قصة ايروتيكة موريس فارحي - مع صوفي في جنة حمام النسوان.. ت: خالد الجبيلي

كانت الهدية التي أهدتنا إياها صوفي، أنا وسليم، الجنة التي اصطحبتنا إليها مرات كثيرة. ولم أكد أنا، موسى، قد بلغت السابعة من عمري بعد، وكان سليم يكبرني بسنة واحدة أو أكثر قليلاً. كانت الجنة هي حمّام النسوان، أو الحمّام التركي، في أنقرة.

لا تزال تتراءى لي صوفي في مخيلتي وهي تنظر بطرف عينها، فيما كنا أنا وسليم مستسلمين لنشوة لذيذة – وقد رفرفت ابتسامة على شفتيها، وامتدت تحت فمها ندبة مقوسة. (وبعد سنوات، أطلقت إليفثريا، حبيبتي اليونانية – ويعني اسمها 'الحرية' – التي كانت تتفاخر بأنها نساء عديدات في امرأة واحدة، على حالة النشوة التي كانت تعترينا 'سِحْر عشر رقصات'، وهي تورية إغريقية لفظية تعني 'الإنحلال').
كانت صوفي تدللنا وتعاملنا كما لو أنها كانت قد أنجبتنا، وكنا نكّن لها ذات القدر من المحبة. بل ويمكنني أن أعترف الآن، بأننا كنا نحبّها أكثر مما كنا نحبّ أمهاتنا، وذلك لأنه لم يكن ثمة شيء يرغمها على أن تحبنا بهذا القدر، ولأنها كانت تعتبر أننا نستحق حقاً هذه المحبة والمودّة منها. لذلك، لم نصدق ما كان يقوله الآباء والجيران بأن غريزة الأمومة تحكم كلّ امرأة، بسبب قانون الطبيعة، وبما أن صوفي كان مقدراً لها أن تبقى عزباء وعاقراً، فقد كانت تحبّ كلّ طفل تصادفه وترعاه، حتى لو كانا صبيين وغدين، مثلي ومثل سليم. (ولعلي لا أزال أتذكّر عبارة طالما كانت ترددها إحدى جاراتنا: 'قد تكون عذراء، لكن أي رجل مستعد للزواج من فتاة على وجهها ندبة؟' وكان هذا الوغدان، أنا وسليم، يصرخان بصوت واحد - بتعقل، وبصوت غير مسموع - نحن! عندما نكبر)
كانت صوفي واحدة من تلك الشابات اللاتي نزحن من مناطق الأناضول النائية، ولم يكن لها أقارب ولا بيت يؤويها، فوجدت خلاصاً بالعمل في خدمة البيوت في المدن. ولم يكن أجر هذا العمل، في معظم الأحيان، يزيد على السماح للخادمة بأن تقيم في البيت وأن تنام على سرير جاثم في ركن من البهو في المنزل؛ وكان الأجر، إن كان هناك أجر، قلما يتجاوز ليرة تعيسة أو ليرتين في الشهر. إلا أنه في أوائل الأربعينات من القرن العشرين، عندما أدت سياسة الحياد التي اتخذتها تركيا في الحرب العالمية الثانية، إلى بروز مشاكل اقتصادية شديدة، كان يتعذر إيجاد حتى مثل هذا النوع من العمل أيضاً؛ وكانت المدن الكبيرة مثل استنبول وإزمير وأضنة، والعاصمة الجديدة، أنقرة، تزخر بالقصص المرعبة عن المصائب التي لحقت بالكثير من الخادمات اللاتي قدمن من الريف، واللاتي لم يجدن عملاً كخادمة.
أما أبواي، ويسرني أن أقول هذا، فكانا يدفعان لها أجراً لائقاً، رغم الصراع الدائم من أجل لقمة العيش. وكانت صوفي أرمنية، تنتمي إلى شعب شهد مصاعب ومشاق أكثر مما كان يستحق. وكانت صوفي نفسها واحدة من اللاتي نجون من الآلام التي عانى منها الأرمن على يد النظام العثماني خلال الحرب العالمية الأولى، وما يشهد على ذلك شعرها الذي ابيّض قبل أوانه، وندبتها العميقة تحت شفتها السفلى.
أما أنا وسليم، فلم نكن نقبل على الإطلاق التمييز بأنّ صوفي خادمة. وبحكمة عقلينا الصغيرين، كنا نعتبر أن هذه التسمية تزدري وتنتقص من قدرها ومكانتها. فكنا ندعوها "أبلة"، أي 'الأخت الكبرى'. في البداية – بما أن سليم لم يكن أخي، بل صديقي الذي يقيم في البيت المجاور لنا – ألححت على أن يعرف أنها "أبلتي"، لكن صوفي التي عرّفتنا على كلّ شيء نبيل لدى البشر، انتهزت هذه الفرصة لتعلّمنا العدالة الحقيقية. ففيما كانت تمسح برفق على جبهتي - بينما كان سليم يعيد تركيب بعض الأجراس التي كنا قد عثرنا عليها في إحدى أكوام النفايات، لنخترع آلة برق كنا نزمع أن ننشر من خلالها رسالتها السامية إلى العالم كله – أخذت تؤكد أنه بما أننا كنا، أنا وسليم، متلازمين منذ أيام طفولتنا، فلا بد أننا اكتسبنا الحكمة المتمثلة في طرد دوافع تافهة كالطمع والامتلاك من روحينا. لقد كانت تخصنا نحن الاثنين، وهل يوجد شيء طبيعي أكثر من ذلك؟ مما كان يعني أن "الكلّ للواحد والواحد للكلّ. لذلك اسمعوا وعوا، جميعكم! احذوا حذونا! ومن الطبيعي أن تتقاسموا كلّ ما تملكونه. آمين".
واسمعوا وعوا، جميعكم! كلوا جيداً، ابنوا العالم، ولتنبت لكم أجنحة بشكل طبيعي، مثل دودة القز التي تقتات على ورق التوت، وتنسج شرنقة وتنبثق كفراشة. آمين مرة أخرى. وكانت 'بشكل طبيعي' عبارتها الأثيرة. ولتنظر العين إلى كلّ شيء جيد وجميل، بشكل طبيعي، كما تسيل الماء. آمين.
* *
اسمعوا، اسمعوا، فقد رأت عيوننا في الجنة، بشكل طبيعي، كيف تنساب المياه، كان كلّ شيء جيد وجميل.
لقد حدث ما مهّد السبيل لارتيادنا حمّام النسوان، وكأنه قدر مقضي، ما أن وطأت قدما صوفي عتبة بيتنا.
فقد جاءت من قارس في إقليم شرقي الأناضول، وكانت رحلتها قد استغرقت–أمضت معظمها وهي تتنقل على عربات القرويين، وكانت تدفع أحياناً، القروش القليلة التي كانت معها للانتقال بشاحنات متداعية - زهاء أسبوع. وبعد أسبوع آخر، أشار إليها أحدهم تحت دالية العنب أن تحاول وتقرع باب أمّي، إذ كانت تنام في الأقبية الباردة التي تدبرها لها مواطنات متعاطفات، غالباً دون علم أصحابها. وكانت تستحم عند صنابير مياه الشرب في السوق، حيث كانت تذهب يومياً وتنبش في أكوام الزبالة. وبما أنه لم يكن لديها ثياب أخرى غير التي كانت تلبسها، لم تكن تغيّر الأسمال البالية المبللة بالعرق التي كانت تستر جسدها. لذلك عندما وصلت إلى شقتنا، كانت تفوح منها رائحة لاذعة تمتزج فيها رائحة الخوف بالفقر.
وكانت أمّي خبيرة في أمور التعقيم والتطهير – إذ كانت تعالج أبي عندما كان يأتي في إجازة من الجيش - وعلى الفور أخرجت غياراً جديداً من الثياب من خزانتها، وقادت صوفي إلى الدوش، أداتنا الوحيدة للاغتسال. (يجب أن أوضّح أن الدوش، رغم أن أبي كان يتباهى بأنه أداة غربية حديثة، كان شيئاً بدائياً: إذ كان مركبّاً فوق المرحاض الشرقي، وكان يتألف من قطعة صغيرة في شكل وردة – ينبثق منه رذاذ خفيف جداً – مثبتة فوق أنبوبين رخوين يصدأن في الصيف دائماً لأن الماء الحار لم يكن يتوفر إلا في الشتاء).
لم يكد يستقر بنا المقام في غرفة الجلوس - أذكر أنه كان لدينا ضيوف آنذاك: أبواي، ووالدا سليم، وبعض الجيران، وبالطبع، أنا وسليم - حتى تناهى إلينا صوت ضحكات صوفي. وبدت معالم الرضا على وجه أمّي، التي أحبت صوفي على الفور، ولا ريب أنها فسرّت ضحكتها بأنها فأل خير.
وما هي إلا لحظات، حتى تحوّلت الضحكات إلى قهقهات، والقهقهات إلى صرخات، ثم تصاعدت الصرخات لتصبح زعيقاً.
ما أن هرعنا جميعنا مذعورين إلى البهو ظناً منا أن صوفي قد حرقت نفسها بالماء الحار - لم يكن ذلك ممكناً لأن الوقت كان صيفاً ولم يكن يوجد ماء حار – حتى فُتح باب الحمّام واندفعت صوفي كالبرق، عارية والماء يقطر منها وهي تصرخ على نحو هيستيري.
استطاع والد سليم أن يهدئ من روعها. وفيما أخذت أمّي تسألها مراراً عما حدث، ألقت على صوفي معطفاً وأمسكتها بقبضة مصارع حتى هدأت وتحوّلت صرخاتها إلى قهقهات تصحبها دموع وفواق. وبعد أن هوت على أرض الغرفة أخيراً، وتكوّرت حول نفسها، فهمت سؤال أمّي. وكما لو أنها كانت تروي قصة خروج الجن لها، أجابت هامسة بصوت أجش: "إنها تدغدغ! الماء تدغدغني!"
لا بد أن الضحك الذي أعقب ذلك، والذي كان دليلاً على الشعور بالارتياح والمرح، قد جعلها تشعر بالإهانة، إلا أن ذلك لم يحدث. وسرعان ما علمنا أن صوفي تؤمن بأن للضحك خواصاً شافية، وأنها تكّن احتراماً شديداً لأي شخص يتمتع بموهبة المرح. إلا أنها لم يسبق لها أن ضحكت هي نفسها. وقد جعلها بوحها هذا تهتز طرباً، وكما قالت لي فيما بعد، فإن قدرتها على إضحاكنا هي التي جعلتها تقتنع بأن تتبنانا وتجعلنا أقرباء لها. مع أن قرارها بالانضمام إلى عائلتنا لم يكن قراراً سهلاً. وبعد أن اعتبرت أن الدوش بدعة جهنمية، أضحت تخشى الذهاب إلى المرحاض في كلّ يوم وتقرفص تحت قرص الدوش الصامت المخيف.
انتهى عصر ذلك اليوم نهاية جيدة. وعندما سألت صوفي، مترددة، إن كان بإمكانها أن تستخدم حنفية المطبخ لتكمل استحمامها، اصطحبتها أمّي – التي كانت، رغم عيوبها، امرأة رائعة حقاً – في الحال، مع الضيفات إلى الحمّام.
بعد ذلك، أصبحت صوفي تحبّ ارتياد الحمّام. وكانت تتذرع بأي حجة، منها مثلاً أنه علينا، أنا وسليم، أن نستحّم، بسبب الأوساخ التي تكسونا بسبب لعبنا في الشارع، وأنه يجب أن تأخذنا إلى هناك. ولم تكن أمّي تعارض هذه الرغبة على الإطلاق: إذ كان رسم الدخول إلى الحمّام رخيصاً – وكان الأطفال يدخلون مجاناً – وكنت أنا وصوفي وسليم نتألّق ونشّع بعد أن نستخدم الكثير من الصابون وندلق الكثير من الماء، وكأننا كنا نؤكد دائماً على القول المأثور "النظافة من الإيمان".
* *
في تلك الأيام، كان من النادر أن تجد حمّاماً تركياً محافظاً على عظمته العثمانية. فقد كان الإهمال جلياً في أنقرة، المدينة التي لم يقترب التاريخ منها تقريباً، والتي كانت مجرد بلدة متواضعة، باستثناء قلعة قديمة تنتصب فوق رابية، لكنها كانت آخذة في الصعود بسرعة لتصبح رمزاً من رموز تركيا الجديدة، الحديثة. لذلك، رأى بعض "التقدميين" أن الحمّامات ليست سوى طواطم تدعو إلى العودة والتقهقر إلى العادات الشرقية البائدة، وأرادوا أن يقللوا من شعبيتها، وراحوا يروجون ويشجعون على اتخاذ وسائل الراحة ذات الطراز الغربي.
ورغم ذلك، كنت ترى السحر الصوفي هنا وهناك. فكيف يمكن للذاكرة الجماعية أن تنسى أن حمّامات الباب العالي الرائعة كانت قد فتنت، لقرون عديدة، أسراباً من الأوربيين الذين كانوا ينظرون إليها بخشوع ووجل؟
لذلك ظلت هذه العادات سائدة: سراً في بعض الأماكن، وعلناً، بل وبتحدٍ، في أماكن أخرى. وعندما كانت تبنى حمّامات جديدة - كما كان الحال في أنقرة – كان يُحرص على بنائها بأعلى المعايير.
ويجدر أن أذكر هنا معيارين أساسيين.
يتمثل المعيار الأول في أن المادة الأساسية في الحجرة الداخلية (الجواني)، وهي حجرة الاستحمام ذاتها، يجب أن تكون مشيّدة من الرخام، وهي الأحجار التي، كما تقول الأسطورة، تحفظ النسمات العليلة والتي، لهذا السبب بالذات، كان الملوك يختارونها لتشييد قصورهم، ويفضّلها الآلهة لبناء معابدهم. (أشيع في مطلع الخمسينات من القرن العشرين بأن أحد الحمّامات في أنقرة، الذي كان يرتاده الدبلوماسيون وأعضاء البرلمان بشكل خاص، قد استخدم رخاماً ذا عروق وردية وزرقاء وفضية، استورد خصيصاً من بلدان ذات أسماء غريبة، ليبّز جميع منافسيه).
أما المعيار الثاني، فكانت تحدده الميزّات المعمارية التالية: وجود قبة، وعدد من الأعمدة المتينة، وسلسلة من النوافذ العالية، لأن هذه التوليفة، ستجعل "الجواني" يشع بوهج يوحي بهالة صوفية كما في المسجد. كما أن النوافذ العالية، فيما تقطر نوراً من أبولو، تردع المتلصصين ومختلسي النظر. (ومع ذلك، كانت تروى حكايات عن رجال من العناكب يتسلقون إلى النوافذ المرتفعة ليختلسوا النظر إلى المستحمّات. وأروي هنا حكاية مفزعة عن ثلاثة شبان من delikanlt – وهي كلمة تستخدم بتودد غالباً، وتعني حرفياً "الشبّان الذين تجري في عروقهم دماء فائرة"- تراهنوا على التسلق إلى نوافذ أحد الحمّامات في قونية في يوم متجمد كانت درجة الحرارة فيه 35 درجة مئوية تحت الصفر، فتجمدّوا ولقوا حتفهم وهم لا يزالون متشبثين بالجدران، وتعيّن على عمال الإنقاذ الانتظار إلى أن حلّ الربيع حتى تمكنوا من اقتلاعهم من فوق القبة).
* *
كانت هذه المعايير موجودة في حمّام النسوان الذي كنا نرتاده، الذي كان يدّعي بأنه أحد أفضل حمّامات النساء في المنطقة برمتها. أما بالنسبة لي ولسليم، فقد كان خلاصة الترف والمتعة.
دعوني أصطحبكم معي، خطوة بخطوة.
كان المدخل، أكثر سماته بهاء ورصانة، يتألف من باب صغير من الحديد المطروق في وسط جدار عالٍ يشبه الجدران الشاهقة التي أقيمت لحماية مدارس البنات.
أما الردهة، فكانت فاخرة ومثيرة للشهوة. إذ تعدك الستائر الأرجوانية الداكنة على الفور بمتع حسّية رائعة. (هل تخونني ذاكرتي؟ هل كانت هذه الستائر الأرجوانية هي الستائر التي كانت موجودة في "بيت المواعيد" الذي رحت أتردّد عليه في استنبول بعد عدة سنوات؟)
وإلى يمين الردهة، توجد مصطبة واطئة ينتصب عليها كشك تجلس فيه المشرفة على الحمّام، "تيزا خانم"، أو "الست العمة"، التي ربما كان حجمها هو الذي أدى إلى سكّ العبارة التركية: "مبنيّة كالحكومة". وكانت تحصّل رسم الدخول، وتبيع المواد اللازمة كالصابون، والمناشف، والطاسات، والقباقيب التركية التقليدية (كانت صوفي، التي لم تكن تتشكى من نزوات الحياة وأهوائها، شديدة التمسك بأهداب النظافة، وكانت تحرص دائماً على أن نحضر معنا معدات غسيلنا الخاصة بنا).
وفي الطرف الآخر من الردهة، يوجد باب يفضي إلى غرفة عامة واسعة لتغيير الملابس. وكما لو أنها كانت قد صممت لإطالة أمد التوقع والانتظار، فقد كانت مرتبة ببساطة: جدران مطلية بالجير الأبيض، ومقاعد خشبية للجلوس، وسلال كبيرة مجدولة من القصب لوضع الثياب فيها.
ويُفتح باب آخر على ممر تكسو أرضيته ألواح مضلّعة. فهنا، عندما تمشي، تصدر القباقيب إيقاعاً مثيراً. وإلى الأمام، يوجد القوس الذي يفضي إلى ملاذ الحمّام الرخامي.
وفي اللحظة التالية تشعر وكأنك تشهد تغييراً جذرياً. فقد نجم عن امتزاج الحرارة والبخار هواء شفّاف؛ وكان صوت الماء الذي لا يتوقف عن الجريان رائعاً؛ والأشكال الضبابية البيضاء، التي يبدو أنها تطوف في تخيلات متلوّنة، تتغير بسرعة في مخيلتك. قد يكون هذا المشهد من بداية الزمن - أو من آخره. على أيّ حال، إن كنت تعشق النساء، وتصبو لأن تلتحم بكلّ واحدة منهن، سيبقى هذا المشهد ماثلاً أمام عينيك ما حييت.
وببطء، تأخذ في تسجيل التفاصيل.
فترى أن القمّرة مستديرة (في الحقيقة، بيضوية الشكل).
إنك سعيد. لأنها لو كانت مستطيلة، كما هو حال بعضها، لانبعث منها هواء ذكوري.
وتلاحظ البلاطة الرخامية الكبيرة التي تشكّل الوسط. وهي "حَجَرة البطن"، التي تجلس عليها المستحمّة كي ينضح منها العرق. ومن حجم "حَجَرة البطن"، تتحدد شهرة الحمّام؛ فالحَجَرة الكبيرة، كتلك الموجودة في حمّام النساء، حيث تستطيع الجارات، أو أفراد الأسرة، أن يجلسن ويتحدثن تكفل له شعبية كبيرة.
وترى مقصورات الاغتسال المحيطة بحَجَرة البطن، التي يوجد في كلّ منها حوض من الرخام – يدعى الجرن – حيث يمتزج الماء الحار والبارد، يتدفقان من صنبورين منفصلين. وتلاحظ أن المساحة المحيطة بالجرن تتسع لعدّة نساء، ينتمين دائماً إلى العائلة نفسها، أو إلى مجموعة من الجارات والصديقات، اللاتي يجلسن على مقاعد قصيرة وعريضة، مصنوعة من الرخام أيضاً، وتبدو وكأنها قطع منحوتة تنتمي إلى فن النحت الحديث – وهنا تتذكر "طاولة الصمت" لبرانكوسي – فيملأن طاساتهن بالماء من الجرن، ويدلقنها على أجسادهن. وفي بعض الأحيان، تدفع المرأة التي ترغب في أن يُفرك جسمها، إكرامية جيدة، لقاء الخدمات التي تقدمها لها إحدى العاملات في الحمّام "المكيّسة".
وترى أنه يوجد خلف الُحجْرة الداخلية، أو "الجواني"، عدد من الغرف التي تكون أكثر حرارة لقربها من الموقد "بيت النار"، وهي تعرف "بالخلوة"، وتُحجز للواتي يرغبن في الاستحمام بمفردهن، أو اللواتي يرغبن في أن تُدَّلك أجسادهن. وتقوم تيزا خانم بأداء هذه المهمة، للزبونات المميّزات.
وبما أن هذا الحمّام واحد من أفضل الحمّامات في المدينة، توجد غرفتان أخريان: الأولى "الصدر"، التي كما يوحي اسمها، تخصص للواتي يمضين النهار بأكمله، وهو عبارة عن استراحة يحصلن عليها بعد انتهائهن من الاستحمام. والأخرى، "سوجوكلوك"، أو "الوسطاني"، لكي تتبّرد اللواتي يشعرن بحرارة زائدة. وترى بشعور من الارتياح، أنه باستثناء بعض الزبونات الأكبر سنّاً، لا يرغب في ممارسة هذا الضرب من حبّ تعذيب الذات "الماسوشيّة" إلا عدد قليل من النساء.
لكنك بالطبع، ترى قبل كل شيء المستحمّات، وترى عدداً من الأثداء من كلّ شكل وحجم. فاللاتي يعتبرن التواضع فضيلة، يرتدين دائماً "بيشتامال"، وهو مئزر شفّاف يوضح مفاتن أمجاد لحمهن ويبرزها، بدلاً من أن يسترها. أما ما تبقى من النساء، فهن عاريات تماماً، لا تكسوهن سوى الأساور والأقراط، التي يبدو أنها مطلية بالذهب. وسواء كنّ مسنات أم شابات، طويلات أم قصيرات، فهن جميعهن ممتلئات مكتنزات. وحتى النحيفات منهن، يبدون شهيات، مضمخات بالعطور، والحنّاء الثقيلة، يتمشين بجرأة وبراحة، بأجسادهن القوية الناعمة التي تحمل أطفالاً. وسرعان ما تدرك أنهن فخورات بأنوثتهن رغم أنهن - أو ربما لأنهن - يعشن في مجتمع يتحكّم فيه الذكور بالمطلق. لكنهن إذا رأين، أو خيّل إليهن أن أحداً ينظر إليهن، يعتريهن الخجل ويسترن عورتهن بالطاسات التي يغتسلن بها. وترى فتيات صغيرات أيضاً، لكنك إن كنت صبياً صغيراً مثلي ومثل سليم، فلن تعيرهن أي اهتمام. إذ تكون قد رأيت كنوزهن الواعدة في ألعاب عفا عليها الزمن، مثل لعبة "الأمّ والأب" ولعبة "الطبيب والمريضة". (وهنا، باختصار، حسب إنجيل إليفثريا: فإن جميع الأجساد البشرية، من كلّ عمر، وفي كلّ شكل وحجم، حتى التي فيها عاهة جسدية، جميلة. وأن أجمل قضيب عرفته في حياتها، كان قضيب رجل ذي ذراع ذاوية).
* *
أظن أني حكيت قصة دخولنا إلى الجنة وكأن ذلك أمراً عادياً، وكأنما كان الصبية الصغار في تركيا في الأربعينات من القرن العشرين، مستثنيين من جميع الاعتبارات الجنسية. حسناً، هذا ليس صحيحاً تماماً. ومن المؤكد أني صادفت على مرّ السنين، الكثير من رجال جيلي - ومن أصقاع مختلفة من تركيا –يرتادون حمّام النسوان، عندما كانوا صبية، برفقة الخادمة، أو المربية، أو الجدّة، أو إحدى القريبات المسنات – لكن ليس مع أمهاتهم، إذ يبدو أن هذا الشيء المحرّم، لا يزال شيئاً منيعاً لا يمكن انتهاكه.
وفي الواقع، لم تكن هناك قواعد راسخة تمنع الصبية من دخولهم حمّام النسوان. فقد كان هذا القرار يتوقف على عدد من الاعتبارات: سمعة الحمّام، ومكانة روادّه، وانتظام الشخص على ارتياد الحمّام - أو مجموعة من الأشخاص- ومقدار الإكرامية التي تدفع إلى العاملات، ويتوقف الأمر أخيراً على تقدير تيزا خانم .
وفي حالتنا، أنا وسليم، كان هذا الاعتبار الأخير هو الذي رجّح كفّة الميزان لصالحنا. إذ كان يسمح لنا بدخول الحمّام لأن تيزا خانم التي تدير الحمّام، كانت خبيرة في أمور البلوغ. فقد تحقّقت بأن خصيتيّ كل منا لم تسقطا بعد، وكانت تقول ذلك إلى المستحمّات، عندما يلزم الأمر، اللاتي كن يضحكن دائماً بقوة، ويثقن بما تقوله. (ورحمة بنا، كانت صوفي العزيزة، تشعر بشيء من السخط لهذه التهمة الساذجة لأجزائنا الحميمة، فكانت تضع يديها على أذنينا وتدفعنا بعيداً).
أما أنا وسليم، فغني عن القول، أننا كنا نشعر براحة كبيرة عندما نسمع أن خصانا لا تزال سليمة. إلا أن التوقع بأنها ستسقط ذات يوم جعلنا نشعر بقلق كبير. لذلك، ولفترة من الزمن، كنا نتفحص أسفل بطننا لنطمئن، لا إلى أن فحولتنا لا تزال في مكانها فحسب، بل وأنها لا تزال في حالة جيدة منذ أن لعبنا بها في صباح ذلك اليوم، عندما استيقظنا. وكنا نبحث في الشوارع أيضاً، حتى عندما نسير مع أبوينا، لعلنا نجد الخصية الشاذة التي سقطت. وكان أحدنا يقول للآخر إننا إذا تمكّنا من جمع عدد من الخصيات الاحتياطية، فسنتمكن من استبدالها بخصيتينا عندما تقع الكارثة المشؤومة. ولم يردعنا عدم رؤيتنا أي خصية ملقاة في أرض الشارع في الماضي، بل كنا نظن أن الصبية الآخرين، الذين يعانون من المشكلة نفسها، قد التقطوها. وفي نهاية الأمر، عندما لم نعثر على أي خصية، بدأنا نؤمن بأن هذه الأعضاء متصلة بالجسم بإحكام وأنها لن تسقط – ولا بد أن الله قد حرص على عمل ذلك! وقرّرنا أن هذه 'الكذبة' البشعة أشاعتها النساء اللواتي كن يحاولن أن يستبعدن نضوجنا المبكر، وأردن أن يثرن الخوف في نفوسنا.
وبالفعل فقد نضجنا في سن مبكرة. وكان لدينا معلمون جيدون.
* *
كنا نقيم أنا وسليم بالقرب من مصنع بومونتي للبيرة، على أطراف أنقرة في منطقة سكنية راقية، تنتشر فيها العمارات الخرسانية التي كانت بمثابة دليل على بداية الازدهار في المستقبل. وكانت تمتد وراءها السهول الجنوبية، التي تتخللها هنا وهناك مخيمات الغجر.
وغني عن القول، إن الغجر يعيشون حياة لا يحسدون عليها، فهم يستقرون حيثما وأينما شاؤوا. وقد حرمهم الحيف والظلم التاريخي الذي لحق بهم من العمل في معظم الأعمال. وكانت هذه هي الظروف السائدة في أنقرة. فقد كانت الأعمال المتاحة للرجال منهم تقتصر على قطاف الفاكهة الموسمي، وسياسة الخيل، وحفر الطرق، وحمل الأثقال الضخمة. (رأيت ذات مرّة ثلاثة رجال يحملون بيانو كبيراً على ظهورهم المحدودبة، وينقلونه إلى مسافة تقارب أربعة كيلومترات) أما الغجريات فكن أفضل حالاً: إذ كان الطلب عليهن يشتد في الغالب لقراءة الطالع، والتطبيب بالأعشاب والرقيات، وكنّ يصطحبن معهن بناتهن دائماً لتعليمهن وهنّ صغيرات، فنون قراءة الطالع والرجم بالغيب. أما الصبية الغجر، فكانوا يتسولون في المراكز التي تعج بالحركة كالأسواق، والحافلات، ومحطات السكك الحديدية، والملاعب، وبيوت الدعارة.
وكانت بيوت الدعارة أفضل مكان، بالنسبة لهم، من بين جميع الأماكن الأخرى. فقد كانت تقع في المدينة القديمة، عند سفح القلعة، وتتألف من ستين بيت متداع، مكدّسة فوق بعضها البعض في متاهة من الشوارع الضيقة. وكانت توجد نافذة صغيرة في باب كلّ بيت يستطيع الزبون أن ينظر من خلاله ليقيّم السيدات المعروضات. هنا، وعلى الأرصفة المهترئة، كان يقبع الشحاذون الغجر الذين كانوا يعرفون أن الرجل، بعد أن يكون قد أمضى وقتاً مع إحدى المومسات، وخاصة إن كان متزوجاً، يشعر بأنه لم يعد نظيفاً، أو يعتريه شعور بالذنب؛ لذلك كانوا يعرضون عليه الخلاص الفوري ويحثّونه على أن يدّس في راحة كفهم بضعة قروش، لكي يثبت لله، كما يتوقع الإيمان منه، أنه رجل محسن كريم.
وقد أصبح بعض هؤلاء الصبية الغجر الحكماء أصدقاء لنا. وعندما كان يتاح لنا ذلك– أي عندما لا يتسولون أو يبيعون بضائعهم – كنا نلتقي بهم. وكانوا دائماً يرحبون بنا – وكنا نستدرجهم لأننا كنا أولاد مدينة على ما أظن- فيدعوننا إلى خيمهم. ولكن للأسف، لم يكن بوسعنا أن نردّ لهم كرمهم، فقد منعنا آباؤنا من مؤاخاة حثالة المجتمع.
إلا أن هؤلاء الأصدقاء علموّنا الشيء الكثير.
والأهم من كل ذلك، أنهم كانوا يروون لنا القصص التي كانوا قد سمعوها من الزبائن ومن المومسات، وعلّمونا طرائق الجنس الغريبة: الأوضاع الغريبة والمضحكة، ونزوات الأعضاء الرئيسية، وسبل المراوغة التي لا تعد ولا تحصى، التي لم تكن تعني شيئاً لأحد أو التي ظلت لغزاً لسنوات عديدة.
وكانت هذه المعرفة الثمينة أساساً لإجراء مزيد من الأبحاث في الحمّام .
وأضحت الأثداء والأرداف وشعر العانة - أو كما كان الحال في معظم الأحيان، عدم وجود شعر العانة – تتصدر قائمة مواضيع بحثنا. ولا بد أنك ستوافقنا على القول بأنها ليست بالمهمّة العسيرة. فبما أن هذه الأجزاء كانت مكشوفة، وبوسع الجميع رؤيتها، فلم يكن يتعين علينا أن نتصنع تلك النظرات السرّية التي تجدها في أفلام الجاسوسية في ذلك الزمن، ولم يكن يتعين علينا، والحمد لله، أن نلوي وجهينا لكي لا يبدو علينا أننا نحملق.
فقد علمّنا أصدقاؤنا الغجر أن الأثداء هي التي تحدد قدرة المرأة الجنسية. وأن الهالة المحيطة بالحلمة مؤشر واضح على الرغبة. فالمرأة ذات الهالة الكبيرة نهمة، أما ذات الهالة التي تشبه وحمة صغيرة، فمن الأفضل هجرانها لأنها تكون باردة جنسياً. (وأتساءل الآن ماذا كانت تعني لنا عبارة باردة جنسياً في تلك الأيام؟) وكنا نعتبر هذه الأساطير حقائق راسخة – وربما كنا لا نزال نؤمن بذلك في أعماقنا – ونرفض في الحال أيّ دليل يثبت عكس ذلك. ولمجرد العلم، فإن المرأة ذات أكبر هالة شاهدناها في حياتنا، كانت بلا ريب، قمة في الكسل والخمول، والتي كانت تطلق عليها تيزا خانم "حصان بائع الحليب". إذ كنت تجدها دائماً مطرقة الرأس وتغط في سبات عميق، حتى وهي تمشي. وبعكس ذلك، لم يكن لدى أكثر النساء حيوية ونشاطاً ممن رأينا – وهي أرملة لم تكن تتيح لنا أن نلقي نظرات طويلة وسخيّة إلى فرجها فحسب، بل كان يبدو أنها تجد متعة كبيرة في أن تعرض نفسها أيضاً – هالة على الإطلاق، بل كان لديها ثديان مستدقان صغيران، وحلمتان مدببتان غليظتان تشبهان ساق الفطر.
وعلموّنا أن الأرداف تعكس شخصية المرأة. فهي تعبّر عن النفس، كالوجوه تماماً. إذ يمكن على الفور معرفة الأرداف العبوسة المقطبة: فالإليتان الضامرتان اللتان يفصلهما شق مثل خصلة من الشعر في رأس رجل أصلع، تدّلان على نساء هجرن المتعة. أما الأرداف السعيدة، فهي تبتسم دائماً، أو، وكأنها تتلوى من ضحك شديد، فهي تترجرج وتهتز. أما الأرداف الحزينة، حتى لو كان شكلها يشبه الأجرام السماوية، فتبدو وحيدة منبوذة يائسة. وهناك الأرداف التي تحبّ الحياة كثيراً، إلى حدّ أنها تتمايل وتتثنى مثل هلام التمر الهندي، فتجعل لعاب المرء يسيل من فمه.
أما شعر العانة، فكما أسلفت، فلا يعرض الكثير منه. ففي تركيا، كما هو شأن معظم البلدان الإسلامية، تقضي التقاليد البدوية القديمة بأن تحلق المرأة شعر عانتها عند الزواج لأسباب صحّية. وبما أن معظم النساء اللاتي يرتدن الحمّام متزوجات، فإن شعر العانة الوحيد المكشوف، يكون لعدد قليل من الفتيات المراهقات أو لعجائز لم يعدن يبدين اهتماماً بهذه التقاليد، أو أنهن لم يعدن يكترثن بإزالة شعر عانتهن بانتظام، وخاصة أنه لم تتبق لديهن سوى خصلات رقيقة من الشعر.
وثبت أن بحثنا هذا، فضلاً عن متعته الفطرية، درس في علم الاجتماع. فالفرج الحليق لا يشير إلى وضع المرأة بأنها متزوجة فحسب، بل يدّل أيضاً على مكانتها في المجتمع. فالمرأة الحليقة دائماً امرأة موسرة، ولديها ما يكفيها من وقت الفراغ – والخادمات لمساعدتها - لذلك، فإما أن تكون من الأرستقراطيات القديمات، أو من محدثات النعمة. أما المرأة ذات الشعر القليل فيدّل ذلك على خلفيتها المتواضعة: إذ لا يتيح لها الأطفال، أو الأعمال المنزلية، أو العمل خارج البيت، الوقت الكافي لإزالته. أما المرأة غير الحليقة أثناء فترة الحيض فهي تنتمي في الغالب إلى طبقة أدنى.
ولدهشتنا - وكأن هذا العمل يصبح أقل إزعاجاً إذا ما تم في جماعة – كانت تتم عمليات إزالة الشعر كثيراً في الحمّام. واكتشفنا السبب أخيراً: فبدفع إكرامية صغيرة، تقوم إحدى العاملات في الحمّام بهذه المهمة على أفضل نحو، وبذلك تتفرغ المرأة للدردشة وتجاذب أطراف الحديث مع الصديقات أو القريبات. (عندما رأينا أنا وسليم لأول مرة امرأة تزيل شعر عانتها - عمل صعب وأخرق كان يسبب لها جروحاً صغيرة - قرّرنا أن نحضر معنا في زيارتنا القادمة، قليلاً من حجر الشبّ، ونقدّمه للاتي يجرحن أنفسهن، فنزداد قرباً منهن. إلا أننا نبذنا هذه الفكرة من رأسينا بعد أن ألمح أصدقاؤنا الغجر إلى أن تصرفاً كهذا قد يفضح عن حقيقة اهتمامنا بأعضائهن الجنسية، وما سيتبع ذلك من شكاوى ستدفع تيزا خانم إلى طردنا ومنعنا من الدخول ثانية. كانت نصيحة جيدة).
أما دراستنا الرئيسية - في نهاية المطاف، علة ذهابنا إلى الحمّام – قد تركّزت على الشفرين والبظر التي كان لتلك العجائب أساطيرها أيضاً، كما قال لنا أصدقاؤنا الغجر.
فقد كانت الأساطير المتعلقة بالشفرين تدور حول بروزهما ودقتهما. فالشفران الواسعان، يشبهان شفاه الأفريقيين، التي هي من المؤكد، شأن جميع الأجناس السوداء، شبقة ولا تعرف الكبت والحرمان. (ماذا كانت تلك الصفات تعني لنا؟ وماذا كنا نعرف عن الشعوب السوداء؟) أما الشفران الرقيقان، فيدلان على قلب رقيق عطوف. ويدّل الشفر المتدلي على الأمومة، وأكدّوا لنا أن القابلات الغجريات، يعرفن عدد الأطفال الذين أنجبتهن المرأة من رؤية شفريها. أما اللاتي لم ينجبن أطفالاً، ولهن شفران متدليان، فينبغي الرثاء لحالهن: لأنهن يجدن الرجال، بصورة عامة، جذّابين إلى درجة لا يستطعن مقاومتها، ولا يتمكّن من احتواء مشاعرهن وإبداء مودتهن إلى شخص واحد. لذلك، ولكي يبقين عفيفات، وهبهن الله شفرين يمكن خياطتهما معاً.
أما الشفران المثاليان، فليسا هما اللذان يتماوجان برقة فحسب، بل يكونان مستدقين أيضاً في الوسط، فيبدوان مثل مشبكين مرهفين. ولهذين الشفرين قوى سحرية: فمن يستطيع أن يلفّ لسانه حولهما، سيتمكن من رؤية عالمنا التوأم القابع على الجانب الآخر من الشمس، حيث الحياة هناك نقيض الحياة هنا - وحيث يعمّ، بدلاً من الحروب التي لا تتوقف، سلام دائم.
أما البظر، فمن المعروف أنه كالقضيب، يتفاوت في الحجم. ومن المعروف أيضاً أن الأتراك، المتأثرين بالمجلد الخامس من كتاب أرسطو الشهير "أجزاء الحيوانات"، كانوا قد صنفوّه في ثلاثة أحجام متميّزة، وأطلقوا على كلّ صنف منه اسم طبق شعبي. (فكما قالت إليفثريا، التي كانت كلاسيكية أيضاً، أن عمل أرسطو المذكور يضم أربعة مجلدات فقط. ومع ذلك، فقد أقرّت بوجود احتمالات، أولها: أن الحكيم كان قد أعار مخطوطة المجلد الخامس إلى الإسكندر الأكبر ليتمكن هذا الأخير، في سعي منه لتحقيق حلمه في أن يقترن الشرق بالغرب، وأن يهيء جنوده للزواج من نساء كوش الهندوسيات؛ وثانيها: أنه قد تكون المخطوطة قد فُقدت في مكان ما في الشرق الأوسط، ثم تمكن الأتراك من العثور عليها في نهاية الأمر).
وتُقَّسم الفئات على النحو التالي: "حبة السمسم" للبظر الصغير، و"حبة العدس" (في تركيا، العدس البني) للمتوسط الحجم، والذي يعتبر الطبيعي لأن تسعين في المائة من أنواع البظر تكون متوسطة الحجم، و "حبة الحمص"، للكبير الحجم.
وتكون النساء ذوات حبة السمسم متجهمات كئيبات دائماً. إذ يعزين صغر حجم بظرهن إلى وجود عيب في أنوثتهن – رغم قدرتهن على الاستمتاع بالجنس تماماً– وينتهي بهن الأمر إلى أن يرتبن في مشاعرهن الأمومية. ويقضّ هذا الإحساس الفظيع بعقدة النقص مضاجعهن، فيعاملن الأطفال بقسوة، وخاصة الذين يأتون إلى الحمّام. أما اللاتي أنعم الله عليهن بحجم حبة العدس، فيتمتعن بخصائص هذا الغذاء الرئيسي في تركيا. لذلك فإن النساء ذوات حجم حبة العدس، لا يدخلن البهجة من الناحية الجمالية فحسب، بل يوفرن تغذية جيدة أيضاً. فهن يقدمن كلّ شيء يرغبه الرجل من الزوجة: الحبّ، الهيام، الطاعة، وموهبة الطهي. أما اللاتي مُنحن صفة الحمص، فقد قدّر لهن أن يقتصدن في نشاطهن الغرامي لأن حجم بظرهن غير الطبيعي يسبب لهن هذا القدر من المتعة إلى حد أن ممارسة الجنس بانتظام تتلف قلوبهن، فيحصرن أنفسهن بالحمل فقط، وتجد هذه النساء عزاء في الحياة الروحية. ويتوصلن إلى درجة عالية من التقوى.
تعليق جانبي هنا، إن كان يحق لي أن أفعل ذلك.
قد لا تصدقون ذلك، إذ لم ندقق في قسمات وجه صوفي. فبما أنها كانت واحدة من أفراد الأسرة، فمن الطبيعي أننا كنا نعتبرها نقية طاهرة، ولذلك لم تكن تعتريها مشاعر جنسية. أما الآن، فعندما أنظر إلى الصور القديمة، فإني أرى أنها كانت تتمتع بجانب من الجاذبية. إذ كان ملمس بشرتها حريرياً ناعماً، وكانت حنطية اللون، وهو اللون الذي يجعل الأرمن وسيمين هكذا. كما أنها لم تنجب أطفالاً، لذلك لم تستمتع به، بلغة رواد الحمّام. لذلك، مع أنها كانت في منتصف الثلاثينات، فقد كانت لا تزال مشدودة اللحم، متينة البنية، ولا تزال امرأة في ريعان الصبا.
عندما انتقلت أسرتي من أنقرة، بعد بلوغي بفترة وجيزة، ذهبت صوفي لتعمل في فندق في أحد المنتجعات كعاملة تنظيف. لكن أحدنا ظل على اتصال مع الآخر. وفي عام 1976، تركت عملها فجأة واختفت. وقال لنا رئيسها، الذي كان على صلة وثيقة بها، إنها مريضة جداً وقال إنه يظن أنها ذهبت لتموت بسلام في مسقط رأسها، وبين أسلافها من بني جلدتها الذين غادروا هذه الحياة. وبما أن أحداً منا لم يكن يعرف من أيّ قرية في محافظة قارس جاءت أصلاً، سرعان ما باءت جهودنا في تتبّعها بالفشل.
لكنني لم أفقد الأمل في العثور عليها مطلقاً. فما أن كنت ألتقي بشخص أرمني، حتى كنت أسأله إن كان قد صادف صوفي، أو إن كان بوسعه أن يسأل عنها ضمن دائرة أقاربه وأصدقائه ومعارفه.
وذات يوم، كتب لي صديق في كندا وحدثني عن كريكور هوفانيسيان، مهاجر أرمني مريض في الستين من عمره، قرّر أن يعود إلى وطنه تركيا عندما ترّمل، ليمضي ما تبقى من حياته في احتساء العرق وتناول المازاوات على ضفاف البوسفور. إلا أنه ما أن وطأت قدماه شواطئ بلدنا، حتى وقع فريسة بيروقراطيتنا السيئة السمعة، وأُلحق في الخدمة العسكرية التي كان قد تهرب منها في أيام شبابه. وأُرسل شرقاً، إلى قارس، إلا أنه، بسبب عمره، أوفد ليعمل مساعداً في نادي الضباط. وخلال الفترة التي أمضاها هناك، لم يستعد صحته فقط، بل أقام أيضاً علاقة مع إحدى قريباته البعيدات. وبعد انتهائه من الخدمة، اقترن بهذه المرأة، وعاد إلى استنبول، واشترى مطعماً رومانياً مشهوراً، ورممه بعد أن كان قد التهمته النيران.
مزوداً بهذه المعلومات، هرعت إلى المطعم المذكور.
وهناك، ولبهجتي العظيمة، رأيت صوفي .
كان زوجها كريكور قد مات منذ مدة طويلة، لكن صوفي كانت حية ترزق– رغم كبر سنها. وكان أولاد كريكور من زوجته الأولى يقدمون لها الرعاية، وكان لديها بالطبع ولداها الحقيقيان – أنا وسليم.
* *
لكن للأسف، لم يدم نعيمنا هذا في الجنة حتى نهاية السنة.
فعندما طُردنا، كان ذلك أمراً مفاجئاً وغير متوقّع، وكأنه جاء من عدن. وكان مؤلماً إلى درجة قاسية.
حدث ذلك في الخامس من تموز. فهذا التاريخ مطبوع في عقلي، لأنه كان يصادف عيد ميلادي. وفي واقع الحال، كان ارتيادنا الحمّام في ذلك اليوم هدية صوفي لي. فقد كانت قد سألتني قبل عدة أيام ما الهدية التي أحبهّا، وكانت تقصد الطبق أو نوع الكعك الذي أريدها أن تعدّه لي، لكني أصريت على أني أفضل الذهاب إلى الحمّام. فوافقت على الفور، ومع ذلك، أعدت لي طبقي المفضّل.
إن فصول الصيف في أنقرة خانقة، وكان الخامس من تموز ذاك خانقاً على نحو خاص. ففي مثل هذا اليوم القائظ يلجأ الناس إلى الحمّام التركي لأنه أولاً، يبدو من الداخل منعشاً أكثر من أي مكان آخر، ويوّفر ملاذاً رائعاً للاتقاء من الشمس التي تبدو وكأنها عازمة على أن تجعل أدمغة البشر تغلي وتفور. وثانياً، تتحول الغرفة المعتدلة "الوسطاني" في الفصل الحار إلى واحة. وثالثاً، وفقاً للذين يدّعون أنهم يفكرون بطريقة علمية، فإن التفريك الشامل - شامل إلى حد أنه لا يمكن القيام به إلا بعد قضاء بضع ساعات في الحمّام – يؤدي إلى تحسين آلية التبريد في المرء، لأنه يفتح كلّ مسامات الجسم.
وهكذا، ففي الخامس من تموز، كان حمّام النسوان مكتظاً بالمستحمّات. (لعلي أكون قد عرفت أو سمعت أو خمّنت أنه سيكون هكذا) وكنا أنا وسليم نجد صعوبة في محاولة التطلع في عدة اتجاهات في وقت واحد. كانت إثارتنا هائلة إلى درجة أنه لم يرمش لنا جفن مطلقاً. (اليوم، عندما نرّكز على شيء يبهرنا، فإننا نثّبت نظرتنا الجاحظة تلك). كان في واقع الأمر، أكثر الأوقات سخاء ووفرة من جميع الأوقات التي أمضيناها في الحمّام. (علماً أنها كانت المرّة الأخيرة أيضاً، وقد أكون مبالغاً في ذلك، ربما بسبب الحنين وصبا الشوق).
ولم تمض فترة طويلة على وصولنا إلى الحمّام، حتى رأينا امرأة تنادي إحدى العاملات وطلبت منها وهي تشير إلينا، بأن تستدعي تيزا خانم. استغرق الأمر دهراً لندرك بأنّ هذه الحورية التي كانت تصرخ بصوت عالٍ هي ذاتها الإلهة التي كنا أنا وسليم قد وقعنا في غرامها، وكانت معبودتنا، التي كنا نعتبر أن جسدها مثالي وشهواني – لم نكن نستخدم صفة واحدة عدما كان يمكننا أن نستخدم صفتين - والتي، سمّيناها نتيجة لذلك 'نيلوفر' تيمناً بزنبق الماء، الذي كنا نعتقد آنذاك، أنها أجمل زهرة في العالم.
وقبل أن نتمكّن من استحضار ذكائنا لنشيح بنظراتنا إلى مكان آخر - أو حتى لأن نطرق بأعيننا في الأرض– كانت نيلوفر وتيزا خانم فوقنا، تصرخان في وجه صوفي الجميلة التي كانت تأخذ غفوة بجانب الجرن.
ويجب أن أشير إلى أني أنا وسليم، بعد أن حدّقنا بنيلوفر لشهور طويلة، عرفنا أنها ذات مزاج عصبي وعنيف. فقد رأيناها تثير مشاحنات لا حصر لها، لا مع تيزا خانم والعاملات فحسب، بل مع الكثيرات من المستحمات أيضاً. وكانت العجائز يقارنّها بفرس عربي أصيل - للسهولة والرشاقة التي كانت تحرك فيها أطرافها المكتنزة، والرياضية في الوقت ذاته، ولأنها كانت مفعمة بالحيوية والنشاط – وقد عزون سرعة تقلّب مزاجها إلى زواجها الأخير، حيث كان عليها أن تسلّم نزواتها الملتهبة كالجمر الذاوي إلى زوجها، كما ينبغي للأنثى أن تفعل. وذات يوم، بعد أسبوع أو بعد أشهر من زواجها، عندما تصبح حاملاً، ستصبح طيعة سهلة الانقياد كالمرأة الجالسة بجانبها.
في الخامس من تموز ذاك، كنا، أنا وسليم، نتوقع ثوراناً وهياجاً من نيلوفر – لكن ليس ضدنا بالطبع. (الغريب أنها لم تنقلب علينا من قبل أبداً - ولم تكن تعبأ بأن تتصرف بحشمة أمام أعيننا – وهذا يعني، كما فهمنا، أنها كانت تحبنا وتريد أن تدخل البهجة إلى نفسينا). في واقع الأمر، كنا قد لاحظنا أنها كانت عصبية المزاج منذ لحظة وصولها: إذ لم تكن تستطيع أن تجلس وتسترخي مع النساء اللاتي جئن معها، ولم تكن تمكث فترة طويلة في "الوسطاني" حيث كانت تخرج وتدخل كلّ بضع دقائق. ولم تكفّ عن التذمر والشكوى من داء الشقيقة الفظيع، الذي دهمها بسبب الحرارة اللعينة في الخارج. (إن داء الشقيقة، قالت لنا صوفي بحكمة فيما بعد، يسلّط الضوء على الأسباب الحقيقية لتقلّب مزاج نيلوفر: فبالنسبة لبعض النساء، ينذر داء الشقيقة ببدء دورتهن الشهرية؛ ولعل هذا هو ما زاد الطين بلة بالنسبة لنيلوفر - تذكّرا أنه لم يكن قد مضى على زواجها فترة طويلة – أنها قد تكون مستاءة لأنها لم تحمل بعد انقضاء شهر آخر).
استغرق الأمر فترة من الزمن كي نستوعب اتهامات نيلوفر. فقد كانت توبّخنا لأننا كنا نعبث بقضيبينا، نلمسهما كما يفعل الرجال. (إني واثق من أننا كنا نفعل ذلك، لكني واثق أيضاً أننا كنا نفعل ذلك خلسة. هل كانت تراقبنا كما كنا نراقب النساء، من خلال عيون مغمضة؟)
أما صوفي، بارك الله قلبها الغالي، فقد دافعت عنا كاللبوة، إذ قالت: "إن ولديّ يعرفان القراءة والكتابة. وليسا بحاجة لأن يداعبا نفسيهما".
هذه النتيجة الخاطئة أثارت حنق نيلوفر أكثر. فانحنت فوقنا، وأمسكت قضيبينا بيدها، واحد في كلّ يدّ، وراحت تريهما إلى تيزا خانم وهي تصرخ: "انظري، إنهما يكادان يكونان متصلبين. يمكنك أن تري ذلك بنفسك!"
(هل كانا كذلك حقاً؟ لا أعرف. لكن، كما وافقني سليم لاحقاً، كان الإحساس بسبب إمساكها بهما بقوة رائعاً).
نظرت تيزا خانم إلى الشيئين المعروضين أمامها بعين الريبة، وقالت: "لا يمكن أن يكون ذلك، فلم تسقط خصيتاهما بعد".
جأرت: "نعم. شكراً لأنك ذكرتّني بذلك. لم تسقط خصيتاهما بعد!"
"لا، لم تسقط!" تدخّل سليم بشجاعة، وأضاف، "سنعرف ذلك، أليس كذلك؟"
أطلقت نيلوفر وهي تلوّح بقضيبينا، صرخة أخرى في وجه تيزا خانم: "انظري بأم عينيك المسيهما! المسيهما!"
باستهجان، ومثل خادمة صبورة تعاني منذ زمن بعيد، جثت تيزا خانم إلى جانبنا. وسلّمت نيلوفر قضيبينا إليها، وكأنها تسلمها هراوتين. لا بد أن لتيزا خانم خبرة أكبر في تفحص الأعضاء الذكرية، لأنها ما أن لفّت أصابعها حول قضيبينا برقة وبدفء وبلطف شديد، حتى اشتد عودهما - أو أننا أحسسنا وكأنهما تصلبا.
توقّعنا أن تصرخ تيزا خانم وتقلب المكان عاليه سافله. لكنها بدلاً من ذلك، نهضت عن وركيها، والتفتت إلى صوفي وقالت مبتسمة: "إنهما منتصبان. شاهدي بنفسك". هزّت صوفي رأسها غير مصدقة.
احتفلت نيلوفر بنصرها، فراحت تجوب الحمّام وتصيح: "إنهما ليسا صبيين! إنهما رجلان!"
استمرت صوفي تهزّ رأسها غير مصدقة.
ربتت تيزا خانم على كتفها، ثم مشت بعيداً وقالت: خذيهما إلى البيت. يجب ألا يكونا هنا".
أخذت صوفي، التي اضطربت فجأة، تحدّق في المستحمّات. ولاحظت أن بعضهن قد سترن أماكنهن الحميمة.
التفتت إلينا وهي لا تزال مشوّشة، واندفعت فجأة وأمسكت قضيبينا بسرعة، فانكمش عضوانا على الفور، واختفيا داخل غلفتيهما.
صاحت صوفي، التي شعرت بأنها برّأت نفسها، في المستحمّات "إنهما ليسا منتصبين! لا!"
تردّد صوتها في جنبات الجدران الرخامية. لكن لم يعرها أحد أيّ اهتمام.
ظلت متحدّية حتى ودعتنا تيزا خانم عند الباب. "سأحضرهما - في المرة القادمة! سنعود!"
انفجرت تيزا خانم ضاحكة وقالت: "بالتأكيد! احضري أبويهما أيضاً، لم لا؟"
وصُفقت الأبواب وراءنا.
ومع ذلك، فقد اصطحبتنا صوفي بتصميم عدّة مرات، لكننا كنا نردّ على أعقابنا في كلّ مرة.


الكاتب التركي البريطاني موريس فارحي

ترجمة: خالد الجبيلي

المصدر: جدار



صورة مفقودة
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى