قصة ايروتيكة باشا مالا - 1999 - ت: علي سالم

عندما إستيقظت هذا الصباح
كدت أقسم بأنة يوم القيامه
" لن أضاجعه حتى لو كان الرجل الأخير على الأرض ، " قالت سونيا لاصدقائها ، مخمورة ومتقدة بالتحدي في عشية العام الجديد ، قبل حلول النهاية .
حدث هذا قبل منتصف الليل تماماً ، ثوان قبل أن يدور العالم بما فية ويدلف إلى الألفية الجديدة. خرجت التكيلا. ثم تلاها العد التنازلي " عشرة! تسعة! ثمانية! " وبعد ان إنطلقت صيحة " سنة جديدة سعيدة! " دلقت سونيا كأسها في جوفها وهي تهمهم وتشخر ، سفعت الخمرة خياشيمها ، وعلى الفور طوال الليل – نهض القرن بأكملة ، على ما يبدو - من مكان ما ، وغاص كل شيء في دوامة هائلة من الضجيج والضوء ، والشيء التالي الذي عرفتة سونيا هو إستيقاظها وحيدة في عام 2000 وصداع كالرعد يعصف برأسها . كان الجميع قد رحلوا .
وكانت المدينة خاوية . وكانت تلك هي النهاية .
كانت سونيا وحدها . لم يكن ثمة أحد هناك .
لكن ، مهلاً . ليس هذا صحيحا تماما.
في الراديو ، في جميع المحطات ، على نحو لاريب فية ، كان ثمة الفنان المعروف سابقا باسم " برنس " على موجات الأي أم أو الأف أم ، يدعو جميع الناجيات من الإناث للانضمام إليه في حديقة بيزلي. قال بصوتة الانثوي الخافت " هلموا الي " "كلكن أيتها السيدات ، لننشيء جنساً بشرياً جديداً ". وبعد ذلك ترنم بواحدة من أغانيه الخاصة .
يا يسوع. ماذا لو كان الرجل الأخير على الأرض حقاً؟ يا له من كابوس. وماذا لو كانت ثمة نساء أخريات هناك ، منتشرات في كل أنحاء القارة ، وربما حتى في العالم ، يجدن في سماعهن هذه الرسالة نوعا من الخلاص - حسنا ، كان لا بد من أيقافهن عند حدهن . وهكذا كانت سونيا تقود سيارتها الأكورد المستأجرة عبر الحدود إلى مينيابوليس لاعتراض تلك النساء ، والتحدث اليهن بأن يركن الى شيء من التعقل ، قبل أن تزل اقدامهن ، عاريات ، ومتخدرات ، ويسقطن داخل مخدع مضاء بالشموع - مكان تخيلتة سونيا كله شيفون وحرير وساتان، وسرير على شكل قلب وذلك الكائن الحزين الممدد عليه ينهض وفي منامتة الحريرية إنتصاب وبين أسنانه وردة .. يايسوع .
ياإلهي ، لم تستطع ديبي انتظارة لكي يمارس الحب الجميل معها ويزرع في رحمها بذوره . يا إلهي يا إلهي يا إلهي ، فكرت ، واسرعت بسيارتها عبر رقعة الثلج الكبيرة لولاية داكوتا الشمالية ، تضرب بقبضتيها عجلة القيادة ، كل إظفر من أظافرها البالغة من الطول بوصة مدهون بعبارة " قبلة الشيطان حمراء " لتناسب حمرة التجميل في خديها و النار المستعرة في عروقها (وبالتأكيد ، قلبها). وخزاتها تحيط بها مثل قوس كامل من الهشاشة ، " المدينة الإيروسيه " إنسابت كالعويل من السماعات البلاستيكيه للكورفيت المسروقة ، وفي حضنها إستقرت كما تستقر بيضة في عش ، قنبلة يدوية . آه ، ياإلهي
حاولت السيدة مندلباوم أن تتخيل من يكون ، وهي تنحرف غربا بسيارتها الثلجيه ، مغلفة بالثياب بإحكام كعلبة من الرأس الى أخمص القدمين ، صوتة يرن من خلال سماعات الهيدفون داخل الخوذة . صوتة كان نوعاً ما ... رطباً . متقداً بالشهوة ونازفاً . الموسيقى تنسل الى داخلها ، وتتدفق ، موقظة فيها وخزة غريبة لم تشعر بها منذ عقود . لكن ليس هذا وقت الوخزات ! . في أوقات مثل هذة يجب التفكير بعقلانية . إن كان الناس لايؤمنون بالله ، فإنهم يؤمنون على الأقل بأناس آخرين . وبما أن السيدة مندلباوم لاتمتلك رحماً ، فقد كان لديها الكثير من الحب لتمنحه . لن تنفع كثيراً في إعادة ملء الأرض بالناس ، لكنها كانت مستمعه جيدة حد اللعنه ، ومنبع لعناقات عظيمة بحق ، وهي أشياء كانت تعلم بأنها ذات أهمية توازي أهمية القدرة على الإنجاب ، إن لم تكن أكثر منها أهمية . أي عالم هذا يستحق أن يأتي المرء اليه بطفل دون حب ؟ كان تداري بركاناً كبيراً من هذة الأشياء التي كانت تجيش في صدرها ، مستعدة لأن تفيض بالرعاية والحنان على شكل نافورات فوارة صافية من الأمل المنصهر .
فوق الجسور وعبر الولايات الفارغة قادت عصمة سيارة الأودي العائدة لأمها ، وإنخفض ميزان الحرارة وهي تشق طريقها شرقاً . كانت تعلم بما كان يريد الرجل الموجود على الراديو. والآن ، لماذا لا؟ لم يكن ذلك لأن كارلو كان هو فارس الأحلام ، بتشبثة المحموم ورائحة السلامي في عنقة . أو لأنها منذ أن سمحت للأمر بأن يتكرر مرة أخرى في تشرين الأول / أكتوبر ، أنة كان في كل مناسبة يجعل مابين ساقيه يرتطم بها لمدة أربعون ثانية .. ثم يتراجع لاهثاً ، مثل نادل يخطف بعيداً صحن الحساء قبل أن تكون قد تذوقتة . ناهيك عن أنه قبل ثلاثة أسابيع ربما قال : "اللعنة ، أعتقد أن الكوندوم قد إنفتق " .. ذلك النادل نفسه يرش حسائة في حجرها. لا ، لا شيء من ذلك يهم . لم يعد ثمة شيء إسمة كارلو. لم يعد هناك أحد البتة . لم يعد ثمة من شيء ؛ ولاشيء يهم على الاطلاق. انها فقط عصمه والوشاح الرمادي العريض للطريق السريع ، المهجور الا من بضع هياكل متروكة لمقطورات جرارات في المواقف المبثوثة على الطريق بين كل مقاطعة وأخرى - أوه ، وذلك الصوت المنبعث من الراديو ، يقدم التوجيهات. هنا كان ثمة حاجز كمركي ، دون موظفين ، شقت عصمه طريقها من خلالة كالعاصفة ، وتهشم المتراس فوق غطاء محرك الأودي. هللت وانحرفت عبر الطريق السريع وعادت إلية . كان العالم ملكها : في السابعة عشرة من العمر وحرة. أطلقت زمور السيارة. وفتحت جهاز التسجيل. ضغطت على دواسة البنزين . وصاحت بأعلى صوتها "اللعنة على كل شيء!" ، وهي تطير بسرعة تنوس مابين الثمانين والتسعين . ولكن ربما الآن مع وجود الثلوج والجليد على الطريق ينبغي لها أن تتريث ، وتريثت عصمة وتنفست ، ثم نظرت بتردد في مرآة الرؤية الخلفية ، متوجسة ويحدوها شبة أمل في رؤية سيارة أخرى ، منعكسة هناك في المرآة ، وتبدو اقرب مما هي علية ، تتبعها.
" أريد فقط أن أعلمكن أيتها النسوة جميعاً ، كلكن ، وكل واحدة متميزة منكن ، بأني اعرف كم تشعرن بالوحدة . ولكن قبل أن تبدأن بالشعور بأنة لم يعد ثمة وجود لاحد ، إعلمن بأني أستطيع الإحساس بكن أينما كنتن . وأنا أعلم بانكن تستطعن الإحساس بي أيضاً . ولهذا السبب أقول اليكن من الآن ، لكل من تبقى من النساء على كوكب الأرض ، بأننا معاً سنصنع شيئاً متميزاً مرة أخرى . أريد من كل واحدة منكن أن تنظر الليلة الى النجوم ، ولتعلم بأننا جميعاً ننظر الى نفس السماء ، واريد من كل واحدة منكن أن تختار نجمة واحدة فقط وأن تتخيل بأني أنظر الى نفس تلك النجمة . اريد لتلك النجمة أن تكون دليلاً لك ، أينما كنت . اريدها أن تكون النجمة التي تجمعنا سوية ، النجمة التي تاتي بك الي . وأريدك أن تتبعي تلك النجمة ، طالما كنت معها أينما تأخذك ، حتى تأتي بك الي ، لأني في إنتظارك . أنا هنا في إنتظاركن ، يانساء كوكب الأرض . يجب أن نتحد معاً . لأن الأوان لم يفت بعد . لم ننتهي بعد . هلمي الي . بإمكاننا أن ننجح . إذا آمنتي بي ، يمكننا معاً ان نؤمن بالحب ، وأنا آمن بك . "
تساءلت سونيا " هو؟ ومن هو ؟ وماذا يظن أن يكون؟ " وسحبت بنطالها الجينز الى الأعلى ودارت حول بركة البول الملونة بلون الجعة التي تركتها وسط الطريق السريع ، وهي ترتجف في الهواء الجليدي . هو ، ياللقرف .
عادت الى السيارة ، وإستقر الخمار على شكل نبض ثقيل فوق صدغيها وطعم طحلبي في فمها ، وتخيلتة سونيا يتبختر بالمناديل والأنسجة الموشاة المفصلة من أريكة جدته الفخمه . كانت سونيا قد نعتته الليلة الفائتة بإسم "الفنان المعروف سابقا بإسم من يعير له بالاً بحق الجحيم" وكانت قد وبختة بصوت عال " ليس فقط إن موسيقاه فاشله ، او انه شخص سخيف تماماً . بل ان نفاقه يثيرني اكثر من أي شيء آخر . إنه كاره شديد للنساء ، والمثليين ، ومع ذلك تراه يرمي باربطة السيقان والكعوب العاليه ويثب كما يفعل الشواذ . إنه لا يحب النساء ، انه مرتبك . وأغنية " ضبط الفرج ؟ " إنها اغنيه خادشة للحياء.
الآن هذة الكارثة - هذه الهرمجدون ، أو أيا كان إسمها – وهاهي الآن وراء عجلة قيادة الأكورد ، ومستمرة في طريقها نحو الجنوب داخل الولايات المتحدة . كان الشتاء في كل مكان : ثلاثون درجة تحت الصفر والأشجار الموجودة على جانبي الطريق السريع مكلله بالثلوج ، وبدلا من السماء كان ثمة نوع من العدم في الاعالي ، رمادياً ومعلقاً في الفراغ ، بلا معنى .
كانت سونيا تقول دائما بأن الشيء الذي كان تتوق الية أكثر من غيرة هو أن تكون وحيدة ، وحيدة حد الإشفاق ، تمارس الفن في كوخ سري يختبيء في أعماق غابة مظلمة . و تعيش على التوت البري وعلى شي مخلوقات الغابات اللذيذة على السفود ؛ وتقوم بتقطيع الكثير من الأخشاب ويكون لديها وفرة من الأفكار الوجودية العميقة التي تتسامى في شكل لوحات زيتية وتماثيل. والآن جاءت الفرصة ، وقدمت نفسها لها مثل وجبة غداء مجانية من زمن مابعد القيامة .
لكنها لا يمكن أن تعيش في سلام في الوقت الذي يجري فيه إعادة إستيطان للكوكب من قبل جنس من المجانين المخمليين الذين يستعيضون عن اسمائهم بالرموز ، كل أولئك الاطفال الذين يلعبون ناحبين بقيثاراتهم اللامعة ، ويؤدون حركات لعق الفرج في الهواء ، ويتغوطون في حفاظات مطرزة .
ولهذا ستقوم سونيا بإيقاف ذلك - وعندئذ فقط ، عندما تعرف بانها قد أدت واجبها تجاة العالم ، ستتقهقر الى الوراء لتعيش حياة مفعمة بنعيم محكم ، بعيدا عن كل شخص وكل شيء ، وتعيش بقية أيامها في عزلة كاملة ، وصامتة ، ولايكدرها احد
.
أوه ، ثمة أغنية "غير تقليدية " هنا ، فكرت السيدة مندلباوم وهي تتلفع ببذلتها الثلجية . ربما كانت قد سمعتها من قبل حتى ، ورفعت الصوت قليلاً – تقود سيارتها الزلاجة على الطريق السريع الآن ، تندفع الزلاجة الى الأمام، محاذرة على الدوام الجليد الاسود .
ماذا كانوا يقولون ، إذن ؟ شيئا ما عن المستقبل " شيء ما في المستقبل سيكون ..." سيكون ماذا؟ وهل هناك مستقبل؟
إرتجفت السيدة مندلباوم وتطلعت عبر قناع الخوذة الى العالم ، متمنية وجود أحد ما يخبرها بما تريد. كانت قريبة جدا من مينابوليس - قريبة من الجميع ، قريبة من المستقبل! ولكن عندما نظرت الى السماء لم تبدو السماء سماء مستقبل. وبدت لها بدلا من ذلك ساكنة وبلا حياة ، جثة كبيرة شاحبة متدلية فوق العالم. ياللكآبة ؛ وكان ذلك كافيا لجعلها تتوقف للإستراحة . كما كان عليها أن تتبول أيضاً .
مرت عصمه بتاكو بيل ، مطعم كارلو المفضل. كارلو ، كارلو المحتال : كل سندويتشات تاكو الدجاج الخفيفة وسندويشات البيكو دي جالو وذلك اللسان الشبيه بحلزون أخرق . ولكن ، آه ، كم هي لذيذة - وعلى كل حال ، فقد صنع لها حلوى البنيانا في عيد ميلادها (رغم انة حشاها بالواقيات الذكرية ، وعندما تعثرا كان بإمكانها أن تجز صوفة كخروف ، كانت ابتسامتة خجولة جدا). هل حدث ذلك ليلة أمس فقط عندما قام بفك ازرار بنطالها – لأي سبب؟ -- من قبل كانت عصمه ، مثل سجين يفتح باب زنزانتة ويدعو السجان اللطيف السيء الحظ الى الدخول ، تفتح أزرار بنطالها بنفسها وتقول له : هيا أدخل !
كانت قد أرادت بشدة أن ينجح الأمر مع كارلو ، وعندما لم يحدث ذلك كان بإمكانها أن تثق فقط بأن الوضع سيتحسن، في المستقبل . كان بإمكانها أن تنتظر؛ كانت تحبه . لكن هذا هو المستقبل الذي إنتظرتة ، فكرت عصمه وهي تحدق عبر زجاجة السيارة الأمامية. كان المستقبل لا شيء على الاطلاق .
إنطلق يغني من جديد: "حتى نهاية الزمن ، سأكون هناك من أجلك ." وتذكرت بغموض صورة الرجل من غلاف للموسيقى ربما كان يخص أحد أصدقاء أمها – لم تكن عصمة متأكدة إن كان توم أو روجر أو لويس- أنريك . ورغم ماقد توحي بة المظاهر فلم يكن على مايبدو مثلياً . كان فية شيء من فتنة ، مغلفة بمسحة إرجوانية خفيفة على غير توقعات عصمة ( كان كارلو يرتدي ثياباً مموهة بشكل رئيسي وبنطال جينز أسوداً ) .
قد يكون رجلاً مثله طيباً – رقيقاً وذو خبرة. ستستسلم لة ولحبة ، وفيما بعد سيعانقها ، ويمسدها ويهمس لها . وإذا صار لديهما طفلاً ، فكيف سيكون شكلة ؟ حاولت تصور ذلك ، ولكن كل ما تبادر إلى ذهنها كان كارلواً صغيراً يستقر بين ذراعيها ، مقمطاً وهادلاً كالحمامة ، ومحدقاً في وجهها بعينين واسعتين، مفعمعتين بالدهشة .
أزاحت عصمه قدمها من دواسة التعجيل ، وأبعدت يديها من عجلة القيادة ، وأغلقت عينيها. ببطء خفت سرعة السيارة، وبدأت تنحرف إلى اليمين ، نحو منكب الطريق، وفكرت ، دون أن تنتبة للطريق ، كيف أنها قد بلغت من العمر حداً يكفي لجعلها تفعل كل شيء يفعلة البالغون تقريباً: كان بإمكانها القيادة والى حد ما التصويت تقريباً ، على الرغم من أنة الآن – ياللحظ التعس ! – لايوجد أحد تصوت لة. لم يكن ثمة غيرة . وليس هو نفسة ، بل مجرد صوتة ووعودة .
فتحت عصمة عيونها لدى سماعها صرير الحصى والجليد وأمسكت يداها بعجلة القيادة. وتراجعت بالسيارة الى الوراء على الطريق مرة أخرى ، وصوت العرق يئز في راحتيها. والآن ، سحبت نفساً عميقاً، وأمنت السيارة بإحكام على الطريق وإستعادت قدمها توازنها على دواسة البنزين . وظهرت في مرآة الرؤية الخلفية للسيارة نقطة سوداء صغيرة من الزاوية التي إختفى فيها شريط الطريق الرمادي داخل الثلوج التي لا نهاية لها – لم تكن سيارة ، بل شيء أصغرمنها . دراجة نارية ، ربما .
حدقت عصمه ، غير متأكدة ما إذا كانت تزيد من سرعتها أم تدوس على الفرامل. وتذكرت إختفاء أمها في سيرز، عندما كانت هي في الثامنة من العمر خلال موسم التسوق في عيد الميلاد . وفي ذلك الجزء من الثانية من تركها وحيدة كان العالم قد تمدد وإبتعد مترنحاً الى الخارج بعيداً عنها ، ليصبح لانهائياً و مجهولاً . تكرر هذا الأمر هنا الآن مرة أخرى ، ولكنها لم تكن تخش تهديد الفضاء اللامتناهي فقط ، بل وجود شخص غريب في هذا الفضاء أيضاً ، وهي وحدها ، وبلاحماية .
توقفت عصمة في محطة خدمة شاهدتها أمامها على الطريق . وأطفئت المحرك الذي توقف معة بث الراديو عندما وصلت الأغنية الى سطر : "حتى نهاية الزمان، حتى نهاية الزمان - " – وتسلل البرد على الفور الى داخل السيارة. إرتجفت عصمه ، وطوقت كتفيها بذراعيها ، متمنيةً لو أنها كانت قد إرتدت ثياباً أكثر من هذة الكنزة التي ترتديها الآن . وجاء الصوت الوحيد من الطريق : أياً كان صاحب الصوت فإن أزيزة كان يقترب . وأصبح الازيز طنيناً هدأ من روع عصمه وجعلها تفكر بنفسها ، وهناك وجدت نبضاً لشيء مختلف كان على وشك الوقوع - شيء في داخلها ، يستيقظ ، ويتغيير : إنة نهاية لشيء ما وبداية مجيدة ومرعبة لشيء آخر . ثم ، فتحت الباب ، وخرجت من السيارة وتقيأت على الثلج .
تساءلت ديبي ، وهي تعيد وضع المسكرة في المرآة الخلفية ، وتوازن عجلة القيادة بركبتيها ، كم مرة كانت قد حلمت بهذا الأمر ؟ وهل سيقبلان بعضهما بلاتوقف ؟ هل سيحيط وجهها بكفية ، ويظل ممسكاً بة على هذا النحو ولايفعل شيئاً سوى التحديق في عينيها – هل سيغني؟ ولم العجلة وهما يملكان كل مافي العالم من وقت ، اليس كذلك ؟ وبدأت ديبي تصرخ في وجة المستقبل اللامحدود واللانهائي ... سيكون ثمة وقت لكل شيء ؛ وتدفقت من أعماق روحها صرخات بدائية من السعادة والإشياء الممكنة التحقيق وكل شيء ، كل شيء ، وجهها يخزها عبر قناع المكياج والمسكرة وأحمر الشفاه والكحل وأحمر الخدود . وفكرت وهي تربت على الرمانة اليدوية الموجودة في حجرها ، الأحلام تتحقق في الواقع ولا يمكن لأحد أن يأمرها بالصمت أو يحاول منعها - ولكن كفاك أحلاماً، ثمة إشارة من الراديو! أدارت ديبي مفتاح الصوت نحو الأعلى ، وإنطلق نحيب الأغنية عندما بدأ ستار الليل يغطي السماء : " لاأحد منهن لها ماتملكين ، كوني حبيبة المستقبل ، ياصغيرتي ".
" أيها السيدات ، أيها السيدات. كل واحدة منكن – حافظن على أنفسكن أنا هنا ، في الإنتظار . كل واحدة منكن متميزة . هذا هو المستقبل. نحن المستقبل. كلنا، معاً . سنكون معاً . إن كنتن تسمعن هذه الكلمات الآن فأنا أعني كل كلمة منها . أريد أن تعرفن أيتها النساء ، بأن كل إمرأة منكن، إمرأة متميزة . أريد منكن أن تفكرن بي ، أن تفكرن بنا معاً ، أن تفكرن كيف سيكون المستقبل : سيكون كلة شمبانيا وضوء شموع . سأعد حمام فقاعات ، لو أصبحت بين ذراعي الليلة -"
أغلقت سونيا الراديو. الكوكب لم يكن في حاجة لمني هذا السفية المخنث!
حدثت نفسها قائلة ، سينتهي الأمر قريباً . لن يجد أحداً يقف على باب مخبأة ، سيبقى كما هو ، وسيستمر العالم بدونة . وحيدة في كوخها في الغابة يمكن لسونيا أن تعيش وترسم ، حيث لايمكن لأي شيء أن يكدر سعادتها . لكنها بدأت تتسائل عندما تخيلت هذة الحياة ، ورأت نفسها تسير على غير هدى بين الأشجار. هل ستكون هناك أي قيمة لعملها إن لم يكن هناك أحد يراة ، أو على الأقل تحدثة عنة ؟ وماذا سترسم في مثل هذا المكان؟ أبوام؟ من سيعرف بها ، وكيف يمكن لأي شيء أن يثير إهتمامها ، وهي تعيش وحدها في كوخ خشبي ؟
وجدت سونيا ، ورأسها ينبض ، نفسها تُهدهد بالهدير المتواصل لصوت محرك الأكورد ، وبحركة الطريق المرتدة الى الوراء تحت السيارة. لكن هذا الشيء أصبح بمرور الوقت أكثر شؤماً. إذ لم تشعر وهي ترفع قدمها عن دواسة البنزين بأنها كانت تقود السيارة على الإطلاق ؛ وبدا الطريق السريع أشبة بحزام ناقل ، كان يسحبها عبر عالم من الجليد - نحو مينيابوليس ، نحو بارك بيزلي ، الخاضعتان لسيطرتة .
ياللروعة، فكرت السيدة مندلباوم ، أخيراً ، محطة خدمة – في الوقت المناسب تماماً ! لكن ، مهلاً : هل أرى شخصاً ما يجلس في موقف السيارات هناك، وراء عجلة القيادة في سيارة كوب فضية اللون؟ "
غنت ديبي الى الراديو ، وهي تدخل وتخرج إبهامها من الحلقة المعدنية للقنبلة اليدوية " تخيلي أن بإمكانك تخليص الارض ، من أي شخص تختارية . من ستحتاجين الية أكثر من غيرة ؟ ومن بوسعك أن تخسرية ؟"
ثمة ناس . امرأتان. خارج مينيابوليس بالضبط ، تتكئان على غطاء محرك سيارة أودي فضية اللون في موقف للسيارات عائد لمتجر حفلات ، كانتا : واحدة بدينة وأخرى نحيلة. لم تعر سونيا الأمر بالاً في باديء الأمر. لكن دماغها إنتبة بعد ذلك: ناس !
وضربت الأكورد رقعة من الثلج الأسود ، وأخذت تتأرجح بينما راحت سونيا تدير عجلة القيادة الى هذة الجهة أو تلك ، وأخذت الآن تدور كالمغزل عبر الطريق السريع ، ثم دارت دورة كاملة وأصبحت بمواجهة الشمال ، في اتجاه كندا ، والآن بإتجاة المكسيك، ثم المحيط الهادئ ، بعد ذلك المحيط الأطلسي -- وأخيرا ، بعد أن خففت من سرعتها ، إنزلقت السيارة عائدة الى الطريق السريع وإصطدمت بمنحدر ثلجي ، وإستقرت هناك ، بلاحراك . كانت سونيا على مايُرام - بعد أن أجرت فحصاً سريعاً – وخرجت الى العالم وتوجهت مترنحة نحو الإمرأتين ، تاركة المحرك يدور والسيارة نصف مطمورة في الثلج .
إستدارتا نحوها، بوجهين مفتوحين . قالت البدينة ، الأكبر سناً " ياإلهي" ، وإنعكست نظرة القلق التي غطت وجهها على وجه الآخرى ، التي كانت في سن المراهقة وترتدي بلوزة ذات غطاء للرأس. كانتا تأكلان قضبان شكولاتة سنيكرز وتحتسيان شراب الغاتوراد . من أين يجب أن تبدأ سونيا؟ بمبدأئها المعياري المضاد للتمشدق؟ لكن سيتعين عليها أن تنتظر : كانت الأم الكبيرة تتقدم نحوها ، مفرودة الذراعين ، شادة سونيا الى جسدها الشبية بوسادة كبيرة. ورأت سونيا ثمة شيء جيد في الواقع أن تكون على تماس مع نهديها ، وأن تكون بينهما وفي داخلهما ؛ ولم تقل شيئاً ، لم يكن ثمة مايقال . ثم أُُطلق سراحها .
مسدت المرأة البدينة ذراع سونيا وقالت " انا سعيدة للغاية إنك بخير . لقد بدا ذلك خطيراً جداً . إسمي السيدة مندلباوم ، وهذة عصمة لقد إلتقينا للتو"
مدت الفتاة يدها بقالب من شوكولاتة سنيكرز وقالت متسائلة " هل تريدين سنيكرز؟ "
هل سبق لها أن تذوقت شيئاً بهذة الحلاوة وهذا الإيهام وهذة الجودة ؟ وهاهو شراب الغاتوراد ، ذلك المشروب الفسفوري المجبول بسحر الصناعة. إبتلعت سونيا نصف الزجاجة دفعة واحدة . من هم هؤلاء الناس؟ ملائكة صداع الكحول ؟ ونظرت بدهشة الى عصمه ، التي كانت تمسك بعلبة دواء كرتونية صغيرة كانت من الواضح إنها قد اختلستها مع قطع الحلوى – كانت علبة تايلينول ، ربما ، أو شيء أقوى .
كان متجر محطة البنزين قد تعرض للنهب كما يبدو، وكان الباب مهشماً كما لو أن أحدهم ظل يطرقة بقوة حتى تخلخل . بجانب المضخات توقفت عربة جليد على مصدها ملصقاً كُتب علية " عش لتتزلج ، تزلج لتعيش "
قالت السيدة مندلباوم " تلك هي عربتي . سنتشارك في النقل"
" هل نحن آخر من تبقى ؟ "
" لست متأكدة، يا عزيزتي. أتوقع من أخريات أن يكن في طريقهن للقاء رجل الراديو هذا . ألن يكون ذلك رائعاً ، كل تلك النساء ؟ "
قالت سونيا وهي تجهز على ماتبقى من شراب الغاتوراد " نعم ، ربما . "
" ماذا قلت ، ياعزيزتي ؟ "
نظرت سونيا في عيني المرأة ، المتسعتان بالأمل ؛ ورسمت عصمه الى جانبها شبة دائرة في التراب ، جيئة وذهابا ، بإصبع قدمها، وهي تختلس النظر الى سونيا ثم تنظر الى الأرض ، حاضنة علبة الدواء المسروقة في يديها كما لو كانت الترياق الذي سيشفي العالم من آلامه.
"انها مجرد – "
وتوقفت سونيا عن الكلام . بصوت هادر جاءت سيارة رياضية حمراء بلون الكرز كانت تسير باقصى سرعة على الطريق السريع ، وتجاوزتهن بسرعة خاطفة مخلفة وراءها سحابة كبيرة من أدخنة العادم . وتوقفت على بعد نحو 50 ياردة محدثة صريراً عالياً ، ثم أنًت عائدة الى الوراء بسرعة شديدة . وبينا وقفت سونيا والسيدة مندلباوم وعصمه مفغورات الأفواه ، رسمت أنفاسهن غيوماً في الهواء الجليدي، ونظرت اليهن سائقة السيارة من خلال النافذة المفتوحة.
صاحت السيدة مندلباوم " المزيد من الصديقات ! مرحباً ، إحضري قالب سنيكرز! "
وخرجت قامة إمرأة في ثوب كوكتيلي بلون الكريما من السيارة – كانت طويلة جداً ، وأنيقة جداً – ولفت نفسها بدثار من الفراء سحبتة من المقعد الخلفي ، وسارت نحوهن متمايلة بحرص في كعبها العالي. لكن قبل الشروع بطقوس توزيع شوكولاتة سنيكرز ، أخرجت القادمة الجديدة ، الفائحة بدفقات من العطور ، علبة معدنية بحجم علبة ديودورانت وهددتهن بها ، وضيقت عينيها خلف رموش مثقلة بالمسكرا .
قالت السيدة مندلباوم بادئة الحديث " هل هذة , "
قالت المرأة ملوحة بالإسطوانة في وجوههن " قنبلة يدوية نعم ، وسوف أستخدمها ، أيتها الحمقاء " "هل تعتقدين أنك في طريقك لرؤيته؟ "
قالت سونيا هازئة " أف - ولكن هاهنا كانت عصمه ، التي أمسكت بذراعها بيد واحدة ، وبالأخرى أخفت العلبة الصغيرة في الجيب الأمامي لبلوزتها ". إجثين على ركبكن أيتها العاهرات! وإرفعن أيديكن فوق رؤوسكن ! "
ارتعشت السيدة مندلباوم " هل ستفجريننا ؟ "
" إخرسي . ديبي هي المسؤولة الآن. هل تفهمين؟ ديبي. على ركبتيك! "
قالت سونيا وهوتجثو على ركبتيها ، وتضغط على كتف عصمة ، قبل أن تشبك اصابعها فوق فروة راسها " بالتأكيد ، ديبي " . وعندما وخزها الثلج عبر بنطالها الجينز ، أدركت بأن صداعها قد ولى تماماً.
بدا على ديبي وهي تنظر الى النساء الثلاثة جاثيات أمامها ، إنها لم تكن متأكدة من الخطوة التالية . وقبل أن تتمكن من فهم ماحدث ، صدر من الأعلى صوت أجش ، هادر – لم يكن رعداً ؛ لأنة كان أطول نفساً وأكثر استدامة. ونظر الجميع الى الأعلى . كانت السماء قد غابت في مسحة رمادية أكثر عمقاً إذ بدأت أستار الليل بالهبوط ، ومن تحت عباءة السحاب ، خرج أنف طائرة 767 أو شيء من هذا القبيل ، على علو ميل واحد وبضعة مئات من الأقدام ، ربما ، فوق المزارع والحقول الثلجية ، وكانت أطراف الأجنحة تومض .
وقفت السيدة مندلباوم على قدميها ، إذ لم تُفجًر ، وقالت " لابد أننا قريبون من المطار !
وحدقت ديبي ساهمة في الطائرة . ونهضت عصمه وسونيا كذلك .
قالت ديبي " دعونا نذهب" ، وهي تتحرك بإتجاه الكورفيت - وتوقفت بعد ذلك : كانت السيارة من ذات المقعدين. ثم تنهدت واشارت الى الأودي ، ثم سونيا. واضافت " أعتقد بأننا سنأخذ تلك السيارة . تولي القيادة أنت. "
إمتثلت سونيا لأوامر ديبي ، بعد أن جلست السيدة مندلباوم بجانب مقعد السائق، وتكورت عصمة خائفة في المقعد الخلفي:" الى اليسار! الى اليمين! سيري بإستقامة ! إستديري هنا الآن ! " وفي الوقت الذي إنزلقت فية الأودي فوق طريق فرعي كان يسير متوازياً مع نهاية المدرج ، كانت الطائرة فوقهم على إرتفاع بضع عشرات من الأقدام فقط تقوم ، بصوت هادر، بإنزال عجلات الهبوط – إستعداداً للنزول على الأرض .
قالت ديبي " توقفي هنا ، وليخرج الجميع " وهكذا إصطففن واحدة خلف الأخرى عبر الطريق السريع حيث توقفن قرب السياج الفاصل بين الطريق والمطار .
إحتكت عجلات الطائرة الأمامية بمدرج المطار ، وإرتجت الطائرة قليلاً ، ثم إستكنت وبدأت تتدحرج . علا صرير المكابح وهوت ال 767 على المدرج نحو محطة الترمينال ، تباطأت تدريجياً ، ثم توقفت .
قالت السيدة مندلباوم " هبوط ممتاز " .
عندما توقفت المحركات، فتحت الأبواب الإنزلاقية العاملة بالضغط . واحدة بعد الأخرى ، ظهرت النساء – واحدة ببرقع ، وأخرى بساري ، وإثنتان أخريان نحيفتان بشلوار قميص لامع ؛ ثم واحدة ترتدي ملابس عمل خفيفة بالوان الباستيل ، وأخرى برداء الكانفاس ذو الأصل البافاري الريفي ، وأخرى بعمامة وقميص داشيكي أفريقي ، وفتاة صغيرة بسترة بركا مقلنسة ، وسيدة كانت تتبختر بتراكسوت علية علم الإتحاد البريطاني " اليونيون جاك " – إنزلقن جميعاً ، واحدة تلو الأخرى ، على المدرج ، حتى إكتمل نصاب دزينتين من النساء وقفن يرتجفن من البرد على أرض المطار .
قالت سونيا " أنظرن ، ثمة نساء "
وافقتها السيدة مندلباوم قائلة " نعم نساء "
فحت ديبي كالأفعى قائلة " هل لكن أن تخرسن جميعاً ، رجاءاً "
ثم ظهرت آخر إمرأة من باب الطائرة المفتوح ، ببدلة طيار رسمية ، وأخذت تلوح بقبعة من نفس طقم البدلة . وإنحنت ، وصفق الحشد .
همست السيدة مندلباوم لاعلى التعيين " إنها الطيارة " .
هبطت هذة المرأة الى الاسفل كالبجعة ، وقامت بشقلبة محتالة لتستقر على قدميها ، الأمر الذي أسر كثيراً قلوب الركاب . هزت ديبي رأسها ؛ وإلتصق تحت الوشاح الفرائي فستانها الكوكتيلي بجسدها كما يلتصق ورق كلينيكس مبلل . ودست أصابع يد واحدة ، تقشر طلاء أظافرها ، بين فتحات السياج ؛ وتدلت اليد الأخرى الى جانبها بالرمانة اليدوية . في هذة الأثناء خطت الطيارة الى الأمام لمخاطبة الحشد .
قالت ديبي " حسناً ، سندخل "
قالت السيدة مندلباوم " أستميحك العذر؟"
ردت ديبي قائلة " تسلقي السياج ، أيتها الجدة " .

وهكذا فعلن : هبطت عصمه بسهولة على الجانب الآخر ، ثم رُفعت السيدة مندلباوم ، بسروالها الثلجي وكل شيء، فوق السياج ، وسقطت بين ذراعي عصمه ؛ وبعد ذلك جاء دور وسونيا ، وأخيرا ديبي ، التي رمت بحذائها ذو الكعب العالي إلى السيدة مندلباوم ، ودست بالقنبلة في حمالة ثدييها ، وتسلقت ، حافية القدمين ، وهي تمتم لنفسها - ثم إعتلت قمة السور ببنطالها اللاصق . لاحظ الركاب ديبي ، متلفعة بفرائها مثل حيوان "يتي " تقطعت به السبل ، وبدأن يلوحن ويهتفن تشجيعاً لها.
هبطت ديبي على الجانب الآخر من السور التابع لأرض المطار ، وإستعادت حذائها معلنة
: "حسنا ، أنتن رهائن لدي . لا تقمن بأي حماقة . "
تسائلت سونيا " حماقة ؟ كيف ؟ "

"حماقة وحسب. إذا هربت إحداكن ، يموت الجميع. "
"فهمتك"
" يانساء العالم ، لازلت أجلس هنا في إنتظار قدومكن ، أريد فقط أن – سيداتي ، أنا في إنتظاركن على أحر من الجمر . لكن حمام الفقاعات سيبرد ، ولاأدري أين أنتن الآن . إذا أردنا أن نصنع الحياة معاً ، علينا أن نبدأ في الحال . الأمر يتوقف علينا. لقد حان الوقت. تعالن إلي. أتوسل اليكن. أشعر بوحدة شديدة ."
"اسمي ديبي. وأنا معجبة من معجبات فنان يعرف سابقا بإسم برنس ، منذ ان كان عمري 12 سنة. لقد شاهدت " المطر الإرجواني " أكثر من مئة مرة . وأملك كل الألبومات على الفونوغراف والسي دي و لدي أشرطة فيديو لحفلات ربما لم تسمع بها إحداكن من قبل. لذا لو كان بينكن أي واحدة تعتقد بأنها أفضل مني في الذهاب الى حديقة بيزلي فعليها أن تقف الآن وتقول شيئاً . " لم يتحرك أحد ، لقد عقّدت القنبلة اليدوية الامور. وجلست جميع النساء صامتات على كراسي الفينيل البرتقالية في صالة المطار . ووقفت ديبي منفرجة الساقين بجانب مكتب المساعدة ، النسل في جواربها الطويلة فتق وردي اللون يتسلق صاعداً من الكاحل حتى باطن الفخذ .
عند قدميها ، على ركبهن مرة ثانية ، جلست النساء الثلاثة ، عصمه ، وسونيا ، والسيدة مندلباوم . قالت وهي تلعب بالقنبلة بين يديها
"نعم ، لم أكن أعتقد ذلك. ما سيحدث هو انني ساصطحب هولاء الثلاثة معي. وإذا سمعت منكن نفسا واحداً يدل على أنكن تحاولن متابعتنا ، فسوف أفجر الجميع. لتتقدم السيدة العجوز أولاً ".
إتسعت عينا السيدة مندلباوم . وربتت سونيا على ذراعها .
: "هل فهمتن ذلك؟ "
وبعد بضعة ترجمات مهموسة ، طافت في الغرفة موجات من الإيماءات وهزات الرؤوس إيذاناً بالموافقة .
" حسناً إذن . يسعدني إننا متفاهمون . دعونا نذهب أيتها السيدات "
لكن عندما كانت ديبي تركل رهائنها لكي يقفن على أقدامهن ، صاح صوت :" تريثي "
التفت ديبي نحو مصدر الصوت وقالت "صوت من هذا ؟ "
تقدمت الطيارة إلى الأمام ، الأجنحة على طية صدر سترتها تميل بزاوية عشوائية – نموذج الطائرة يهبط هبوطاً إضطرارياً. عيناها قلقتان ؛ لهجتها ، ألمانية .
" ثمة آخريات. حماة المدينة ".
" من؟ "
" يُعرفن بإٍسم دايموند وبيرل . "
" راقصاتة القديمات؟"
هزت الطيارة كتفيها واضافت "انهما تقطعان الطريق الى بيزلي بارك. وهما لاتؤمنان بمهمته. ألم تتلقي رسائلهما عبر الفاكس؟ "
قالت سونيا " هل تقومان بإرسال الفاكسات ؟ ".
تطلعت ديبي في وجهها .
دست الطيارة يدها في حقيبيتها اليدوية ، وهي حقيبة جلدية زرقاء تحمل شعار شركة الطيران ، وأخرجت رقة مطوية. تناولتها ديبي وشرعت تقرأ، وهي تنقرعلى ساقها بالقنبلة اليدوية . راقبتها سونيا بقلق وتوتر، خشية أن تؤدي نقرة واحدة نشطة الى تفجير القنبلة . وأخيراً ، أنزلت ديبي الصفحة ولعقت شفتيها وقالت بصوت مزمجر . "حسنا ، سنرى ماسنفعل بشأن هذا الموضوع ،" ثم التفتت إلى سونيا ، والسيدة مندلباوم وعصمة : " لنتحرك أيتها السيدات."
كانت منيابولس تحترق في الليل الخال من النجوم والقمر . أعمدة النور هامدة وبلاضوء ، وأبراج المكاتب والمنازل غارقة في الظلام ، ودوي اطلاق النار يلعلع في الشوارع الثلجية . صرخت ديبي " سوقي السيارة "! " سوقي السيارة"!
وهكذا مرقت سونيا بالسيارة عبر الضواحي المترامية الأطراف ، وووضعت السيدة مندلباوم رأسها بين ركبتيها وأنت " لا، لا ، لا " وحدقت عصمة الى الأمام ووجهها ورقة ذعر بيضاء منشأة ، وكوعي ذراعيها مدفونتان عميقاً داخل جيب كنزتها .
صرخت ديبي " إنهما دي وبي ، هاتان العاهرتان تحاولان منعنا من الوصول الية !"
وبينا كن يواصلن تقدمهن نحو مركز المدينة، إنبعث صوت إنفجار قوي قرب خزان وقود السيارة .
صرخت السيدة مندلباوم " لقد تعرضنا لضربة ، "
قالت سونيا وهي تبطيء السيارة " كلا ، لقد إنفجر لدي أحد الإطارات ."
صرخت ديبي والكحل يسيل على وجهها مثل طلاء حرب " ماذا تفعلين ؟ هل جننت ؟ لاتتوقفي ! "
لكن لم يكن ثمة خيار آخر. ترجلت سونيا من السيارة. كانت العجلة الخلفية اليسرى قد تحولت بالفعل الى مادة لزجة من المطاط الأسود. شيء مثل قنبلة انفجرمن بعيد وأغرق الحي في ومضة من النور ؛ تلتة بضعة طلقات ، ثم ران الصمت. وخرجت أنفاس سونيا من وجهها كالسحب ؛ وإرتجفت وأمسكت بمرفقيها .
جاءت ديبي ووقفت الى جانب سونيا ، لتتطلع الى العجلة المثقوبة. أنزلت السيدة مندلباوم زجاج نافذتها وأخرجت رأسها لتعاين الأضرار . قالت وهي تحرك رأسها بحكمة "العجلة مثقوبة " .
لم تتحرك عصمه منذ أن دخلن مينيابوليس ، وكانت لاتزال تجلس متحجرة في المقعد الخلفي ، وعيناها تتابعان كل شيء ولا شيء في وقت واحد ، ويداها ماتزالان مخفيتان داخل جيب كنزتها المقلنسة .
قالت سونيا لديبي "إذا كنت ترغبين في الاستمرار ، فسيتعين علينا السير على الأقدام ".
إنفتح فم ديبي ، لكن لم يخرج منة أيما صوت – كان فكها معلقاً في مكانة بكسل ، وعلى وجهها تعبير طفل فاجئتة رؤية بالونة الثمين يطير في الهواء . كان الليل صامتاً للحظة ؛ والجميع في حالة إنتظار. وتسربت ببطء الى عيني ديبي تلك النظرة القديمة التي تشي بنوع من الجنون اليقظ الجائع ، وإنطبق فمها محدثاً طقطقة بين أسنانها. وحولت نظراتها من سونيا الى السيدة مندلباوم ومنها الى عصمة - لكنها كانت نظرات عابرة ، لأنها غادرت الآن ، صارخة ، والقنبلة مرفوعة فوق رأسها ، وحذائها العالي يدق على الأسفلت، لتختفي داخل الليل والظلام.
صاحت السيدة مندلباوم من المقعد الخلفي " وداعاً ياديبي "
عادت سونيا الى السيارة وجلست هناك ، محدقة عبر الزجاج الأمامي : جيوب متفرقة من نور لهيب المباني المحترقة كانت تكسر هيمنة الظلام . وبدت الأشياء مرة أخرى أكثر سكوناً للحظة - لكن مرة أخرى لم يدم ذلك طويلا ، لأن كرة من النار ، مثل قبضة برتقالية إندفعت بشكل مستقيم نحو السماء ، وارتفعت من مخزن لوازم البناء المنزلية في نهاية العمارة . كان الهواء مكتظاً بالدخان والرماد ، وهطل الحطام كالمطر وتناثرت أجزائة على طول الشارع.
غطت سونيا وجهها بقميصها وقالت وهي تسعل. "هل لدى أحد منكما أي فكرة عما يجري؟ "
مالت عصمه على المقعد الامامي وشغلت الراديو.
وإنبعث صوت وديع ومنهك " أيتها النساء، عليكن الإصغاء إلي. ليس هذا وقت الكراهية . أنا - أنا هنا. أنا في الإنتظار . لاأريد أن أموت الليل . "
"تلت ذلك وقفة قصيرة، وتأكدت سونيا من أنها سمعت صوت نشيج – هل كان يبكي؟ " ثم قال أخيراً " هذه أغنية كتبتها ، وتدعى " طالما نحن معاً " . أتمنى أن تسمعنها ، وأتمنى أن تعني لكن شيئاً " .
وبدأت الموسيقى و تباطأ كل شيء . وفي الخارج بدا أن الأشياء قد أخذت تستقر؛ وشرعت النيران المندلعة في مخزن اللوازم المنزلية بالتضاءل. وكان الصوت الوحيد الطاغ على رجفة الآلات وقرع الطبول هو صوتة. كانت أغنية حلوة. واستمع لها الجميع . وإنضمت ثلاثتهن الى الجوقة : " طالما نحن معاً / كل شيء على مايرام ( كل شيء على مايرام ) / كل شيء على مايرام ( كل شيء على مايرام .) " وبينما تولت السيدة مندلباوم أمر الهارمونيات الدقيقة ، صدح صوت عصمة ليحرك شجون سونيا أكثر من غيرها : كان الصوت جميلاً لكنة هش ، مفعماً بمعرفة وبراءة فورية .
ثم إنتهت الأغنية. وانتظرن منة أن يبدأ في الكلام ، لكن المذياع لم يبعث بشيء غير الهسيس الخافت للشواش . وجلسن في السيارة في إنتظار أن يندلع في الخارج إنفجار آخر ، أو أن تشتعل جذوة معارك البنادق من جديد ، لكن لم يحدث شيء من هذا أو ذاك . وكان ثمة شيء في هذا الصمت لم يشعرن بأنة كان فترة إستراحة من القتال – لأن أي معركة كانت محتدمة هناك يبدو أنها إنتهت الآن.
لمست عصمه ذراع سونيا. كانت تشير من النافذة الى زقاق متفرع من الشارع الرئيسي. "هل بإمكاني أن - "
سألت السيدة مندلباوم ، وفي عينيها نظرة من التعاطف كانت تشي بحاجتها الملحة هي شخصياً الى التبول " هل يجب أن تتبولي الآن ، ياعزيزتي ؟ " وأخرجت من بدلتها الثلجية لفة ورق تواليت مندعسة ، وعلبة مدعوكة من لبان دنتاين ." هل تريدين علكة ؟ " .
وما أن شرع الجميع بمضغ اللبان قالت السيدة مندلباوم لسونيا " أفتحي صندوق السيارة ، سوف أقوم بتغيير العجلة المثقوبة ." وخرجت النساء الثلاثة الى الشارع ، ووقفن معاً ، ورحن يتفحصن الظلال خشية وجود تهديدات خفية – وقد حبسن أنفاسهن وأرهفن أسماعهن : لا إنفجارات أو إطلاق نار أو أصوات من أي نوع . كانت المدينة ساكنة وباردة. همست السيدة مندلباوم وهي تنفخ في يديها " إذهبي لتتبولي ، " . وعندما أخرجت الرافعة والأطار الإحتياطي وشرعت بالعمل ، شبكت سونيا ذراعها بذراع عصمة ، وسارتا ملتصقتين طلباً للدفء نحو الظلال .
وقبل أن تقرفص، مدت عصمة يدها في جيب كنزتها وأخرجت العلبة الكارتونية التي سرقتها من مخزن محطة الوقود . وعندما رأت سونيا ذلك شعرت بمغص خفيف في بطنها. وخرج صوت عصمه مرتعشاً من داخل الظلال وهي تقول: "هل تعرفين كيف تعمل هذه الأشياء ؟"
كان النهار قد إنبلج للتو ، عندما عبرت الأودي الحدود الكندية، وكانت العجلة الأحتياطية تناضل الى جانب العجلات الثلاثة ذات القلانس المطلية بالكروم . على جانبي الطريق السريع كان ثمة جدران كبيرة من الأشجار العالية، الصنوبر والبتولا ، واللاريكس والحور والأرز ، كلها مثقلة بالثلوج. كانت عصمه قد غرقت في النوم، متكورة في المقعد الخلفي. والسيدة يورغنسن ( التي تحولت في وهجة من الرضا الذاتي الى إسمها القديم قبل الزواج ) كانت خليطاً مبعثراً ببدلتها الثلجية نصف المنزوعة ، ورأسها المسترخ على النافذة ، ولعابها النازل باطراد. كان الراديو مطفأً. وكان الصوت الوحيد المسموع هو أزيز المحرك الخافت، وكانت الغابة مخترقة هنا وهناك بحراب النور التي كانت ترسلها الشمس الطالعة .
الى أين كن ذاهبات ؟ عن ماذا كن يبحثن؟ لم تكن سونيا متأكدة . كانت سعيدة فقط لمجرد السياقة ، في الخارج ، ولمجرد كونها على قيد الحياة. لم يكن هناك أحد آخر على الطريق السريع. كانت واثقة من أنها لن ترى أحدا. كن ثلاثتهن فقط. وربما كان ذلك كافياً. تذكرت سونيا وهي تنظر ثانية الى النقطة الزرقاء في وسط إنبوب إختبار الحمل الذي ألصقتة عصمة في الزجاجة الأمامية للسيارة باللبان كيف أن قلبها قد رف ، منذ ساعات فقط ،خوفاً من رؤيتة. كان ثمة شيء جد فخور وشجاع ومخيف في الطريقة التي ثبتت فيها عصمة انبوب الإختبار هناك ، وبعد ذلك كانت السيدة مندلباوم قد ضمتهما معاً بين ذراعيها في عناق جماعي حار وخانق بعض الشيء – ثم أطلقتهما ، بعد أن ولدت من جديد بأسم يورغنسن .
في مرآة الرؤية الخلفية شاهدت سونيا عصمه نائمة في المقعد الخلفي. كانت الفتاة مضطجعه هناك ، وقد تكورت على نفسها ، ساحبة قلنسوة كنزتها فوق رأسها الذي غادرتة خصلة من الشعر وتهدلت مسترخية على طول أنفها ، وتدلت قريباً من فمها ، وكانت تهتز كلما تنفست : مع كل شهيق كانت تعلق بوجهها ، ثم تبتعد مع الزفير ، مرتعدة للحظة ، ثم تُشفط الى الداخل من جديد . كانت السيارة تتحرك بثبات على الطريق ، وعبر الغابة، كان الثلج يتألق في نور الشمس الطالعة. وهنا على لوحة أجهزة قياس السيارة كان ثمة أمل – تلك النقطة الزرقاء الصغيرة . فكرت سونيا مرة أخرى بالكوخ الخشبي الذي حلمت بة طويلا . قد يكون مندساً في مكان ما هنا، خلف وبين الأشجار ، بعيدا عن الأنظار في موقع سري. سيكون كوخاً صغيراً هادئاً وبسيطاً، وسيشيع في جوانبة الدفء بعد أن يوقدن فية ناراً جميلة تلون فضاءة بنورها الذهبي وتبعث بخصل الدخان المتلوية عبر مدخنتة. سيعثرن على سوبر ماركت أو متجر على الطريق ويحملن السيارة بالخضار. وفي وقت لاحق من ذلك اليوم عندما يكن قد وصلن الى هذا المكان ، على طريق ترابي يؤدي الى فسحة خالية بين الأشجار ، سيدخلن الكوخ ويضطجعن تحت الأغطية الصوفية في إنتظار أن يسخن عشائهن الموضوع على النار. وسيتناولن بالملاعق شف بوياردي رافيولي وحساء تشنكي سوب من العلبة مباشرة، ويمررنها فيما بينهن حتى تتذوق كل منهن ماموجود فيها. سيكون الطعام جيداً وحقيقياً على النحو الذي غالباً ما تكون فية الأشياء السيئة والوهمية جيدة وحقيقية جداً، على النحو الذي يجتمع فية الناس أحياناً ويكون إجتماعهم هو ذلك الشيء بالذات الذي تحتاجه .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
Pasha Malla





صورة مفقودة


Fayza Maghni - Algeria

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى