قصة ايروتيكة نعيم عبد مهلهل - ايروتيكيا التماثيل والصور

الفصل الأوّل: “شهية شاشات السينما”
“إن كان لا بُدَّ من فضيلة تستحق الدفاع عنها فهي فضيلة الخيال ، لأنها تسمح لنا بأن نضع أنفسنا مكان الآخرين ونكون أكثر تسامحاً وتفهماً”.
فرانسواز ساغان
– 1 –
منذ أوّل مشاهدتي للأفلام السينمائية وقراءتي للروايات وأنا أؤمن أن الممثلة الفرنسية كاترين دينوف والروائية الفرنسية فرانسواز ساغان ، ثنائية الجمال الجرماني الملقب بالآلهة الباريسية ، فهي التي تجعل الكلمات ثياب أنثى تشم البحر والسكائر والرغبة في الطيران.
ساغان ودينوف والثالثة جدّتي والدة أمّي الدوقة (مشتهاية ضمد حاشوش الحسيناوي) يُمثلْن هاجس المثلث الأسطوري في محاولاتنا لإنشاء القصائد والمواويل الشطرية ونواح المحمداوي الذي تغسله في صباح ماطر شهية العطر على أجفان عارضات الكريستيان ديور…
الجمع بين فرانسواز ساغان وكاترين دينوف وجدّتي (مشتهاية) هو جمع التاريخ الروحي لأحلام المعدان ، عندما يتمنون موسيقا إغريقية تحرّك مشاحيفهم وهم يتوجهون إلى قلاع بابل لدهر الإسكندر عبر الفرات أو السين أو دمعة العين…
ساغان تشعل لدينوف سيكارتها ، فيما جدّتي مشتهاية بسبب كهولتها نسيت لف التتن الحار الذي تعوَّدت عليه فصارت تمضغ بدله القات اليمني وتهدي ديغول والرئيس عبد الرحمن عارف مواويل شجن عاشوري أسود ، فيما الروائية والممثلة تنسجمان بشهية غرام الرصيف وتلك الموسيقا العالية الأداء التي تأتي من خلال همس القبلات بين الممثلة وكاتبة الرواية.
التفكيرُ بسحر الصّورة وحده يصلح لأن يكون فصلاً روائياً مبتكراً عن تلك الأماني الروحية التي كانت تسكن جيل الستينيات والسبعينيات ، وهو يحاول أن يطوِّر مدارك الأحلام الفقهية والبوذية والسريالية والعاطفية ليتوصل إلى اللحظة الثَّمِلة التي يستطيع فيها إنتاجَ نصٍّ روحيٍّ يتغلب فيه على الثقوب التي كانت تنتشر على معاطف آبائنا وشيلات أمهاتنا.
القراءة السيكولوجية للدخان الذي يأتينا من سيكارة دينوف هو ذاته دخان مواقد شتاءات بيوتنا الطينية ، ونحن نحلم معها أن نهزم البرد بخاطرة أو بنشوة منتصف الليل مع أغنية لنجاة الصغيرة.
أما فرانسواز ساغان الممتعة في أداء الرغبة في جعل المغامرة هي حبكة الغرام في نصها الممتع قطة على صفيح ساخن ، أو تلك المحسوسات التي يتدفَّق فيها شعاع الشمس في الماء البارد إنما هي قراءة لهاجس رغبتنا؛ لنعيش لحظة الهروب إلى الأماكن البعيدة بقطارات رغباتنا المراهقة وعادتها السرية.
الآن بعد مرور أكثر من أربعين عاماً على هذه اللقطة الفتوغرافية (الأسطورة) يسكننا الحنين إلى شاشات السينما في الأسود والأبيض ، يسكننا عطر بساطيل الجيش وهي (تطر اليافوخ) يسكننا ليل ربايا شمال الله وجنوب نعوش الشهداء ، يسكننا الفهم الإيديولوجي في قراءاتنا للكتب الحمراء التي يكتبها ماركس بخط يده ، وللدفاتر الخضراء التي يؤلف فيها نزار قباني قصائده.
يسكننا وجه عبد الكريم وعبد السلام والسياب (وعركجينة) الجواهري ورقصة زوربا وبائع الجرك وصوت اليهودية الطيبة سليمة مراد باشا ، وهي تطربنا بلحن عود اليهودي صالح الكويتي أغنيتها الأممية (كلبك صخر جلمود… ما حنَّ عليه).
والآن لمن نَحِنُّ وأحلامنا تتدفّأ في أختام المخاتير ولصوص النفط وأولئك الذين شربوا الدين عصير برتقال ، وبه أصبحوا أكثر ثراءً من صاحب شركة الآيفون…
محنة نهرب منها بأن نطبع شهيتنا على تلك الصّورة القديمة للروائية ساغان والممثلة كاترين دينوف ، التي تتأملها جدّتي بشوق غريب كمن يتأمل الموناليزا وهي تخلع ثوبها الشفاف أمام دافنشي.
بين الصورة… وبين وجه أبي وحائط مطبخنا ، تعلق البهارات وجه أمّي وعطاسها بسبب الكركم الهندي وأغنيات راج كابور…
بين وجه أخي المتوفَّى في حرب حوادث السيارات وبين أفارقة من أثيوبيا يحاولون خداع الفرنسي آرثر رامبو؛ ليكونوا معه في الليل ندماء وسماسرة وحشاشين.
بين الدبابات وهي تغزو باسمنا الجيران تحكي هذه الصّورة جزءاً بعيداً من سريالية حياتنا ، وتمنحنا القدرة على الذهاب إلى أبعد من سور الصين ، نؤدِّي تحية الشوق إلى تلك الرغبات الطفولية المكبوتة يوم ترفع هند رستم ثوبها فوق الركبة وتهز ألف مصطبة خشبية في كلّ سينمات العراق تمارس عادة الود وقبلة الخد ، والولوج إلى ما حرَّمه وحلَّله الله.
قراءة الزمن في صورة بين روائية وممثلة هي قراءة لما جرى ويجري وسيجري.
المهم ، إن هنري كيسنجر هو الشاهد الوحيد لعطر تلك الصّورة يوم كان وسيطاً روحياً بين نيكسون وهوشي منه بين جونسون وبرجنيف. بين عشائر آل بو نخوة وعشائر آل بو شفة يوم تنازعوا من أجل (الهايشة نرجس) التي عبَرت من حقل نوماس إلى حقل الترباس فأشعلت حروب قابيل وهابيل ، وصنعت لآدم حزناً آخر من حرائقه حرب حزيران وحرب برزان وحرب عبدان وحرب صفوان وحرب بنغازي وسيناء والربيع العربي في بلاد القيروان…
كلّ هذا في شرح الصّورة ممكنٌ…
والممكن أيضاً أن نذهب إلى أبعد ممّا نتمناه ونتخيله ونحب استعادته ، تلك الإنشاءات المرتجفة في الحليب الأبيض للبقرة السوداء. نشوة عصا المعلم وموسيقا الخوف واللذة في قصص محمد عطية الأبرشي ومجلات سوبرمان والوطواط وإغراءات ممثلات مجلة الشبكة….
عالمٌ غادرٌ ولن يعود ولم تظلّ منه سوى سريالية هذه الصّورة التي نكتبها برغبة البوح في شهية النظر إلى التماثيل في الساحات العامة ، تلك الومضة الفتوغرافية تصلحُ أيضاً لأن تكون تمثالاً يحكي قصة الدهر مع فقرائه. النعوش مع شهدائها ، والثورات من مشعليها الذين لا يجنُون ثمارها في أغلب الأحوالـ ، ومن يجني هو الرمز المخادع الذي قرر أن يحلق شاربيه قبل إذاعة البيان الأول.
هذه الصّورة هي أيضاً تصلح لأن تكونَ نصباً روحياً لأيامنا ، ونضيفها إلى خيال القامات المنتصبة في ساحات مدن العالم ، أو نضيفها إلى ذكريات التماثيل التي هدموها واقتلعوها ، وتلك التي ينحتها النحاتون الآن لوجوه جديدة تستخدِم ذات المساحيق التي كان يستخدِمها أسلافُهم.
تحويل الصّورة إلى تمثال هو جزء من إيروتيكيا استعادة اللذة داخل الزمن ، والتعبير عنه على شكل حكاية هو جزء من تدوير اللحظة التاريخية وافتراضها بما كنّا ونتمنَّى أن تكون.
هي تشعلُ السيكارة لدينوف. ونحن نشعل قلوبنا لمحادثات الماسنجر ، نعشقُ الخيال الافتراضي بعد أن ذهبت عنّا خيالات تلك الأفلام الروحية التي كانت تجعل لوجودنا معنىً حتّى عندما كنّا ننام وبطوننا خالية حتّى من خبز الشعير.
هذا التحويل.
الصورة والممثلة والروائية وجدتي مشتهاية، هي توسيع لهاجس الابتكار في جعل الرواية ليست مجرد حكاية متسعة التفاصيل والأحداث والأمكنة والمشاعر والغراميات. بل هي تلك اللحظة المفترضة التي يجب أن تشعرنا بأن أنفسنا تعيش ذات اللهفة الموسيقية الرائعة المشاعر ، ونحن نرى هند رستم تُومئ لنا بإغراء صدرها الأبيض ، وتقول : تعالوا ، النار هنا في الصدر وليس في موقع الفحم التي تسخن عليه أمهاتنا الطبيخ الماصخ والخبز الأسمر وتشوي عليه الطماطم التي هبط سعرها كثيراً؛ لأن مزارع قضاء الزبير بدأت تزرعه باستخدام الأغطية البلاستيكية.
هكذا نرى المشهد ونتعامل معه ، ونرويه كقصة أو كحكاية شهرزادية ، وسأكون أنا شاهد عيان لتلك اللحظة الموسيقية التي تمشي على أفخاذنا ، ونطير معها مثل فراشات في حديقة صينية.
الصورة والتمثال…
الله والفقراء…
لينين وهتافات العمال…
هتلر والنازيون القساة….
داعش التي تصنع الخواتيم بذبح الناس من العنق…




صورة العالم عبر التمثال وعبر الصّورة وعبر الخيال. شيء من أسطرة الميثولوجيا في طفولية تلك الرغبة يوم تعلمتُ (أنا) فنَّ كتابة القصة وتخيّلت موظفة في متحف وهي تمارس الغرام مع التماثيل السومرية ، لكنها لم تحظَ من جلجامش بما تخيّلت أنه عليه ، ويبدو أن الملك السومري فقد الكثير من عنفوان طاقته الذكورية بسبب المشي الطويل في رحلته الأسطورية إلى تفاحة الحياة…
تخيّلتُ الأمر أن جلجامش الآن ليس سوى تمثال ينتصب بين الروائية والممثلة ، وأن عضوه الذكري بطول السيجارة ، وحين يصبح أمنية ولا يشتعل حتماً ستعوضه إحداهُنّ بالسيكارة ، وهو ما فعلته كاترين دينوف. تحاشت التمثال وعضوَه وتوجهت بشفتيها ونشوة التدخين إلى ساغان ، وقالت لها بلهجة المعدان حين يطلبون من أحدهم إشعال السيجارة لهم : (ورثيلي) ، وهنا التوريث ليس الحصول على إرث ومال ، بل هو إشعال السيكارة من قبل الآخر ، وهي مزروعة بين شفتي من يريد أن يدخنها.
رؤيا الصّورة في تحويلها إلى تمثال وموضوعة تشتغل عليها حواس الكتابة لدى مؤلِّف من أهل أور ، هو يتقدم أطفال شارعه في الجلوس على الأريكة الطويلة في قاعة السينما ، ويبحث في وجوه الممثلات عن التي تقبل به عريساً لما بعد منتصف الليل ، حين تهدأ موسيقا شخير الأب ، تمثِّل الهاجس الخفي في كلّ ما كنّا نتمناه ونسعى للحصول عليه.
ولكنّها أحلام ، ومع الأحلام نديم شهية حيثيات جدوى الحياة ، ونتخذ من مقولة لينين : ينبغي لنا أن نحلم بطريق ومسلك لإثبات أننا سنصبح في يوم ما نجوماً مثل تلك النجومية التي تتمتع به صوفيا لورين وعبد الحليم وألن ديلون وداخل حسن ، وفي أوائل السبعينيات أتى حسين سعيدة وجلوب العماري ليتوارثوا في الكاسيت أنين الناس ويشعلوها قهراً ، كما فعلها سلمان المنكوب ، وكما كانت تفعلها أم كلثوم وأديث بياف.
الصّورة تمثالٌ….
رواية هي التي أكتبها. حديث العمر والوسائد والتماثيل والصور. تتخيّلها رؤية لمقال ، ولكنّها في الحقيقة رؤية لحكاية تكتب في تداخلات عميقة من إرهاصات روحك وذكرياتك وقراءاتك لما حدث ويحدث وسيحدث ، وبسبب إغراء الصّورة وتخيّل أن جدتك مشتهاية تبحث بين شفاه المرأتين شهية التبغ ، تسكنك غلايين أساطير عجائز أور ومخموري الدخان من أعمامنا الهنود الحمر من فصيلة الأباتشي أولئك الذي علَّبتهم أمريكا في مستعمرات من الصفيح ، وراحت تبني ولاياتها الواحد والخمسين ، وتعلن حروبها من بيرل هابر ، مروراً بحفر الباطن واحتلال بغداد.
الرابع معهما تمثالٌ. وما أكثر التماثيل في حياتنا.
تذكرت كاتبة مبتدئة ظهرت مرة في قناة لليوتيوب تقول فيها : أشتهي أن أمرر شفتيَّ على فم تمثال ماركس كلّما مررت بمقبرته الإنكليزية. متعة الغرام مع ماركس هي متعة جعل الغرام اشتراكية كلّ هذا العالم ، فلا تشعر أي امرأة في هذا العالم أنها عانس.
يا إلهي وقت التقاط الصّورة هذه بين الروائية الفرنسية والممثلة دينوف كنَّ الاثنتين عانستين. إذن هنَّ يحتجن إلى شفتي ماركس ليشعرن أنهن لسْنَ فقط ماهرات بصناعة أنوثة وإيروتيكيا الأداء التمثيلي وكتابة الرواية ، بل إنهنّ يستطعن جعل التماثيل نافذة لإيروتيكيا الفعل ، وهو ينتصب من فوهات مدافع الـ (130 ملم) تلك التي كان يوجهها تمثال صدام الواقف على ضفاف شط العرب من جهة العشار، وهو يرمي بها مدن عبدان والمحمرة، وقد تصل إلى قرى الأحواز عندما تنتشر كتائبها قريباً من منفذ الشلامجة الحدودي.




أتذكر من أساطير الخوف من الحروب ، وفي مكان لا يبعد عن الشلامجة عشرات الكيلومترات ، حيث واحد من أقسى وأكثر جبهات الحرب رعباً ، وأكثرها وضوحاً لمديات القناصين ومدافع الهاون ، وتسمى بحيرة الأسماك ، كنت هناك أعيش الذعر الروحي؛ لذلك الخوف أن يكون الفندق الذي أتمنى السفر فيه إلى باريس أو روما أو دلمون؛ ليس سوى هذا النعش الخشبي الذي يلفُّوه بعلم.
كنت وقتها أعلق في ملجئي صوراً لممثلات السينما كتعويذة أطْردُ فيها دقة الإصابة التي يحسنها القناص ورامي قاذفة (الآر بي جي 7) ، ومن بين هذه الصور صورة للساحرة كاترين دينوف ، وذات يوم دخل إلى ملجئي آمرُ السرية فانتبه إلى الصور ، وربّما وحدها كاترين بنظرتها المتوحشة الفاتنة من جعلت الضابط لا يفكر بإنزال العقوبة عليّ ، كوننا في حرب وليس في قاعة سينما.
وأظنّ أن عينيها هما مَنْ دفعه في الأيام القادمة إلى الإقدام على فعل مجنون لم يُقدم عليه أي جندي في أي حرب. عندما أقنع عشيقته بأن تتنكر بملابس جندي وتأتي معه إلى الحجابات القديمة ، وتبقى معه في ملجئه دون أن يعلم بها أحد.
ذات يوم أتت مفرزة استخبارات وداهمت ملجأ آمر السرية ، وكان برتبة نقيب ، وألقوا القبض على عشيقته ، وكانت ممدَّدة على سرير نصف عارية. أما هو فقد اقتادوه إلى مقر الفرقة ، وتمت محاكمته وطردُه من الجيش مع السجن لسَجنه واحدةً ، ولا أعرف ماذا جرى لعشيقته ، ووقتها ذعرت أن يداهموا كلّ الملاجئ ويكتشفوا الصور ، فأساق مخفوراً إلى السجن ، وبعد حين عرفنا أن مراسل الآمر – الجندي الذي يقوم بخدمته – هو من وشى على آمره ، ولكنّي كنت دائماً أنظر إلى النظرات الساحرة لعيون دينوف في الصّورة وأهمس لها : حتماً أنت من وشيت عليه.
بعد مرور سنوات ، انتهت الحرب وذات ليلة أتت إليّ أطياف تلك الحكاية ، ودونت الاشتياق إليها في نصٍّ يضع دينوف والمدينة التي اغتربت هنا في شهية واحدة ، قبل أن أطلق عليها لقب الآلهة الفرنسية القبيحة. وقتها كانت كاترين وحدها في الصّورة ، ولم أكن بعد قد عثرت لها على تلك الصّورة السريالية ، وهي تنتظر من فرانسواز ساغان إشعال سيكارتها (الديموريه) ، وهي ذات الماركة التي كان الحانوت العسكري يبيعها على الجنود في جبهة بحيرة الأسماك ، وبعيداً عن الضابط في مدينة الناصرية كانت توجد أربع سينمات؛ الأندلس الصيفي والشتوي. والبطحاء الشتوي والصيفي. واليوم البنايات الأربعة فقدْنَ سحر شاشات العرض فهُدمت البطحاء الصيفي والشتوي. والأندلس الشتوي تحولت إلى مخازن وورش نجارة والصيفي أصبحت مرآباً للسيارات.
وعودة للزمن الذهبي لقاعات العرض السينمائي ، كانت تلك الأمكنة واحة خصبة لسياحة الخيال ، وكتابة القصص والخواطر ورسائل الحب ، ومن يريد أن يمتلئ بالشوق إلى أنثى يتمناها ويتخيلها يذهب ليشاهد فلماً رومانسياً هندياً ، أو يتمتعُ بشهوة عينيه مع جسد الفاتنة هند رستم أو برجيت باردو أو راكيل وولش.
كانت الدهشة تصبغنا بأشياء كثيرة ، ومع الأفلام الملونة نَمَتْ فينا هواجس جديدة لها طعمٌ آخرُ ، حملته الموجة الجديدة لوجوه الممثلات ، وربّما السينما الفرنسية أخذت منّا الكثير من سحر التسمُّر أمام شاشات السينما ، وقراءة خارطة تفاصيل الجمال في لذة الزبدة الفرنسية التي كانت مملوءة بصحن ، وملتصقة على خد ممثلة ساحرة اسمها كاترين دينوف.
كان هذا الوصف يضعه صديق لنا هام حبّاً بها ، وكان يقول : أجمل الطيور تلك التي تحلق في سماء عيون كاترين دينوف. وكانت سينما الأندلس هي من تخصَّصت في الأغلب بعرض الأفلام الفرنسية.
وكان العرض المسائي يبدأ دائماً في الساعة الرابعة بعد الظهر ، فكان صديقنا في اليوم الذي تعرض فيه سينما الأندلس فلماً لدينوف يتسمَّر أمام باب السينما من الساعة الثانية بعد الظهر في أوقات تصل فيها درجة الحرارة في الصيف إلى خمسين درجة. وفي الشتاء كان البرد يهزّ بدنه ، لكنّه كان يشعر أن انتظار الفاتنة الفرنسية يدفئه.
إلحاح صديقنا في عشق دينوف جعلنا نميل إلى التعلق بأجنحة هذه الطيور ونحلق معها.
وكنّا نسأله : لنفرض يا (س) قادتكَ الصدفة لتكون أمامها وجهاً لوجه.
يرتعشُ ويردُّ : حتماً أصاب بجلطةٍ في القلب.
صديقنا لم تأته الجلطة ، بل الذي أتاه هو شظية من مدفع هاون اخترقت صدغية رأسه ، وقتلته في ذات اللحظة في صباح بارد بربيئة على جبل في منطقة بنجوين ، ويقال : إنه قبل موته كان قد انتهى للتو من تعليق صورة جديدة لدينوف على جدار ملجئه ، وجدها في غلاف واحدة من المجلات الفنية.
الآن عاشق دينوف ذهب إلى قدر بعيد ، ودينوف بالرغم من أنها تبلغ أعوامها السبعين ، إلا أن جمالها المبهر لم يزل مكاناً لتحليق ملايين الطيور الجميلة ، وربما لو كانت تعرف بهوس صديقنا الذي سرقته شظايا الحرب لأقامتْ قداساً جنائزياً عليه ، وربما كتبت رسالة قصيرة إلى محافظ المدينة؛ ليبقي فتنة السينما في قلوب الشباب.
وحتماً سيقول لها : الفضائيات والعولمة سلبت فتنة السينما. والإنترنيت واليوتيوب ألغيا سحر الشاشة ، وأصحاب السينمات هم من حولوا القاعات إلى ورش نجارة ومرائب للسيارات.
طبعاً هي لم تقتنع ، وستتذكر مع جيل كامل من أبناء مدينة الناصرية السحر الروحي والجسدي الذي كان يصيبنا بقشعريرة اللذة والدهشة والسمر أمام شاشة السينما ، ونحن نعيش حلم زيارة باريس وتذوق الزبد الفرنسي الطازج على خد دينوف.
وحتماً أيُّ واحد منا لم يتذوق شيئاً من هذا الزبد ولم يشم عطراً لها ، فكلّ الذين كنت أراهم في باريس كانوا أفارقة ، ومن المغرب العربي وسواح خليجيين ، فيما المواطنون الفرنسيون ينظرون إلى الغرباء والمهاجرين بشيء من الريبة والحذر ، خصوصاً بعد الهجمات الإرهابية الأخيرة في باريس ، وغيرها من المدن الفرنسية.
بين تلك الأزمنة وهذا الزمن تعيش الناصرية في مساحة سير غيمة الذكرى ، بين وقت كنّا فيه نقود سعادتنا من خلال رموش ممثلة. والآن نقود ذات السعادة من خلال الراتب ومفردات بطاقة التموين.
ها أنت ذا تصوغ الوجوه صوراً ، وتحشرها بين تماثيل حياتك الشاخصة ، بعضهم يرتدي بدلة مدنية لحفل ساهر والبعض الآخر يرتدي بدلته العسكرية والنياشين.
تماثيل النساء شحيحة وأغلبها لحواء وفينوس ، وآخر بنته الهند لحبيبتها المقدسة الأم تريزا.
غير ذلك أنا أريد أن أشيّد في هذه الرواية تمثالين لدينوف وساغان. وليس بعيداً عنهما سيكون هناك تمثال ليل في دمعته الأسطورية حين قرر يلتسين إرساله إلى مصهر البرونز في أطراف العاصمة موسكو.
الغريب أن التمثال شحنوه على متن شاحنة من اللائي يُستخدمن كمنصات لإطلاق الصواريخ التي كان الرُّوس يوجهونها صوب واشنطن أيام الحرب الباردة؛ كجزء من تحذير أمريكا وتخويفها لئلا تفكر بغزو كوبا ثانيةً ، وإسقاط قبعة فيدل كاسترو من على رأسه.
أعرف أن نصف ممثلات وفاتنات باريس يفضلْن الحصول على ليلة غرام واحدة مع فيدل. وقبلهنّ كانت الفاتنة المنتحرة مارلين مونرو قد تمنَّت ذلك ، وراسلته لهذا الغرض ، لكنه لم يلبِّ غرضها ، لربّما شعر أن أمريكا قد غرست جرثومة في عضوها التناسلي تصبه بعدوى الخرف ، ويسلم كوبا لها على طبق من ذهب ، فضل عشيقة أندلسية ليتعلم منها الطرب وشهية البرتقال؛ وليحفظ عنها ما قاله لوركا عن الغجر عندما تحولهم الحروب الأهلية إلى ثوار يساريين.
كلّهنّ يعلنّ رغبة الفراش مع فيدل. ولو كان جيفارا على قيد الحياة ستتضاعف أعداد الراغبات؛ لأنه أكثر وسامة واندفاعاً من كاسترو ، وربما ستكون برجيت باردو أولهنَّ ، فهي تحب هذا النوع من النساء.
سأتذكر الآن باردو وفاء للحظة الإغراء التي تسكننا لأجلها ، وسأدفع خيال الصّور إلى ذلك الملجأ المنسي الآن ، والذي كان يقع على ضفاف بحيرة الأسماك في حرب الغراميات التي يحولها الجنود إلى أشواق وعادات سرية ، وسأتذكر ما كنت أكتبه تحت صورتها التي كانت تجاور صورة دينوف على أساس أنها فرنسية ، وعليها أن تكون إلى جانب فرنسية أخرى :
كأنك لا تكتب الرواية سوى عن الممثلات فقط ، وهذا من بعض محن التأليف في لملمة شمل الوجوه الأنثوية ، وأنت تقارنها بالتماثيل والصور ، وحتى تهرب من جعل رؤاك ربورتاج صحيفة لما ذهب ويأتي ، تجعلها كولاجات ومشاهد وتقرِّبها إلى حبكة ، إبراهيم إنك تبحث عن جدوى لتلك اللحظة التي تتأمل فيها فرانسوا ساغان تلك السيكارة المشتعلة بين فم كاترين دينوف ، كما تشتعل اللذة في مديرة المتحف التي عشقت تماثيل الحجر ، ولم تعشق الأحياء من البشر.
شيء من الميثولوجيا ينبغي أن يطرب روح الحكاية عندما تريد أن تكون شاهد عيان لحركة بوصلة الزمن في الاتجاهات الكونية لأجفان القارات ، وهي تعيش لتكتب ، وتمارس الغرام على الوسادة.
عليك الهروب من وجه باردو ، وانشغل بالمهم ، أعطيتها مديحاً لأكثر من صفحة.
وجوه التماثيل وقت احتراق التبغ (التتن) الذي نصح الطبيب جدتك أن لا تدخنه حفاظاً على رئتيها ، ولتعوضه بأكل المشمش المجفف. ضحكت وعلقت أمام الطيب قائلة : حين يصبح الطبيب بطراناً سيكون عطار البابنك أكثر ذكاء منه.
الآن التفكير بما كان هو ذاته التفكير بما يكون ، ما دام الإنسان ذاته بكل مواصفاته الروحية والجسدية. الاختلاف فقط بما يؤثر عليه ويستخدمه في النمط الجديد لحياته ، غير أن صنعة النص هذا تبقى موقنة أن الحصول على مودة من خلال عطر الصور ، والرعب الذي تمنحه مشاهدة التماثيل تستطيع أن تمنحنا القدرة؛ لنكون رواة وشهوداً لعصر تركت للمؤرخين التحدث عنه ، وأبقيت لرغبتك أن تسجل فيه حكاية ابتدأتها امرأة بنظرة شبقة ، وهي تشعل السيجارة لامرأة أخرى.
إنها روايتك تتخيّلها أنت وتتخيّلها فرانسوا ساغان بذات العاطفة ، والفرق هنا أنك تعيشها وأنت على قيد الحياة بينما ، ساغان ماتت ، وعليك الآن أن تستعيد وجع موتها في تلك الرسالة الإنترنيتية التي كتبتها إليها قبل سنوات ، وأنت تشعر أن الفتنة قتلت بسيف الساموراي وبطعنة في الخاصرة.
سأعيش لحظة الكتابة إليها ، ذلك النص المدهون بدمعتي وشهوتي التي استعدت فيها صباي ، وأنا أغامر في قراءة روايتها (صباح الخير أيّها الحزن) لحظة أن يكون كلّ هذه النزهات مع الصور والتماثيل إنما هي استعادة لهواجس ذكورتنا الطفولية يوم أيقظت فينا السينما سبات الشهوة ، التي كانت تتلذذ بتلك اللحظات الأسطورية التي كنت فيها بعمر السابعة ، وكانت أمّي تصحبني معها إلى حمام النساء ، وفي الثامنة بدأ الإدمان على السينما عندما كان أخي يحشرني بين الناس لأدخل خلسة عن عيون البواب ، وبدون بطاقة.
ما زلت أتذكر متعة الشاشة البيضاء وهي تبهر في أجفان طفولتي رؤية الصدور النصف عارية لممثلات لا يشبهن أنوثة جارتنا وبنات شارعنا والنساء اللائي كنت في حمام النساء اختلس النظر إلى نهودهن الكبيرة ، كمن يختلس الخوف من فم النمر ، عدا واحدة اسمها هيام كانت تضحك بغنج مغرٍ كلّما شعرت أني أنظر إلى ما فيها من عري يمشي عليه الصابون بإيفاع بطيء ، وكأنها تهمس لخوفي : لا عليك ، ستكبر وأرتمي بأحضانك.
ذات يوم عدت من عسكريتي في جبهة بنجوين ، فلم أشعر إلا وهيام التي توفي زوجها منذ سنوات في قصف طائرة إيرانية على سوق المدينة ، وكان عطاراً ، لم أشعر إلا ولسانها يبلل لساني بشهية تلك النظرة الطفولية ، وهي تهمس بلذة كاهنة وامرأة مجربة : الآن أفي بوعدي إليك يوم كنت طفلاً من أني سأرتمي بأحضانك ذات يوم.
مرة واحدة مارست فيها كلّ فن الجسد ودروشته ، وفي الإجازة الثانية أومأت إليها لتأتي ، فبعثت لي ورقة تقول : كلا هي مرة واحدة فقط…!
بين هيام وإغراء الصّورة وهي تنفث دخان سيكارتها أعود إلى ساغان ، فهي أقرب إليّ من كاترين؛ لأنها روائية وأنا مثلها أحترف الكتابة ، لكنّي أعيش في ظل ، وهي في شهرة عارمة ، وعلينا أن نتناوب شحن مشاعرنا.
قالت : الدخان من أي الأمكنة يجيء ، من نار الموقد أو لفافة المارجونا أو أراكيل السلطان العثماني أو سيكارة الديموريه ، فإنه ينتهي إلى الصداع ، ثم إلى نشوة غامضة استمر فيها بكتابة روايتي وإكمالها.
– أنا لست مثلك ، تلك الأدخنة لا تدخل صدري لتصنع فيها السعال ورغبة الكتابة ، بل تقف على نافذة فمي أوّلاً لأتخيّل أني أتبادل القبلات مع امرأة حمام النساء (هيام).
تضحك فرانسوا وتقول : هيام ، وأنا لي دمية اسمها جانيت كنت لا أنام إلا وهي في حضني ، الدمية شيء ساحر في تهيئة طفولتك لما سيكون بعد ذلك.
ضحكت وفسرت نظرتها إلى دينوف وهما يتبادلان غرام الانحناءة من أجل سيكارة ، ولا أعرف مناسبة اللقاء ، ولم أرد أن أسألها لأشعر بأننا جالسان في تبادل رشفة قهوة عربية في مقهى شتوي في مدينة كان.
الآن التفكير بما كان هو التفكير بما يكون. فهذه هي روايتك اكتبها بما تتخيّله أنت وحتماً عطر ساغان وطيفها سيساعدك ، ولكنّها حتماً ستختلف عنك في إدارة الأحداث.
كانت تقول : الدخان يأتي من نار الموقد وسيجارة الديموريه أو من لفافة المارجونا ، عندها كلّ صداع ينتهي ، وبعدها تستطيع الاستمرار في كتابة روايتك.
– أنا لست مثلك ، هذا الأدخنة لن تكون لذيذة أو حافزاً عندما لا تحفز صدر أبي سوى السعال الذي يثقب رئتيه ، فتأتي الرواية أفكاراً ودموعاً ورغبات غرام.
كنّا جالسين في مقهى شتائية بمدينة كان ، حيث هدأت المدينة من صخب الصيف وسحبوا البسط الحمراء التي يمشي عليها ممثلو السينما ، إذ دعوتها إلى فنجان قهوة وفرشت لها بساطاً أحمر من تلك التي تنسجها أمّي ، وترسم عليها أشكالاً لوجوه بدائية تشبه كثيراً تلك الوجوه المرسومة في الألواح الطينية وبوابات المعابد السومرية ، وجوه تشعر أنها قادمة من المريخ وبعضهم أطفالٌ على شكل دُمى وبأربعة سيقان ، واحد في كلّ بساط تنسجه أمّي يكاد يكون شبيهاً لي ، وله أرجل أربع ، وعندما أسألها : لماذا بأربعة سيقان؟
ترد : حتّى لا تحتاج إلى قطار يوصلك إلى مدن غربتك. أربعة تكفي لتوصلك إلى أي مكان.
تضحك ساغان وتسأل : هل تدخن أمك؟
– نعم.
– إذن هي سريالية مثلي.
– وقديسة أيضاً.
– ربما هي كذلك ، ما دامت أمها تسمى مشتهاية.
أضحك وأتساءل أي إيروتيكيا تلك التي تجعل الروائية الفرنسية تتحول إلى خيط أبيض من دخان سيكارة يصل إلى فم جدّتي مشتهاية ، ولكن عبر تأملها إلى فم كاترين.
رأسي الصغير يتذكر إيروتيكيا أخرى تلك التي عاشت في طفولة أبي يوم كان يصطحب أبيه الذي كان يعمل حارساً مع بعثة التنقيب البريطانية في أور في عشرينيات القرن الماضي ، وكانت زوجة رئيس بعثة الآثار تدعى كاترين وولي.
وكان الحديث بين رجال البعثة أن كاترين زوجة رئيس البعثة مغرمة بالحس أو بشيء آخر بعامل التنقيب حمودي ، الذي جاء معهم من الجزيرة والبادية القريبة من آثار النمرود ونينوى.
تحدثت لساغان قليلاً عن الذي رواه أبي عن كاترين أخرى.
قالت : أيٌّ كانت ، تلك الغراميات لا تهمني ، إنها من أساطير ألف ليلة وليلة ، وقد تكررت كثيراً حتّى في أفلام السينما ، وقد فعلتها مرة وفي ذات المكان آجاثا كريستي في إحدى رواياتها البوليسية. الذي يهمني أنها (كاترين) تلك الآلهة القبيحة الفرنسية القبيحة كما تصفها أنت.
لكنك تعيد الكرة برسم صورة لكاترين الأخرى ، وتضعها أمام أجفانها مستغلاً نشوتها مع فنجان القهوة.
تردّ ، وهي تبدي انزعاجها من تكرارك الحديث عن واحدة ماتت قبل ثمانين عاماً : تلك المرأة لا أعرفها؟
– نعم إنها كاترين أخرى ، وهي ميتةٌ الآن.
– وهذا ما لا أحب النظر إلى صورته. الماضي المتوفَّى. أنا أعيش كاترين الحاضر ، إنها دينوف الجميلة التي تشعرنا أن الله عندما لا يمنحنا جمال الملامح ، فقد يمنحها إلى واحد قريب منا. وهذا ما فعله الله معي عندما جعل كاترين واحدة من صديقاتي المفضلات.
– ربما تحتاجين إلى كاترين أخرى لتتعادل عندك كفتا الميزان ، ولتعرفي أيَّ كاترين هي الأقرب إليك؛ لأن الأولى كان يسكنها في إيروتيكيا نشوتها الحس والرغبة عندما تلامس الأكتاف العارية لحارسها العربي حمودي يوم أتاها سعيداً ، وهو يحمل لها تمثالاً لشولكي. أوّل ملك في البشرية من عزف بآلة موسيقية ، وعاش في أور.
– أوه. أور تلك المدينة التي ذكرت في التوراة. وأظن أن إبراهيم النبي ولد فيها ، لقد قرأت عن ذلك في المرحلة الثانوية. واستمتعت كثيراً أن نبياً ولد في الشرق ، ونحن نعتقد هنا في أوروبا ، أنه جدنا. وبالرغم من هذا هو ملك لا يهمني فالتاريخ مليء بمواهب الملوك.
أنظر إلى وجه ساغان وأعرف أن أي كاترين أخرى لن تعجبها. لهذا ابتعدت عن تلك الأساطير التي لم يبق منها سوى ما تتناقله الكتب عن مئات الصناديق التي حملها حمالون من أهالي قبائل المناطق القريبة من أمكنة الأثر ، وضعوها على ظهور الحمير وأوصلوها إلى ضفاف نهر الفرات.
ومن هناك ذهبوا بها صوب البصرة ، وأنزلوها على ضفاف شط العرب ، ونقلتها بغال أخرى قادها رجال زنوج أشداء إلى ميناء الفاو ، حيث السفن التي أبحرت إلى أوروبا ، وهناك وزعت الغنائم على متاحف العالم.
لم تهتم كاترين إلى خط سير الآثار المسروقة ، وقالت : ألم أقل لك : لا شيء يهمني بأي كاترين أخرى عدا كاترين التي تهمني. وستبقى كاتريني هي الجمال كله؟
هي متعجبة بآلهتها الأنثوية ، وكأنها تريد أن تنسى ما قالت لها أمها في طفولتها : شعرك أشقر يا صغيرتي ، ولكنّ فيه ملامح صبي ، تمنيت أن يأتي ذكر بدلاً عنك…!
وقتها بكت فرانسواز كثيراً. وأنا بكيت مع بكائها ، ونسيت أن هناك كاترينَ أخرى غير آلهتي الفرنسية القبيحة وعدت إلى تلك الإيروتيكيا التي حولتها الصّورة إلى حكاية شهرزادية تسكن الخفي الذي يغور في أعماقي ، ويحرّك تلك الرعشة الطفولية التي كانت تلازمني وتمنحني اللذة والفرح ، وأنا أشاهد النساء العاريات في حمام النساء الشعبي حيث كنت بصحبة أمّي إلى سن السابعة ، حيث منعت صاحبة الحمام أم مهدي والدتي من اصطحابي معها ، وعندما شعر أخي الكبير بحزني لهذا المنع ، قال لي : سأصحبك إلى أجمل من تلك الأمكنة ، فأخذني لمشاهدة فلماً سينمائياً؛ إذ دخلت السينما لأوّل مرة في حياتي فاهتزم الباطن في لذة كلّ تلك اللحظات الممتلئة ببخار حمامات النساء مع أوّل لقطة غرامية يلتصق فيها جسد هند رستم وشفتيها بجسد الفنان عمر الشريف ، وشهدت أن ما على صدرها من تفاحتين هما أجمل كرتين مدورتين من الشحم واللحم في هذا العالم.
وصفت تلك اللحظة الممتعة إلى فرانسواز التي كانت تكبرني بثلاثين عاماً ، وقد قربت من أنفي تسريحة شعرها القصير وبدا عطرها الفرنسي فواحاً ، وتخيّلت أنه ذات العطر الذي كانت تضعه هند رستم في فلم الإغراء القديم.
لقد أحست فرانسواز أن عطرها قد يعيد إليّ اللحظات القديمة ، فأرادت أن تقدم إليّ خدمة ما ، فتركت أنفي يعبث بين خصلات شعرها ، ثم همست بثمالة غريبة : شعري لك وفم كاترين لك أيضاً إن استطعت الحصول عليه؟
ضحكت وقلت : عن أي كاترين تتكلمين ، ونحن فقراء أور ليس لنا سوى دمى الطين مَنْ كنّا نستطيع أن نمارس معهن إيروتيكيا الباطن التي تسكننا منذ أن كنّا نصنع دمى الطين ، ونهتم أولاً بشكل أعضائها الأنثوية.
نترك أعمارنا تعيش في إيروتيكيا التخيل حتّى الثلاثين ، ثم نتقدم صوب آبائنا الذين أصبحوا وقتها كهولاً ، ونطلب منهم البركة والمال لنكمل نصف ديننا ، هذا إن لم نكن قد أصبحنا وقتها وقوداً للحروب التي ظلت دولتنا تفرضها شرطاً إلزامياً على الذكور ابتداءً من الثامنة عشرة وحتى الأربعين.
قالت فرانسواز : لا تأت لي بمشاعر ومشاهد وذكريات لا تعنيني.
– أعرف أن الذي يعنيك فقط هو رائحة دخان سيكارة دينوف ، ولكن القدر جمعنا معاً ، ولا مفر من أن تسمعي ما أريد أن تعرفيه ، قد أيقظت من سبات قربك ، بعثت بك إلى حياة ثانية ، كما يفعل آنو مع الإناث اللائي يريد أن يعيش معهن متعة انبعاث الحياة من جديد.
– عالمك هذا كئيب ، لا يبعث الحياة كما يفعلها إلهك المفضل. إنك تريد من عطر شيء أن تستعيد هاجساً يسكنك ، ثم تعيدني إلى صمت قبري. أنت تربح ، وأنا أعيش فزع ، إنك توقظني من هدوء نومتي. أرجوك قل شيئاً يشابه صباحات باريس؛ لأشعر أننا متعادلان في استعادة ما يهمنا نحن الاثنان.
اترك أحلامكَ الشرقية ، وتحدث عن مشاعر ماري أنطوانيت وهي تسكب دمعتها مغرورة قبل أن تُزل على رقبتها المقصلة ، اكتب لي ما تشعر به ، وأنت تشاهد ألن ديلون يمارس الغرام مع ممثلة إيطالية في غرفة الشوفان ببيت ريفي وعيون سيمون ديموريه تراقبهما بشهية.
تحدث لي عن رامبو وقصائده وعن غراميات أراغون لإليزا ، عن مساءات حقول التفاح في الجنوب الفرنسي ، حيث يعتقدون أن آدم وحواء نزلا هناك.
قلت : الأثريون حتّى الأوروبيون منهم يقولون : إن آدم وحواء نزلا تحت ظل شجرة سدر ليس بعيداً عن أور ، هناك حيث يلتقي نهرا ميزوبوتاميا ، وقد خدمت في جنديتي قرب هذا المكان في جبهة اسمها مجنون ، وكلّ نهاية أسبوع كنت أذهب إلى المدينة التي تقع قرب شجرة آدم ، أستحم في واحد من حماماتها ، ثم أجيء إلى تحت الشجرة لأغفو ساعتين ، ثم ألتحق إلى جبهتي.
لهذا أي جهة في العالم تعتقد أن النبي نزل فيها ، فهي جهة متوهمة.
– ربّما ، ولكن حتّى وأنت تتكلم معي عن آدم وحواء تظلّ مستمراً بشم شعري؟ ربما هذا يشعرك أنه الشيء الجميل الذي كنت أمتلكه من مظهري الأنثوي ، وأعتقد أنك على حق؟ أمام كاترين فربما تجد أشياء كثيرة ، أنا نفسي عشت إلهام جمالها في الكثير من رواياتي؟
– نعم هي مُلهِمة رائعة حتّى عندما تحرّك جفنيها.
– ولكن لماذا كتبت عنها ذات مرة : إنها إلهة فرنسية قبيحة؟!
– حتّى لا ينتبه إليها ذكور العالم. إنها الأنانية. أردتها لي وحدي.
وبعيداً عن كلّ ذكور العالم رحت أمتِّع أنفي برعشة ، وهو يلامس الشعر الناعم للروائية التي داهمها نعاس غريب ، ومع رغبتي بالعطاس مدت منديلاً أبيضَ ، وقالت : خذ وحاذر أن يختلط رذاذ أنفك بعطري ، فهذا ما لا أحبه…
وهكذا عشت رومانسية اللحظة وإيروتيكتيها المتخيّلة ، وكلّما يداهمني العطاس أبعد أنفي عن شعرها.
فتحت عينها وقالت : أنتم الشرقيون تحبون شَعر حبيباتكم بضفائر؟ أنا لست حبيبتك ، لهذا يحق لي أن أكون من دون ضفائر ، أنا امرأة باريسية بسيطة ، والباريسيات لسن مثل بنات الريف الفرنسي يعملن الضفائر؛ حتّى يستطعن إغراء الذكور والتقدم للزواج بهنّ ، وأيضاً يستطعن إغراء بقراتهم ليعُدن إلى الزريبة ، ولا يكن عنيدات…
أحب البساطة. يومي كلّه كان فناجين قهوة وسكائر ولفافة مارجونا وسياقة سيارة الفيراري ، وفي الليل أهجع إلى الويسكي والكتابة.
تعرف أنا أعشق سيارات الفيراري ، وكنت أشتريها من مبيعات روايتي. أشعر أن كلّ فيراري تحمل عطر صوفيا لورين التي أحب أفلامها.
تركتها تتحدث عن إيطاليا وعدت قليلاً إلى ذكريات أور ، وانتبهت إلى شيء مهم في واحدة من صور كاترين وولي زوجة رئيس بعثة التنقيب في أور؛ أنها لم تكن ترتدي قبعة ، وكانت واقفة قرب حارسها العربي حمودي ، وفي تلك الصّورة كان شعرها قصيراً مثل الشعر الذي أشمُّه الآن.
أحسّت فرانسواز بالمقارنة ، وقالت بهمس لذيذ : لا تقارنني بامرأة لا أعرف عنها شيئاً. أنا امرأة تبحث في تفكير الصبيات بأنفسهن لحظة النضوج. أما كاترين التي تقارن شَعرها بشَعري ، فتلك تنتظر زوجها ليخرج شيئاً ثميناً من التراب ، وهي حتماً لن تشبه كاترين التي أحبها ، والتي تصنع اللهفة في عيون ملايين البشر المتسمرين على أرائك قاعات السنيما ، وينتظرون منها حركة مغرية تشعرهم بالحاجة إلى المرأة التي هي بالنسبة لهم أثمن من أي تمثال حجري يخرجه وولي من التراب.
أردت أن أغيب بين غمامات عطرها متذكراً حكايات أبي عن أبيه الذي كان يشتعل ذكورة كلّما يسمع همساً بين العمال في أماكن التنقيب حول النظرات المشتعلة بين السيدة كاترين وحارسها ، فتسكنه نظرة عميقة وشهية من طرف تنورة السيدة الإنجليزية ويخلطها بنظرات الغزل المتبادل أمامه ، فيكاد يصرخ من رغبة دفينة فيه وتساؤله مع نفسه : هو أيضاً عضلاته مفتولة ، فلماذا لا تعجب فيه هو؟
أتخيّل المكبوت في نظرات جدي ، فيأتي عطر صدرها وهو يختلط برائحة التراب الذي صار أكواماً من تلال صنعتها مجارف العمال الريفيين ، فتحاول كاترين وولي أن تصعد تلاً من هذه التلال لتقف شامخة ، وتتأمل بمنظار يدوي القرى المحيطة في أور ، فيشتد إعجاب جدي ورفاقه ، تأتي ريح قوية فترفع شيئاً من تنورتها فيتقدم حمودي إليها ، حتى وهما يتعثران في التراب الرخو يحتضنها بحنان وينزلها ويعود بها إلى خيمتها ، وقتها تظن لجدي الظنون ، وربما يفعلها مثلما يفعلها الجنود على أرائك الخشب في قاعات السينما يوم يظهر شيء لافت؛ لتنظر ، ومثير من نهد كاترين دينوف في واحد من أفلامها.
أما زوج سيدة البعثة وولي ، فهو مشغولٌ بأشياء مذهلة وجدها في مقبرة أور ، حُليّ ذهبية وقيثارات موسيقية وهياكل عظمية.
أخبرني جدي ، أنه وجد أشياء من دلمون.
وعندما أسأل أبي إنْ كان جدي يعرف دلمون.؟
قال : إنه سمع وولي يقول لهم : احفروا جيداً فعن قريب سنعثر على الممرات التي تفضي بنا إلى جنة أجدادكم. لكن جدي أخبر أبي أن الموت والفزع في تناثر الهياكل العظميّة التي وجدها وولي في أقبية المقبرة أظهرت لنا أن المكان هو مكان جحيم وليس جنة ، فالخبز والفواكه متحجره ، والحليّ بدت سوداء من صدأ العصور التي مرت عليها…
همست فرانسواز ، وكان ما أتلوه لا يهمها وقالت : لا تغريني بأساطير الشرق وغرابته. وتسحب عطر شعري إلى فمك لتعيد إلى جدك شهية في أمانيه ليشم شعر زوجة رئيس البعثة. دعني مع كاترين التي أحبها وخذ أنت كاترين إليك ، واستعِدْ معها ما تود من ذكريات وشهوة؟
قلت : لا أحب مفارقة رائعة مثلك؟
– ولكن ليس على حساب ما أتمناه وأحبه.
– ولكن الذكريات تأتي بسبب غموض شهيٍّ في عينيك.
– وجهي ليس مغرياً ، لكنك تتذكر ملامح كاترين فيه ، وتصبح أنانياً حين تحلم بواحدة في أور وأخرى في باريس.
غير أني لا أريد سوى واحدة ، تلك التي احتفظ معها بودٍّ خاص يمتد أحياناً ليصير تبادل قبلات عبر أسلاك الهاتف.
لكني أصر لأبقى أشم في تسريحة فرانسواز ، أفتش عن نفس يهدّئ صدري من قلق الأيام التي تعمل فينا مواسم هجراتها كما يفعل السنونو في عودته من دفء الأهوار إلى نهاراته الأوروبية. ونبقى نحن نعيش هاجس أور وحكايات أبي الذي ترك بيع الحنطة والشعير والتحق كما أبيه حارساً للزقورة ، ينتظر لهفة ولده القادم مع السفرات المدرسية ، وذلك المسجل الفيليبس الذي يسمع فيه سائق السيارة الدوج الخشبية أغنية أم كلثوم (أنت عمري).
هناك يرث أبي ذات المكان الذي كان يمتلكه أبيه ، فيما ألوذ أنا بخجلي عندما يؤشر التلاميذ عليّ ، ويقولون : هذا والدك حارس لقبور الموتى.
أنزوي خلفهم ، وأرى عينيه تفتش عنّي ، وكأنها تقول : لا تخجل يا ولدي ، هذا ليس عاراً أن يكون أبوك حارساً لقصور الملوك ومعابد الكهنة.
– ولكنهم يستخفُّون بي يا أبي ، يحملون المهابة فقط لابن التاجر والمعلم ومفوض الشرطة؟
– ذات يوم ستعرف أي مهابة وفخر يحمل عمل أبيك.
وأنا أشم في تسريحة الروائية الفرنسية. استذكر كلام أبي وأحس بالفخر وأنا أحاول أن أجلب كاترين أخرى إلى عالم ساغان ، لكنها ترفض أن تستقبل خيالاً آخرَ لكاترين غير التي تعشقها. غير أني مع الاثنين أعيش خيال متعة الامتلاك ، وتلك البعيدة في تلال الأثر أشم منها عطراً غريباً يفوح في كلام أبي عنها ينقله عن أبيه ، وهو يتحدث عن العمال الذين يختلسون النظر ، وأحدهم يقسم أنه شاهد حمودي يعمل مساجاً لقدم السيدة ويصعد بيده الخشنة السمراء إلى ما فوق الركبة.
قال أبي : تخيّل ، والدي فلاح أمّيٌّ ويداعب فخذ سيدة إنكليزية ماذا سيحل ببقية العمال؟
قلت في نفسي : حتماً سيلوذون خلف جدار الزقورة ، ويمارسون العادة السرية.
قالت فرانسواز وهي تضحك بلذة : لو كنت رجلاً مثلهم لفعلتها. ابق تذكّر كارتين وولي وأنت تشم برأسي لكن لا تفعلها مثلهم ، فعلى أرصفة باريس هناك الكثيرات ممن ينتظرن قطرات مائك البيضاء.
يسكنني شيء من الخجل لتلك الإيروتيكيا المفضوحة ، وحتماً هي تختلف عن تلك التي تصنعها التماثيل والصور. وأقول : وأنت أيضاً أنثى جميلة يا سيدتي.
– جميلة فقط في رسم ملامح لوجوه إناث مغريات في رواياتي. وجهي ليس مثيراً بما فيه الكفاية. أنوثتي قلمي وعبثي الحياتي.
وأنت خذ تلك المرأة الإثارية ، وحتماً لن تكون بجمال إلهتي الفرنسية.
– كاترين وولي لم تكن تمتلك الأنوثة المغرية ، لكنها بالنسبة إلى عمال ريفيين شيء مثير ، خاصة عندما يتخيلون لحظات حقيقية أو وهم مع حارسها أو وهي تداعب بأصابعها الناعمة الصدور العارية لتماثيل سومرية عثر عليها زوجها في أور.
ويقول جدي : إنها في ذات مساء ظلت لأكثر من ساعة تتأمل وبعيون مشتهية تمثال للملك السومري أور نمو ، وكان شبه عار ويحمل طاسة بناء على رأسه.
كنت أقص عليها ما كان جدّي يحمله من شغف النظرات ، وكانت أور تفيض بوحاً شهياً في أجفاننا الطفولية لحظة ينصت التلاميذ إلى شروحات أبي ، وعندما نعود إلى البيت ، ينهال عليّ أبي بأسئلته عن مشاعر المعلمين والتلاميذ عن الذي تحدثه أمامهم.
فأرد عليه : إنهم معجبون بك جداً.
وقتها يمضي إلى حكايات أخرى غير التي تحدث بها أمام تلاميذ السفرة المدرسية ، وقال : بسبب العرف والقيم والأخلاق المدرسية ، هناك حكايات لم أحكها إليهم ، ولكن في جهة جانبية أسمعتها للمعلمين.
وقتها أحسست أن للمكان خبايا وأسراراً كثيرة. ومنها نظرات عمال التنقيب المشتهية يوم يرون حمودي يعمل مساجاً لساق السيدة الإنكليزية.
تغفو ساغان وتنام ، ولم تعد تسمع حديثك.
لقد غلبها النوم ، فيأخذك نسيم عطرها وتنتشي وأنت في حضرة واحدة تنتظر فرنسا كلّها صدور رواية جديدة لها ، لكنها فضلت أن تنام إلى الأبد ، فتحاول مع إغفاءتها أن توازن بين لهفتك لسماع حديث أبيك الجانبي مع المعلمين وطيف تلك الإغفاءة التي تختلط مشاعرها بما كانت الممثلة دينوف تمنحه لك في شهية صباك يوم تطفئ مصابيح قاعات السينما أنوارها.
تتذكّر أحاسيس وتسكنك رعشات وإنصات مندهش إلى حكايات أبيك. وفجأة تشعر أنها تستيقظ من غفوتها وتسألك : ما الذي يريد أبيك عندما يقحم طفولتك بقصص لا تصلح إلا للكبار البالغين ليسمعوها فهي تثير فيهم الرجولة والرعشة والحاجة إلى امرأة؟
فأخبرها : أننا في طفولتنا تسكننا مشاعر الرغبة مبكرة ، وأن الهم الكبير لآبائنا أن نصل إلى فحولتنا ورجولتنا مبكرين ، لهذا حتّى ونحن صغار حين نصنع دمى الطين نعتني بتكوير نهودها أولاً ، وبخجل عذري نهبط إلى ما بين الفخذين لنرسم مثلها ، ثم نغطيه بأجفاننا من الخجل.
– أجدادكم كانوا هكذا وأنتم ترثون ذلك. شاهدت الكثير من التماثيل السومرية في المتحف ، وأغلبها عار من دون ملابس ، عدا تماثيل الكهنة فأنتم تلبسوهم ما عليهم. يبدو لي أن التعري حتّى لو كان طيناً أو حجراً فهو يثير ما في داخلهم من كبت. الذي يظهر للعلن على شكل تماثيل هي لسان الحال لبهجة قديمة كانت تسكن أرواح أجدادكم.
– نعم وهي ذاتها البهجة التي جعلتهم يصنعون الطوفان وجلجامش وآدابا وغيرهما من الأساطير.
– سمعت عن الطوفان وجلجامش أما آدابا فلا أعرفها؟
– هو أوّل من أعلن تمرده على وصايا الآلهة له.
– الفرق بيني وبينك أنك تأتي إليّ بحكايات تمثل هاجس الشرق والكبت ، وأنا أجيء إليك بصدر عار لكاترين دينوف تعرضه أمام الملايين من البشر ، لتوصل فكرة أن الجمال الحي والشهي بقلب نابض هو الآلهة الحقيقية التي يمكنها أن تلهم العالم بشيء تكتبه على شكل رواية ، وهذا ما فعلته أنا.
– وسأفعله أنا أيضاً. لكن الفرق أنا أعبر عنه بإيروتيكيا مختبئة وراء ستار سميك من القذائف الحمراء وأنت تعبرين عنه بشكل علني ، وحتماً لذة المخفي هي الأكثر شهوة وحساً ، وكما يقولون عندنا : كل ممنوع مرغوب.
– وهنا نقول في فرنسا : كل مبتسمٍ شهي. والابتسامة لا نضعها خلف كواليس القذيفة الحمراء ، بل في الفضاء المفتوح.
أبتسم وأتذكر في حكايات أبي عن أبيه حول الغراميات المفترضة من قبل عمال الحفر في مدينة أور في الفضاء المفتوح لكاترين وولي ، وهي ترمي نظراتها إلى عضلات حمودي وبنظرات مشتهية تجعل العمال ينتهشون ويتمنون البقاء وقتاً أطول حتّى لو اشتغلوا من دون أجور ، وأهمس إلى ساغان : أنتم من أوّل عصوركم الاستعمارية معنا حملتم لنا إيروتيكيا الفضاء المفتوح وأفقدتم فينا التوازن ، أعطيتمونا أشياء جديدة وشهية بواسطة الإتقان المغري لممثلات السينما ، وأخذتم منا الكثير من خصوصياتنا التي ورثناها عن أجدادنا السومريين.
فلم تعد دشداشة العيد المقلمة ثوباً لأعيادنا ، بل أصبح البنطال وربطة العنق هو ما يجب أن نرتديه ، ونحن نذهب إلى الأراجيح ودور السينما وحدائق المتنزهات ، لقد خلعنا النعل الجلدي الذي مشى به جلجامش في رحلته الطويلة إلى غابة الأرز وارتدينا حذاء باتا.
ضحكتْ وقالتْ : لم يعد هناك جلجامش ، العالمُ يتحدثُ ويعيش الآن عن الذي هنا ، وهنا هو ما تفعله وكالة ناسا ، إنها تذهب بك إلى أمكنة إلهتك بظرف ساعة واحدة ، دون الحاجة لتدعوها بخيالك حتّى تنزل إليك ، العلمُ أثبت لنا أن الوصول الحقيقي يتم بفضل العقل والماكينة وليس الأساطير.
– إذا كنت لا تؤمنين بأخيلة الأساطير وتأثيرها فينا كيف تكتبين عن الحب إذن؟
– أؤمن فيها عندما تسكننا الرغبة لارتداء جنوننا ونهرب بوساطته من الوقائع. هنا الأساطير كما يقول كافافيس بعض من الحل. وأيضاً علاجاً مؤقتاً ، وحاجة قد تنتهي مع كتابة فهرست فصول روايتك. وربما كتابتنا لتلك الروايات هي من الحاجات الآنية التي قد يحتاجها البشر للهروب لو لفترة من ضغط الحضارة وتطورها الهائل. فيهربون من صرير الآلات إلى الروايات ، كجزء من الاستراحة التي ينالها العمال والموظفون خلال ساعات العمل.
وربما يتمتعون بتلك الصور أن يشاهدوا شيئاً من الزمن الذي كنتم فيه ترتدون النعل والدشداشة في أعيادكم ، وتأخذون الحليب من ضرع الناقة بأفواهكم وتغمسوه بالتمر ، ثم تسيرون على هدي النجم القطبي في ليل الصحراء.
أما نحن في الغرب ففي استراحتنا نتخيّل عودة لدون كيشوت ، وأمنيات بشم عطر المناديل التي كان يهديها نابليون إلى جوزفين أو تخيل مشاعر عزرا باوند وهو في قفص الاعتقال الحديدي ويرشون عليه الماء البارد أيام البرد كنوع من العقاب لتدمير نفسيته.
قلت : تلك ردود ليست ممتعة بالنسبة لي ولكنها منطقية ، وهذا ما لم يعلمني أبويَّ إياه بالرغم من أنه أكثر شيء أحبه من الحضارة الجديدة هو الراديو الذي كان يأتي إليه بمتعة صوت مطربة يهودية اسمها سليمة مراد.
– أبي أيضاً أحب الراديو ، ولكنه كان يأتي إليه بمتعة صوت مطربة اسمها أديث بياف. ولكنه في النهاية قد لا يشبه أبيك ، فهو ترك لي حرية الإدمان على المارجونا وأصادق من أريد وأكتب ما أريد من الإثارة.
– هنا الفرق؟
– لا تقل لي الشرف والقيم والأبوة.
– وماذا أقول؟
– العلم.
– وبقية هواجسنا ومشاعرنا؟
– نقاتل بها من أجل كسب المعارك الحضارية والنتاج هو ما حصلنا عليه الآن من متع الدنيا ، أما الجنة فأنا أتركها لأساطيركم.
– أنتِ ملحدة إذن؟
– كلا أنا أحب المسيح؛ لأنه يسمح لي أن أذهب بمتعتي إلى نقطة لا أشعر فيها أني أضرّ أحداً أو أتطفل عليه.
– أنتِ تؤشرين إلى تطفل عمال التنقيب البسطاء؛ هذا لأنهم لم يروا بحياتهم امرأة تصنع نوعاً كهذا من الإغراء ، لهذا سمح لهم إحساسهم والمكان بالتطفل ليذهبوا مع شهوات أجفانهم دون أن يتعلق الأمر بوصايا نبي أو قديس. ما داموا يرون لأول مرة في حياتهم امرأة شقراء تداعب بنظرتها وجه رجل شرقي مثلهم.
لا أدري أين تنتهي بي تلك المودة التي يحتفي بها أنفي وهو يشم بلذة غريبة خصلات شعر المرأة التي قررت الذهاب عن هذا العالم عندما أدركت أن العمر لم يعد ضرورياً لنعيشه.
تشعر بأنفاسي وتهمس كمن يشفق إلى لهفتي لعطرها المفضل من السانت لوران ، والذي تضعه كلّما أرادت الشروع بكتابة فصل آخر من روايتها :
ما زلت شاباً وتحتاج إلى من هي في عمرك.
أتذكر فارق العمر بين كاترين وولي ، وحارسها حمودي ، حيث يفصله عنها حوالي عشرين عاماً تكبره هي. فأرد :
– اللهفة للشيء لا تنظر إلى الزمن. ما يهمنا المكان.
– ولكن شَعري الأشقر ليس شفاهاً ناعسة لامرأة. قد يكون باروكة مثل تلك التي كانت ماري أنطوانيت تضعها على رأسها؟
فتش به جيداً ستجد الشيب منتشراً فيه بالرغم من أني أحاول أن أخفيه وأصبغه كلّ شهر مرة. أنا لا أقيس الأمور على الأشقر والأبيض ، أقيسها بذات إحساس عمال المنطقة الأثرية.
– أنت تعيش في أوروبا ، فلماذا تصحب معك كبت الشرق كلّه. وتلك الشهوات التي لا تستطيعون إظهارها إلا في عزلتكم في الغرف المظلمة والمقابر!؟
– هذا ما ورثناه ، وما تركه لنا آباؤنا ، وهم ورثوه عن أجدادهم ، أنا لا أستطيع أن أتخلص من سومريتي مثلما أنت لا تستطيعين التخلص من جرمانيتك. قد يعتقد البعض أن نظرات عمال التنقيب المشتهية شيءٌ من الفضول ، أما أنا فأراها استعادة ما كان لأجدادنا من قدرة لصناعة الشهوة ، لهذا فاختلاس النظر إلى ما كانت تفعله كاترين وولي إنما هو رد فعل يسكن أعماقهم قبل نظراتهم ، تلك هي الإيروتيكيا الأبدية التي تسكنهم منذ أوّل السلالات التي انحنت بطاعتها للآلهة عارية الصدور وتشع بنظرات شهية وثمالة.
لهذا فإنّ عمال الحفر ليسوا بقايا الكبت الذي يطغى على حياة الشرق ، بل هم يرثون الإحساس الأوّل بالنشوة؛ لهذا كانت نظرات كاترين توقظ فيهم الحنين إلى إيروتيكيا الأساطير ، وكاترين نجحت بغزلها لحارسها أن تخرج المكبوت فيهم من إرث أرواحهم منذ ورقة التين وإلى اليوم.
ضحكت فرانسواز ، وقالت : نحن في فرنسا لا نزرع التين ، بل نزرع التفاح؛ لهذا نسميها ورقة التفاح.
قلت : ولكنها صغيرة ولا تغطي مساحة الوردة كلّها.
لا يهم ، فلقد رفعنا التفاح إلى الأعلى ، وجعلناه يسكن الخدود ، لهذا كلّ الفرنسيات خدودهن حمر ، وأجمل طقوس الغرام عندنا هو ما يبدأ من الخد. أنتم مع التين ونحن مع التفاح ، وأتذكر أحد الطلاب المغاربة كان قد عمل رسالة دكتوراه عن إحدى رواياتي ، أخبرني أن في حقل أبيه في ريف طنجة ثلاثين شجرة تين وشجرة تفاح واحدة.
وعرفت منه أن التين مذكور في كتابكم المقدس القرآن في أكثر من مكان ، ولا يوجد ذكر على ما أظنّ للتفاح. بينما الأساطير عندكم تتحدث كثيراً عن قصة آدم وحواء مع التفاحة.
أنا استفدت من قصة التفاحة كثيراً في رواياتي ، إنها جزء من لعبة الخداع والإغراء الذي تعرضت له حواء. لكني في النهاية أترك لحظة الإغواء مع الشيطان وتفاحته وأعود إلى الحدث الواقعي في حياتنا ، عندما تكون حواء في حضن آدم.
تخيّل هذا التمرين الروحي والجسدي ، عندما يمارسه البشر لن تخطر على بالهم شكل التفاحة ، بل شكل الشفتان وهما تداعبان الشفاه الأخرى بمزاج من اللهفة ، ومتى انتهى الفصل الأحمر بينهما عادا ليتذكَّرا قصة التفاح ، ويذهبان إلى المكتبة ليعيدا قراءة القصة بمتعة المطالعة ، وتذكر لحظة الانتشاء التي كانا يمارسانها قبل دقائق.
يغريني تفسير فرانسواز ، أجعل وجهها مقابلاً لوجهي ، أحسّتْ بشهية نظرتي إليها وقالت : تتأملني بخيال وكأني ما زلت حية وارتشف معك قدحاً من الشمبانيا ، دعك منّي واعتن برغبتك التي تريد فيها أن تسلب دينوف مني ، ولكن لن أمنحك كاترين كجارية ، أريد أن أمنحها لرجل يعرف معنى تمني باريس لتكون كاتريني قوس نصر آخر تمر عليه أرتال العشاق وعرباتهم المدرعة مصنوعة من الورد ، وقذائف مدافعهم من ثمر التفاح. أولئك الذين أكملوا لحظاتهم الغرامية بمنتهى الراحة والمتعة والنشوة.
قلتُ : الراحة والمتعة والنشوة ، هذه مفردات سومرية مكتوبة على الألواح الطينية وقبور الملوك ، وحتّى على بوابات المعابد ، وحتّى في أقراص الهوية التي كانت تحمل أسماء الجنود القتلى في معارك سومر ، إنها مثل التعويذة في أزمنتنا القديمة.
– هذا يعني أن وولي زوج كاترين وجد الكثير منها؟
– نعم.
– وهل تعتقد أنها من حفزت كاترين وولي لتعيش لحظة نظرة الإغراء لحارسها الشخصي.
– ربما ، وذات الكلمة عندما ترجمت للعمال من قبل رجال البعثة فعلت فعلها معهم ، وجعلتهم يسترقون النظر إلى حركات السيدة الإنكليزية.
– وهل تعتقد أن تلك الكلمات قد تكون حافزاً لرغبة تلك السيدة بخيانة زوجها مع حارسها؟
– وأظنّ أن هذا لم يحصل ، ربما نظرات وأفكار العمال البسطاء صنعت تلك الإيروتيكيا. ونظرات كاترين فقط للإعجاب بقوة حارسها واستجابته السريعة لكلّ ما تطلبه منه؛ لهذا زوجها وولي لم ينتبه إلى شيء مريب ، ولو عرف لطرد حمودي ، وأعاده إلى دياره في بادية الموصل.
فالمرأة الغربية قد يجاز لها أن تشعر بإحساس ما على شكل أمنية ، ويبدو أن وولي ترك لنظرات زوجته أن تذهب لحدود يؤشرها هو بسبب خوفه من قساوة تأثير طبيعة المكان على نفسية زوجته وتركها تذهب بإحساسها أينما تريد ، شرط أن لا تقرب شفتيها من فم حارسها في مكان مظلم ، أو في خلوة بعيدة في واحدة من أقبية الموت الجنائزي ، بالرغم من أنني أظنّ أن حمودي وبقية عمال الموقع الأثري قد لا يحسنون التقبيل من الفم.
ضحكت وقالت : ولكن التقبيل من هذا المكان طقس أزلي؟
– وقد انقطعنا عن متعته لقرون. بسبب المغول والترك والفرس وأنتم.
– لا أحب السياسة. دعنا مع مشاعر عطري القريب من أنفك. لقد سمحت لك لتشم ، وأنا لا أبعدك عن حقيقة أن لكلّ واحد منا كاترينه الخاصة به.
– قلت : ولكن كاترين الفرنسية أصلح لي من أن تكون معك ، فقد يسمون العلاقة بينكما سحاقاً…
قالتْ بغضب : عندك واحدة في خيالك ، فلماذا تتحايل لتسلب منّي واحدة هي لي؟
– هي للجميع ، كنا جميعاً نتمناها ، عندما الجميع يذهبون لممارسة أعمال شاقة في البناء وتحميل الطابوق فقط ليحصلوا على أجر يومي مقداره درهم واحد ، أربعين فلساً لبطاقة السينما ، وتبقى عشر فلوس نشتري فيها زجاجة كوكا كولا لنتخيلها زجاجة شمبانيا ونعيش معها متعة الثمالة ، ورؤية الأمكنة الشهية من صدر كاترين دينوف. حيث تسكننا ذات الرغبة والشهوة التي تمتحنه تمائم معابد أور لمن يود الوصال مع واحدة لا ينالها ، وعليه أن يدفع للحصول على تلك التميمة سلة من التمر أو قنطاراً من القمح ، أما نحن فندفع ذلك الدرهم الذي نستحصل عليه في يوم عمل شاق في مساطر الطين والبناء.
كاترين دينوف كانت تميمة لشبابنا ، وكنّا نريدها جميعاً ، وندفع مقابل ذلك أحلام ليل طويل من تأمل وجهها في أغلفة المجلات ، ومن ممارسة العادات السرية وكتابة آلاف قصائد الشعر والخواطر. بعضنا كان يفترضها الشيء الحضاري الوحيد الذي ينبغي أن يكون عالمنا ، والبعض يعتقد أنكم سرقتم منا شهرزاد الجواري وحوّلتموها إلى ممثلات سينما.
– سرقناها منكم؟!
– نعم هكذا كانوا يقولون لنا في كتب التاريخ المدرسية.
– وتأتي الآن لتسرق من شَعري عطره ، تريد أن تغريني وتسرق كاترين مني.
– حق مستعاد؟
– أبداً الشرق والغرب لن يلتقيان.
– إذن لماذا أنا معك الآن؟
– إنه طقس الصدفة أتى بقراءة مشتركة لكتاب ، ذكرى محطة ما ، عنوان واحد من رواياتي لفت انتباهك في مكتبة ، أريكة في مقهى تجلس عليها واحدة تشبهني ، أمكنة كثيرة ، وفي النهاية أنا لا أعرفك. فهذه الأرض يجتمع فيها ملايين البشر في مكان واحد كمحطة قطار ، ثم يفترقون دون أن يعرف أحدهم الآخر.
– نعم نفترق ، ولكن مع امرأة معروفة عالمياً مثلك ، الصدفة حتّى لو لدقيقة واحدة هي الحدث المهم ، وها نحن كأننا نعرف بعضنا منذ زمن نضوج التفاح في خيالك ، نستعيد تلك الإيروتيكيا الجميلة في صور وأفلام واحدة نعشقها كلانا. تعرفي لذة أن تشاهدي جسد كاترين على سرير أجفان صبيان فقراء في قاعة سينمائية نصف مضاءة ، وقتها تمشي في عروقنا شهوة الجمر ، وكلّ واحد منا يضع باريس أمام عينيه كأمنية حياة.
– أنت نلت هذه الأمنية وعشت في باريس.
نعم ، ولكن الكثير مثلي كانوا يتمنونها ، ولكن الحرب سحبتهم إلى القبور ، وركنوا هناك إلى ذلك الصمت الذي وجده ليوناردو وولي في موتى أقبية مقبرة أور ، موتى نزلوا من الربايا الشمالية وأتوا من خنادق الموت في جبهات الصرة ، وقد تحولت شهوة نظراتهم إلى كاترين الفرنسية إلى مجرد ذكريات تسكن هياكل عظمية.
تلك محنة إنسانية هائلة أن تحلم بقبلة من فم كاترين دينوف ، وتأتي شظايا المدفع الإيراني ، أو رصاصة قناص من مقاتلي البيشمركة لتسرق منك الحياة.
– لا أدري لماذا تختارون حروبكم بمحض إرادتكم؟
– نحن لم نخترها ، بل اختارها لنا القدر ، وملوكنا التعساء ، وتلك الخواطر العجيبة التي ملأت الأساطير والمسلات.
– وما زلتم؟
– وسنبقى.
– ولماذا؟
– لأن أقدارنا ظلت تؤمن في مشيٍ كهذا مع التاريخ؛ بقيت تهوى الشعارات والانحناء إلى الملوك.
– إذن حتّى أولئك الذين سرقتهم الحروب ليسوا جديرين بكاترين؛ لأنها لا تحب الحروب. فيما أنتم من صناعها ، كنتم تذهبون إلى تجانيدها وأنتم تبتسمون ، هذا ما أخبرْتَني أنت به ذات مرة.
– نعم نبتسم ، كي لا يقتلنا قلق الخوف من الشظايا ما دامت هي واحدة من فروض الوطنية التي أرغمنا على ارتداء ثوبها ، فحتى ننتصر على الخوف الذي يسكننا في الخنادق الشقية لا بدّ لنا من أمل وابتسامة تجعل فينا الحياة ممكنة ، ومعها نتذكّر وجه كاترين في إغراءات شاشات السينما.
قالت : تعجبني هكذا أحاسيس لدى الجنود ، إيلوار وأراغون لم يتحدثا عنها بهذا الشكل الممتع؛ لأنهم لم يمزجوها مع خيال أسطورة أو عطر جلجامش ، الذي كان يضعه بين إبطيه كلّما أحس برائحة العرق جراء المشي الطويل.
ضحكتُ وقلتُ : من أين لك هذه المعلومة؟
قالت : أيضاً حكيتَها لي ذات مرة.
حككتُ رأسي وقلتُ : أصبحتُ أنسى.
– أنتم تعيشون شيئاً من طقوس غرام تختلف عن طقوس غرام الوسائد ، تعيشون غرام الوطن ، ثم يتحول عندكم دون أن تعلموا إلى غرام الحياة ، لقد قرأت كثيراً عن مشاعر الجنود والمقاومين أيام الاحتلال النازي لفرنسا ، لم أجد في خواطرهم وذكرياتهم وقصائدهم ما وجدته عندكم ، حتى عندما كتب أراغون مجنون إليزا. وكأنه يكتب عن غرام مكرر ليس فيه شيء من دهشة الآلهة ، وهي تتمنى أن تنام مع أرامل قتلى الحرب.
– معلومة أخرى؟
– سمعتها منك أيضاً…
– كنت في شبابي أحفظ مجنون إليزا عن ظهر قلب كنّا نعتقد أنه كتاب شيوعي ، ولكنه كتاب للحب فقط.
– ربما بهذا الكتاب أبعد أراغون صورة الحرب عن ذكرياته؟
– نحن لا نستطيع أن نفعل ذلك؛ لأن الحروب لم تزل قائمة على امتداد جغرافية أرواحنا وأجسادنا حتّى اللحظة…
– تلك هي محنتكم مع القدر والحياة ، وأود أن أسألك : هل شاهدت مرة فلماً لكاترين وأنت مرتد بدلة الجيش؟
– نعم ومعي سرية من الجند ، وكنّا نجلس في صف واحد على أريكة طويلة من الخشب والكثير منا كان يضع قبعة الجيش على فخذيه كي يخفي انتصاب سيفه ، وبعضهم لا يصبر مع تلك الظلمة المنعشة ووجه كاترين ، فيهتز مثل سعفة نخل مرتعشة ومعه تهتز كلّ المصاطب الخشبية التي كنّا نجلس عليها.
– تلك إيروتيكيا جميلة فعلاً وحتماً ستتذكرها بكامل تفاصيلها لو وقفت كاترين أمامك الآن ، وقد وصلت بعمرها إلى السابعة والستين؟
– حتّى لو كان عمرها مئة عام.
– أوف من تلك الطاقة السحرية التي يمتلكها الشرق ، سأقول لك سراً : أسمع أديث بياف كثيراً وأقرأ سانت أكزيبوري بلهفة ، وكنت أتمنى لو أني مولودة في مراكش أو فاس أو طنجة ، فربما كتبت روايات أكثر سحراً ودهشة من رواياتي التي كتبتها في كلّ حياتي.
نحن الفرنسيون الأقرب إلى الشرق من كلّ الأوروبيين بالرغم من أن بريطانيا استعمرت ثلاثة أرباع الشرق ، وبعكسها هي تعاملت معكم بالمدفع فقط ، ونحن تعاملنا معكم بالمدفع والرواية والجزائر والبير كامو خير أنموذج لذلك.
– ولكن رواية كامو لن تلغي جريمة المدفع؟
– ولكنها أفضل من أن يبقى المدفع وحده من يحدد طبيعة العلاقة بين الجهتين ، أنتم أيضاً أيام جبروتكم لم تأتوا إلينا سوى بالسيوف.
– وأتينا بسحر الأندلس أيضاً؟
– بنيتم جوامع ، وحدائق في أرض ليست أرضكم. وأتى التركي – الشرقي بعدكم وكان أكثر قسوة.
– السلطان ليس عربياً.
– ولكنه كان مسلماً.
قلت : ونابليون كان مسيحياً ، وريتشارد قلب الأسد كان مسيحياً ، ولكنهم غزوا الشرق محتلين.
قالت : نحن نتدخل في متاهة التاريخ ، ولن نخرج منها ، سأغمض عيني وتخيّل أن كاترين دينوف وسط شفتي جالسة على أريكة السينما الخشبية ، وبفخذين نصف عاريين!


Wasmaa_Alaga_05.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى