني لتقبيله من كعبه حتى فضة الجبين، واستجبت لذاك النداء، ورحت بمفردات مهموسـة وأنا سادرٌ فـي الانبهار أنمنم لـه قصيدة أو غلالة شفيفة من الكلمات التي تليقُ بروعة الإعجاز فيه، وعـندما كنت أتلجلج أمام انحناءاتهِ وبعض تكوراته العصيَّة أو عندما أتصادف بتألق مُعجزٍ ما فإني كنت أُرمِّـم القصيدة بالشفتين أو بأطراف الأنامل فبأيِّ مفردةٍ يُقالُ الوضع المشاكس للحلمة المتألقة على سبيـل المثال؟
كـنت وأنا أسكب الكلمات وأدوِّن النصَّ الحرفي للجسد، أحلم أنني سوف أستعيده قصيدةً عندما تطلب الروح طيفهُ وأتهجاه كلمات تنحني وتتلوى مع كل انحناءةٍ مذهلةٍ فيه، وألملم الحروف عن جسدٍ يتعرَّق صوراً ومجازات وتشابيه برائحة البخور...وتميدُ الروح وهي تُشكِّل تلك القصيدة عن جسدٍ من طيبٍ ومرٍّ ولبانٍ وزعفران.
: وماذا أيضاً؟
: " ومن طربٍ إلهي هتف االله حين رآك عاريةً على كفّيه: آ آ آ آه….• رَوْح وريحانٌ وجناتٌ• وهذا نحن سوّيناه• سأجيز للأزهار أن تشتاق سرّتكِ• وأسامح الصفصاف إذا تعرَّى لو مررتِ بهِ • وسوف أُعمِّد في أردنِّ عينيك السُوَر وحلو الكلام• ثم إن الله طوَّبَ ما أتمَّ• وجرع كل نبيذ الخلق من خوابيهِ العتيقة• وترفَّقَ دفء النهد ونام•"
: قلني أيضاً.
: " وأنا ما كنت أعرف• ولا أحدٌ قد قال لي• إن النبيذ الحلو سوف يسيل إلى فمي• من حلمتيكِ• ومن شفتيكِ• وبأنني سوف يُغشيني على نهديك لون الصباح"
: قلني أحلى
: " وأقول ثغركِ• والحلمتان - يا سعد الكلام - • عقيقتان على فمي• وجوريٌّ على طرف اللسان• وناهداك - فداهما أنا-• يتبسَّمان في شفتي• يتضاحكان يشعشعان• يُقدمان ويهربان• يتخابثان فينفران• وثانيةً، مترفِّقين، يأويان إلى فمي•"
"إن الكتابة كالحب تماماً، فعلٌ مبرَّر بذاتهِ، إنه أولاً وقبل أي شيء، فعلُ حرية، ولا يحتاج إلى التبرير من خارجهِ. وأنا لاأخبيء شبقي الدفين مع التواءات الحروف، ولا أحبس غواياتي في نهايات السطور.
إني أكتب وأسبح وأطير مسكوناً باللذةِ، وخدرانٌ من الدُوار. دوار مفردةٍ عارية الصدر تهوي ويلتقطها من طرف الخصر آخرُ السطر، ويُضجعها فوق سرير نوم القصيدة، ويقطف وردتها. إني خدرانٌ وخدرانٌ وخدرانٌ وأكتب... إنه دوار فرط الحرية."
ثم صارت الموسيقى تدفع كل شيء للانصهار، ونحن منهمكان بذاك الالتحام المذيب، وكان اشتعال الروح واختراق الأصابـع واللهاث المرير حتى لم أعد متأكِّداً أين تنتهي شفتي وتبدأ الحلمـة المنتصبة، أين تنتهي أصابعي وتبدأ طلاوة الوركين، ثم جـاء ذاك......، التحليـق والتحليـق والتحليق وتلك البروق، والشهبُ والنيازك، ثم مع تلك الشهقة الراجَّةِ للروح، بدأنا العَوْدَ الطيراني المهدهد مع ذاك الخدر والانطفاء اللذيذ اللذيذ.
لم أعرف تماماً متى انتهت تلك الموسيقى حين نظرتُ إليك وأنتِ نائمةٌ قربي كالملاك، وجسدك ناصعٌ وواضحةٌ كل سجاياه وأنا أعرفه، أعرفهُ فـي إقدامه وفي إحجامهِ، في بذله وفي خصامهِ، وأعرف مشاكستهُ حين يقول النهدُ باستدارتهِ الحانقةِ وحلمته المطرقة: "لا تعتصرني"، ويقول الخصر وفقرات الظهرِ: "أَبعد خمشَ أظافرك وهذي الكفَّ المُتقحِّمةَ عني"، ويقـول الثغر والعنق للشفتين: "لا"، وأعرف انطفاءهُ في السرير حين يكون مُشبعاً وراضياً ومسترخياً ومتبسمةٌ كـل خلاياه، جبينهُ يقول: "تقدَّستْ وَضَاءَتي والفجرُ سجد".
وثغرهُ يفترُّ عن ما يشبهُ الابتسام والله يهتفُ للجوريِّ: "كُنْ"، ونهداه نائمان بإغفاءةٍ مترعة بالارتواء، قمران من فضةٍ، قمرٌ يفـيء إلى قمر، قمرٌ يُصفِّي ضوءَ حليبهِ ويشعلهُ التماعاً ولألاءً على الشفتين هوَ القمرْ….. وسرَّتهُ: منتصفُ سـقوط ياقوتةٍ فـي بركة رائقة، تتجمع فيـها رائحة الشبق العاشق التي تَمَسَّدَتْها وانطفأت فوقها منذ حين.
وهناكَ، هناكَ حيث انتهت منذ هنيهةٍ روحُ وخلاصة صفوِ الذكورة المقطَّرة، ينام الآن محروساً بعمودين من العاج الأبيض، الليل والموسيقى والزغب الأسمر النديُّ والعقيقة الصغيرة والروح السابحُ فوق الغمر والياسميناتُ يَنَمْنَ، والقصيدة والجلَّنار وزهر الدراق وكل شيءٍ ينام.
{-: ما الذي تفعلانه هنا وحدكما أيها... ما هذا؟…. لماذا أنتما عاريان هكذا….. ثم كأنه قد أصاب الأم ما بدا على قسمات وجهها أنه شيء من الفزع، ربما تمنَّت للحظة لو أنها لم تدخل الغرفة، ولم ترَ ما رأت، ربما شعرت، وهذا ما توحي به صفرة الوجه، بشيء من الدوار.
قد يكون بسببٍ من أنها لم تكن تملك في داخلها أي دافع للتأنيب، أو ربما بسبب من الارتباك والتلعثم، أو، ومن يدري، قد تكون دونَ كثيرٍ من التعنيف، غادرت الغرفة عندما اطمأنت إلى أنهما لا يتخابثان وإنما هي فقط نزوةٌ صبيانية من هذا الولد غريب الأطوار، ونزعةٌ متهورةٌ للكتابة على الجسدْ، وهكذا غادرت الأم الغرفة دون أن تظفر منهما بأي جواب سوى نظراتهما المترددة بين وجهها وأرض الغرفة المغطاة بقصاصات الورق التي راحت النسمات تتقاذفها في تلك اللحظة، وراح الولد يمسح الكتابات التي كان لساعةٍ مضتْ يدوِّنها على الكتفين والصدر وتحت السرة وفي باطن الكف.
وساهماً كان يتساءلُ إن لم يكن هذا يحدث في الواقع حقاً، فهو حتماً بل ويجب أن يحدث في مغامرات الذهن أو بأقل الأحوال في أحلام النوم.
هل كان خائفاً؟ أم كانت تلك الارتعاشة التي تنتابه وهي لِصقهُ لأسباب أخرى لم يستطع إدراكها؟ ما كان يعلمهُ ومتأكداً منه تماماً هـو أن ما فعلاهُ إثمٌ خارقٌ بجاذبيته وجماله وروعة جنونهِ وهما ينامان متجاورين كجروين عاريين، ذئبين صغيرين خارجين عن العُرفِ الآدمي...
وتركته صديقتهُ الصغيرة ليزيل بكفِّهِ المتأنية ما كتب بنفسهِ، ولم تستجب لإلحاح الأم المتواصل من الغرفة المجاورة كي تذهب وتغتسل، تركته مستسلمة كالنائمة بعد عناء مسير طويل.
تركته ليختم مخيلتهُ بمـحو هذا المشهد الوشم عن الجلد، وهي تكتنزُ كل حركةٍ من راحتهِ الصغيرة في ذاكرتها، فها هـو يتردد في محو جملةٍ هنا وكلمة هناك، وهي وعيناها موشكتان على ذرفِ دمعةٍ متحجرةٍ، تراقبهُ بهدوء قديسةٍ واتِّقادِ امرأةٍ ناضجة، بحياد ملاكِ بجانحين أبيضين وبانغماس فراشة تلتهب وتتلوَّى على حافةِ قنديل مُحرق، على وجهها الكثير من الطمأنينة وفي قلبها سؤالٌ واحدٌ فقط: كيف جرت اللعبة على هذا النحو وكيف انتهت إلى تلك الخاتمة المربكة؟ وتحدَّرت دمعتها وهي تهمسُ وتسأل بعذوبةِ ناي متفجِّع: "هل انتهت اللعبة؟"، ثم عبثاً كان الصبي بعد ذلك سيحاول إقناعها بمتابعة اللعب...}.
أرأيت كـم كان الأمرُ رائعاً لولا مـوعد العمل المسائي ذاك.
ولا بـدَّ، والأمر على هذا النحو، أن أمضي مسـرعاً فالوقت، أعني موعد المساء، لـم يعد يسمح بأي تأخير إضافي……
- شرطيان إلى هنا… هيا ليسحب كل واحد منكما مجموعة من أول الجنزير… بقية الحرس، على الدرج وأمام السيارة…هـيــه، أنتِ… قلتُ لك ابتعدي…
ولنزعم، ختاماً، أن أولئك الواقفين قربنا ،ما كانوا كما قلنا ضباطاً وزواراً ومعتقلين، بل كانوا فقط مجموعة من الفضوليين، ممن يمكن للمرء أن يصادفهم يحـومون، متطلعين بفضولهم المحرج إلى أي عاشقين، في أية حديقةٍ عامةٍ، كهذه التي ورطنا أنفسنا باللقاء فيها هـذا المساء…
ولأقل فـي نهاية المشهد، وجرياً على عادةِ كلِّ الحالمين بحديقةٍ ما، إنني كنتُ للتَّوِ سوف أغادر حديقتنا بصورة جد اعتيادية، ولنسلِّم أيـضاً وحتى لا نخدش جاذبية الخاتمة، إنه لم يكن هناك من أبعدكِ عني، وإنكِ قد أفسحتِ لي الطريق كي أعبر بحـركةِ عفويةٍ منك كعادة كل المتوادعين، بعد أن تواعدنا على لقاءٍ آخر وقريب، ربما في اليوم التالي، ولكن في حديقةٍ أكثر هدوءاً، ليسَ فيها حارسٌ يحبُّ التمثيليات الإذاعية، وليس فيها كل هذا العدد من الفضوليين، ولأقـل: إني سرتُ مبتعداً بصورة عادية، وإنني إطلاقاً لم أفكر أن أحملك بين ذراعيَّ، وأركض ضارعاً نحو الله هارباً من فجاجةِ ولا معقولية الحقيقة المريبة تلك.
وإنه، وكي لا ندحض ما تبقى مـن واقعية مشهد الحديقة وانسجامه، لم يكن في داخلي ألف يمامةٍ تهدلُ ضارعةً أن تبقى قربك، أو أن تذهب معكِ حتى…{ياولدُ … يا بني.} ولأفترض أن قلبي لم ينخلع من داخلي، رافضاً الامتثال لأوامر الحرس، وقساوة الفولاذ في المعاصم، ورافضاً مرافقتي والذهاب معي، ولأقل أيضاً، وحتى لا أُتهم برواية الجنون، إني لم أتركه ورائي ملتصقاً وحده بأرض القاعة، كأي طفل حرون يمكن تخيله (حَسبُكَ أيـها الحارس إن هـذا الذي على الأرض قلبي).
{ - أيها المجنون، توقف كرمى لدمعات أمك…}.
هـل لاحظت، هـل لاحظتِ جيداً أنـها كانت فـعلاً وحقاً حديقة، وهل سوف تستجيبين إلى ضراعتي وتوسلاتي وتصدِّقين أنـها كانت كذلك.
أرجوكِ، قولي إنها كانت حديقة، وإنِّي لم أكن أهذي، وإننا مراهقان اثنان كنا، ولك بعد هذا وذاك، لك أنتِ، لا أقصد أنت على سبيل الجمال الطاغي والمربك والمهيمن وحسب، ولكن أنتِ، وأنت تحديداً وفقط، لك بعد كل هذا، بمرحٍ وبابتسامتكِ العذبةِ لـو شئتِ، لك أن تتساءلي أنْ هل يمكن، وهل يمكن حقاً لمجموعةٍ من الافتراضات البسيطة والساذجة، لرجلٍ تعتعهُ الحلم في جفافٍ روحيٍّ ما، أن تكون قادرةً على تحويل قاعة كريهةٍ إلى حديقةٍ مدهشة؟
وسوف يكون لي أن أجيب بتأكيدٍ لا يُضارَعُ، إنه سـوف ينقضـي وقتٌ طويلٌ، قبل أن يجترحَ مجنونٌ آخر معجزة إشادةِ حديقةٍ أكثر بهاءً وجمالاً وألقاً...حديقةً هاربةً أبداً في ذاكرة السنين، منذ بابل وحتى الظلال الوارفة لشعركِ، حديقة تمجَّدت بكل هذا الحضور المُسكرِ لعينيكِ وشعركِ وشذاكِ وفيئكِ، ولها أن تباهي حدائق الأرض جميعاً بقدسِ هذا الحضور.
"هاأنا شارفت على الانتهاء من الكتابة الحلم، وأراني خائفاً مما كتبت، رغم كل ما أمتلكه من جنونٍ وتهور. هل سأُبقي هذه الأوراق هكذا، وتماماً كما هي؟ أم أني سوف أمزقها وأُفتِّتُ هذا الهذيان الحرام، وتلك الخرافة المستحيلة، وأرمي مِزَق الأوراق أمامي على الأرض، ثم أهوي بقبضتي على الجدار وأضربُ بعنفٍ شديدٍ شديدْ."
ومادام الأمر صار وردياً على هذا النحو لنتابع بأني كنت أغادر المكان/الحديقة وأنا أصفر لحناً مرحاً بعد هذا اللقاء العابر والمسلي والعادي، وأنني بطريقةٍ عمليةٍ، وكما يفترضُ بأي رجل يغادر الحديقة مستعجلاً الذهاب إلى عملٍ ما، قد أومأتُ لك بتحيةِ الوداع على شكل انحناءةٍ مهذبةٍ من الرأس وهمست لكِ بصوت أنيق لا يعتوره أي شرخ: "إلى اللقاء غداً"، وأنه لم يكن لديَّ من الشعور بالخذلان ما يفي أعصاب مسيحٍ، ثمنه ثلاثون فضةً، لحظة القبض عليه، وأني أبداً أبداً لم أصرخ بصوتٍ تتنازعهُ كل فجائع هذي البلاد
: لماذا؟ ولماذا هكذا أيها الله؟.
{: أيها الشقيّ الممسوس، لقد خرَّبتَ الغرفة وقلَّبتَ أرجاء المنزل والقلب والروح، هيا… هيا أعد كل شيء إلى مكانهِ … واغسل يديك وقلبكَ واذهبْ إلى سريركَ فوراً…}.
ثم راح المشهدُ يغيم… ثم راح المشهدُ شيئاً فشيئاً يتشقَّقُ… الحديقةُ… الولد الجميلُ… الحارس النائم… شعركِ... قلبي على الأرض… المطر فـي أيـار… صوتك الهديل… الموتُ… شعرك الخرافة… ويدي تعابثه… الابتسامة تجتاح الروح…… وأنا… كـفاكِ الوردتان… وأتهجاك قصيدةً…… وأنـا أسير… والدمعة، قلبي… كأس النبيذ…… وأنا أسير مبتعداً… القفاز من أجل الشتاء التالي… الياسمين وزهر الدراق…دمي…… وأنا أسير مبتعداً نحو ذاك الـصقيع.

دمشق.. صيدنايا



.


صورة مفقودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى