محمد فايز جاد - كسنجاب يبحث عن خبيئة منسية

عندما كانت تتأكد من نضج قوالب الكعك الإسفنجي اختلس نظرة إلى قائمة تشغيل الموسيقى التي اختارتها بنفسها، والتي تختارها بنفسها كل عام، كما تصر على صنع الكعكة بنفسها كل عام بدلًا من شرائها. قال إنها تدور وتدور وتختار شوبرت.

سيالات من حزم الضوء تضرب وجهه مقتحمة النافذة الخلفية للمطبخ بوقاحة. عدل من جلسته، ثم انتقل إلى المقعد المواجه هربًا من ضوء الشمس المستبدة، أو هربًا من زيارة كل عام. ولما بدل مقعده عاوده الشك الموسمي في حقيقة الزيارة السنوية التي لا تنقطع، خمسة أعوام حتى الآن، كل عام، وفي الموعد نفسه، وبالكيفية نفسها، تأتيه الزيارة الخرقاء المبهمة. لماذا جاء يوم ميلاده في الصيف؟

لماذا يقضي يوم ميلاده في صنع كعكة منزلية بالشيكولاتة دائمًا، شيكولاتة سويسرية فقدت مذاقها ما إن عبرت البحر، كل شيء يفقد مذاقه ما إن يعبر البحر إلى هنا، يتشرب ملوحته وتصيبه نفايات المدن الشاطئية الصاخبة، المتعجلة دائمًا والعصبية أبدًا.

ساوره الشك في أنه منذ خمسة أعوام، في اليوم نفسه، احتفل على ضفة الراين، وشرب نبيذًا فرنسيًا قديمًا لم تصبه نفايات البحر، وضاجع صقلية مهاجرة لم تعرف أن هناك أناسًا على الشاطئ الآخر من البحر، ولم تعرف شوبرت، ولم تعرفه هو نفسه كمهاجر ينهي دراسته، يرى اللوفر مكانًا لائقًا بعرض لوحات زيتية مستقبلية.

لماذا لم يأته هناك، رغم أنه يعيش هناك أصلًا ولا يعيش هنا؟ هو كالصقلية المهاجرة تمامًا، لا يعرف أن هناك أناسًا يعيشون على الشاطئ الآخر من البحر، وربما لا يعرف البحر أصلًا. ثم لماذا شوبرت؟

قال إنه يفضل موتزارت بدلًا من شوبرت الذي يصلح كمؤلف للموسيقى التصويرية. وقال أيضًا إن "موسيقى ليلية قصيرة" أنسب لحفل عيد ميلاد.

شموع حفل عيد الميلاد تتقلص ما إن تكبر أنت، تخرج عن صراحتها وبديهيتها لتلبس ثوبًا رمزيًا، بضعة أعوام تكون فيها صريحة واضحة، أوتادًا مغروسة في تربة الكعكة، ثم ما تلبث أن تصيبها عدوى الرمزية التي أصابت كل شيء، حتى لوحاته.

على الحائط المواجه للمطبخ، وفوق أريكة عبرت البحر هي أيضًا قادمة من إيطاليا، لوحته التي رفض بيعها. السنجاب يقف في المنتصف منحنيًا نحو الأرض، يده اليسرى ما زالت في الحفرة التي لم يكمل حفرها بعد، وقرب كومة التراب الذي صنعته الحفرة ثمار بلوط، وفي الخلفية أشجار كثيرة متشابكة، تصنع ممرًا فيما بينها. والشمس تضرب وجه السنجاب كما كانت تفعل به هو منذ قليل.

بملل تفحص الشمعتين في غلافيهما البلاستيكيين، أربعة وثلاثة، كانتا معكوستين فأضافتا له أعوامًا لم يعشها، سافرتا به إلى عقد جديد وهو في مكانه. قال إن البشر أخطأوا في اختيار هذه الآلية لحساب العمر في حفلات عيد الميلاد، لو أنهم أبقوا على العادة الأولى فغرسوا أوتاد الشمع في جسد الكعكة لربما حار الزائرون في حساب عمر صاحب الحفل، ولربما زادت الشموع، عندما تزيد، عامًا بعد عام، حيرتهم.

استدارت هي نحو رف الزجاجات، وتأكدت أنه لم يفتح زجاجة النبيذ بعد، ولم يشرب. اطمأنت فاستأنفت عملها، تقطع القوالب جيدًا، وبجوارها أزرار الشيكولاتة تذوب ببطء. قال إن عجيزتها تبدو أكبر كل عام، وإنهما ربما لو حاولا الرقص على موسيقى شوبرت، التي لا تصلح للرقص، فلن تستطيع.

لأنها تعرف مزاجه المتعكر في مثل هذا اليوم دائمًا ابتلعت الإهانة رغم أنه لم يبتلع التساؤل. لماذا راح النقاد يخترعون أوصافًا وتحليلات للوحته لم يردها؟ ملأوا المجلات بتخرصات ما أنزل الله بها من سلطان، لو أن تشايكوفسكي رآهم لما غفر لهم هذا التنطع، لربما أخبرهم - كما أخبر الجميع قبل ذلك- إن لكل عمل قصة، ربما لا يعرفها القارئ أو المستمع أو المشاهد. كيف سمحوا لأنفسهم بأن يدخلوا نفسه ويستنطقوها كما يريدون.

يمضغ الفراغ ببطء وهي تأكل الوقت بعملها الروتيني، والأشعة المقتحمة تلتهم روحه دون هوادة. مد يده نحو زجاجة النبيذ فمنعته، قالت إن الزجاجة لن تفتح سوى عند بدء الاحتفال. لام نفسه لأنه لم يدع أصدقاء للحفل، لربما كانوا سيعاونونه على شرب كأس من النبيذ، لو أن الصقلية كانت موجودة لما اهتمت بفتح زجاجة النبيذ المعتق الآتية عبر البحر.

الشيكولاتة تتمدد فوق سطح الكعكة بقعة زيت سوداء كالتي تستعمر سطح البحر العظيم، بقعة زيت كابية تحمل الهلاك وتعلن نفوق الحضارة. قال لها ذلك العام الماضي أيضَا فضحكت.

الشمس تستعمر حديقة البيت، هي الإمبراطورية التي لا تغيب. لماذا تهرب إليها وأنت تهرب منها؟ تخرج إلى صحرائك المختارة بعناية، منها ما هو عابر للبحر أيضًا ملوث بنفاياته. ربما يأتي الآن، لا ليس وهمًا.

في ركن قصي من الحديقة كعادته كل عام، لا يأبه بالشمس أو بالحديقة التي لا تحوي أشجاره المفضلة. السنجاب لا يكبر، لا يشيخ، لم يصبه ما أصابه خلال أعوام قطع فيها طريق البحر مرتين، وتلوث - ككل شيء- عائدًا.

يحفر بهمة دون أن ينطق، في كل الأعوام الخمسة لم ينطق بحرف. "أنت وهم. السناجب لا تعيش في بلادنا، السناجب هناك خلف البحر". السنجاب الذي لا يشيخ، يحفر ما زال غير عابئ بالشمس، يحفر بقائمتيه الأماميتين ولا فواكه يخبئها، هنا يخبئ الفواكه لا البلوط، هنا لا ينبت البلوط.

في كل الأعوام التي زاره فيها كان يخبئ فاكهة، الآن يحفر فقط كأنه يبحث عن شيء. كان يحفر بشدة عندما خرجت ورأته غير عابئ بالشمس التي توسطت السماء وراحت تنحرف في أفقها نحو اتجاهها الآخر المكرر دائمًا وأبدًا. أمام دهشتها قال إن السنجاب طلب منه أن يحفر، هو خبأ أشياءً هنا ولم يعد لها. الأشياء التي تخبأ وتنسى لا تموت، تنمو، وتطول، وتتشابك. هكذا عمر السنجاب الغابات.

هو خبأ أشياءً أيضًا، ربما لا يعلم ما هي، ولكن منها ما نما وتشابك، هو يحس بها تنمو وتطول وتتشابك وتتعقد، غابة كثيفة لكن تبلغها الشمس، تخترقها، تستعمرها وتعربد في أحراشها ودروبها.

يتحرك بهمة ولا تستطيع أن تلاحقه. أحضر مجرفة وراح يضرب الأرض، ينزع النجيل الأخضر الجاف، ويبقر بطن صحرائه المختارة. قالت إن ملابسه اتسخت، ستجلب له ملابس أخرى. لم يعبأ بما تقول أو ستقول. ولما توقف ليستريح اطمأنت، يمسح عرقًا غزيرًا نزفه من كل جسده تحت وطأة شمس حارقة معربدة. هي هرولت لتجلب ملابس نظيفة، قالت إنه بحاجة لحمام بارد.

عندما عادت لم يكن بالحديقة، كان يهرول خارجًا من البيت بملابس متسخة، بكمين ورجلي بنطلون مشمرين. واكتشفت أنه سرق الشمع.



محمد فايز جاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى