قصة ايروتيكة سليم البيك - P.S

سلمى يا سلمى،
يا حبيبتي أنت.
لو تعلمين ما يقترفه غيابك، منذ رحلت إلى لندن الكئيبة وأنا معتكر المزاج، لا أحتمل نفسي ولا يحتملني أحد. أساساً، ما كان يحتملني أحد سواك.
في الأسبوع الماضي تشاجرت مع الدكنجي وناطور العمارة. أهلي لم أزرهم منذ فترة، وأصدقائي كالغرباء. لا يهم، لم يعد شيء يهمني يا سلمى، سوى أنّ أوراق الروزنامة تنقص يوماً بعد يوم، وحزيران يقترب، وأنت تقتربين أكثر.
كم اشتقت إليك مستلقية أمامي بكامل عريك تفصلنا قطعة الكانفاس وتزكم أنوفنا رائحة الألوان، كانت تستثيرك، أما زالت تعبق في ذاكرتك تلك الروائح؟
بالمناسبة، أتذكرين قطعة الكانفاس والأنابيب الزيتية الخمسة التي أهديتنيها في عيد ميلادي، وقلتُ لك إنني لن أستخدمها قبل أوانها؟ لم أشعر بأن أوانها قد أتى ولكنني خفت ألا يأتي أبداً فبدأتُ أرسم بها يوم رحيلك، وأفرغت آخر ما فيها صباح اليوم. وصدقيني يا سلمى، هي أجمل ما رسمت، سأصورها وأرسلها إليك عبر الإميل.
الألوان الخمسة جميلة جداً، ليست من النوع الذي تعودتُ عليه، أستطيع أن أشتري بسعر واحدة منها سبعة أنابيب من تلك الرخيصة التي تعودتْ لوحاتي عليها، لم أعرف بأنك تكلفتِ ثمن الألوان إلا حين ذهبتُ إلى السوق قبل أيام لأشتري منها، ولكني لم أفعل. أخاف أن أتعود على ألوانك هذه فلا أرسم إلا بها، على أية حال لم أقرر بعد لمن الأولوية في هدر ما في جيبي، لها أم للعلاج الذي سطا مصروفه على نمط حياتي.
اسمعي، احتجت مرة لوناً بين الفستقي والأصفر ولم أجده، فأفرغت مرهماً في فنجان وخلطته بقطرتين من زيت الزيتون، الفلسطيني لا الأسباني، ودهنت اللوحة به، تضحكين ها؟ لم ينفعني كثيراً هذا اللون لكني احتجت إليه لبعض التفاصيل.
أتكلم كثيراً عن لوحاتي، أعرف أنك تحبين ذلك، أنت الوحيدة ربما، بل أكيد أنك الوحيدة، أصدقائي يمقتون ذلك. تعرفين؟ اللوحات هذه تحفظ ذكراي بعد موتي، لا أقول تخلّدني فلا أحب لصق مثل هذه الصفات العقيمة بها، لن تحتملها، هي مثلي ومثلك لا تطيقها، وهي بسيطة، وأكثر وهناً من أن تخلّد، لكنها قد تذكّر أحداً ما براسمها، لا يهم إن كان يعرفني، فلا يعرفني إلا نفر من مقتنيي اللوحات الرخيصة التي تباع على الأرصفة، لكنني متأكد أن أحداً ما سيعجب بها ويشتريها بعد موتي بعشرات السنين ربما وسيسأل عمّن رسمها. قد تزداد قيمتها بعد موتي، وكم سأكون فخوراً بها حينئذٍ، وسأحب أن أنهض من رقادي لدقيقة أقول فيها للعالم إن من رسم هذه اللوحة يحبك أنت يا سلمى، انظروا يا عالم إلى اسمينا.
أرسم كثيراً هذه الأيام، أرسم وأنهي رسمة قبل جفاف سابقاتها، أشعر بأن هنالك لوحات عليّ إنجازها بأسرع وقت. متى ستأتين لترينها كلها. اشتقت إليك، والله يا سلمى.
احكِ لي عما تفعلينه هناك بين الرماد والضباب، اكتبي لي يا سلمى، لم تراسليني منذ فترة، أين أنت؟ حتى إنك لم ترسلي رقم هاتفك هناك، هل تيسّرت أمور المنحة وأصبحتِ طالبة ماجستير في .. ما كان اسمها؟ علوم تغذية؟ اسم الله عليك، سترجعين وتفصّلين طعامي على كيفك؟ ينقصني ذلك أنا؟ اقطعي دراستك إذن وارجعي. طيّب، سأسمع كلامك هذه المرة، أريد أن آكل كما تأمرين ولكن ارجعي. اشتقت إلى حضنك يا ملعونة.
راسليني، بدأت أقلق، سأرسل هذه الرسالة إلى بريدك الإلكتروني كما سأرسلها ورقياً إلى بريد الجامعة. سلمى يا سلمى، كم أحبّ اسمك.
يا مهبولتي، لم أحرك شيئاً في شقتي، أنتظر عودتك في حزيران، لن نترك شيئاً في مكانه. أتعلمين؟ حين ترجعين سنعيد ترتيب الديكور كله، لم أعد أطيقه ولا أطيق ترتيبه من دونك، ولا حتى إزالة الغبار الذي لا أطيقه أساساً.
الموت يسكن الشقة يا سلمى، الأضواء بالكاد أشعلها، التلفزيون مطفأ منذ شاهدنا آخر فيلم معاً قبل رحيلك. أتذكرينه؟ كان اسمه… إمممم نسيت لكني أذكر البطلة جيداً، مونيكا بيللوتشي. لستُ مثلك مهووساً بالأفلام، لكني أحببت الإيطالية والفرنسية منها لأجلك، أو بسببك، كنتِ تحكين لي سيرة المخرج والممثلين قبل الفيلم، وكنتُ- أعترف لك الآن- أتظاهر بالاهتمام، ولم أكن أفهم شيئاً من كلامك. كنت أهزّ رأسي كي لا تتوقفي عن الكلام، وكنت أنظر إلى شفتيك تتحركان، أنفك، عيناك يا سلمى، آه من سطوة عينيك! أتذكرين حين قبلتك في عينيك وسألتِني بخبث كيف أقبل عينيك وشفتاكِ لا تبعدان كثيراً عنهما؟ آه لو عندي مليون فم لأقبلك مليون مرة في مليون موضع في آن معاً.
كم أضعنا من الوقت وأنت هنا. اشتقت لفخذيك سلمى، تبتسمين؟ أعرفك ستبتسمين وتعضين على شفتك وتزيحين قتامة عينيك وكحلهما وتدّعين الخجل من كلماتي، الخجل الذي يتلاشى كلياً بعد لحظات لأسمع لهاثك. أعرفك أكثر من ذلك يا ذئبتي، تحبّين حديثي حين يستقي مفرداته من جسدك، كم تحبين جسدك وكم أحبك تحبينه هكذا، وكم أغرقتني في غمام فخذيك البضّتين لأخرج بمزاج رسمٍ صباح اليوم التالي.
بالمناسبة، لم أركِ ولا مرة تزيلين الشعر عنهما، أخبريني، بالشمع أم بالشفرة؟ تزيلينه بنفسك أم في الصالون أم في عيادة ما بالليزر مثلاً؟ علّي أن أخبر نساء أخريات كيف يجعلن أجساد رجالهن تزحط على أفخاذهن، وتتساقط كالقذائف على كامل أجسادهن.
أتعرفين يا سلمى؟ لوحاتي الإيروتيكية التسع رسمتها بعد ليالٍ غرقنا في حلكتها سوية في سريري المتهدّل بصوته النحاسي، وزقزقته تتناغم مع موائك وصوت ارتطام جسدينا. وفي الصوفا البيج التي انقلبت بنا، وسيراميك أرضية المطبخ السماويّ البارد، وزاوية الصالون خلف الكنبة حيث تركنا البيت كله وانحشرنا في أقل من متر مربع، ما الذي أوصلنا إلى هناك، تساءلنا حين انتشينا، وضحكنا.
هذه اللوحات كلها أنت يا حبيبتي، بقع من دهن لحمك وعرقك على أغراض بيتي، وقطع من أشلائك المترامية على جسدي وروحي، والآن فقط على لوحاتي. لم أخبرك حينها بأنها أنت كي لا تختصري زياراتك.
لطالما أخبرتِني بأن لا أرهق نفسي في الرسم كثيراً، وأن أبتعد قليلاً عن رائحة الألوان، وأن أحرّك جسمي أكثر قليلاً وأتمشى على الكورنيش، وأن أخرج من عتمة البيت وأجعل الشمس تراني، وأن أخفّف من المشروب و و و. ماذا يفيدني المشي اليوم يا سلمى، كنتِ تكذبين عليّ حين تقولين إن المشي مفيد للدم، يجدد الدورة الدموية، ما يهمني أنا إن تجددت دورة دمي أم لا ما دام الدم هو هو لن يتغير.
كم يؤلمني أنْ، حقاً، أكره دمي. أنظر إليه بازدراء كلّما رأيته ينزّ من إصبعي أو لثّتي أو حبّة على رقبتي.
يا ربّي..
الجيد في الكتابة أن هناك دائماً فرصة للتوقف إن نرفزتُ، أعتذر لك عن كل لحظة رفعت فيها صوتي عليك، كنتِ دائماً تمتصين مزاجيتي ونزقي وغضبي وتحتوينني. كنتِ تبكين حين أصرخ. كنتِ تشفقين علي وهذا ما كان يذبحني يا سلمى ويجعلني أصرخ أكثر وأكثر وأكثر.
أكره كل العالم يا سلمى، أكره الدكنجي والناطور وكل جيراني وأهلي وأصدقائي، أكره كل الناس في الشوارع. وأكره كل قطرة من دمي. أمقت الطبيب، وأمقت نفسي أكثر يا سلمى، وأحبك أنت، فقط أنت، لم يبقَ لي غيرك أعيش لأجله. كل الحب الذي أستطيعه سكبته كله في روحك وجسدك، نفد، ولم يبقَ منه شيء بعد رحيلك.
اشتقت إليك ولم أعد أطيق شوقاً أكبر.
ولك اشتقتلك
اكتبي لي.
غسان

===========================
قصة من «كرز

henri-matisse-odalisque-chaise-turc
صورة مفقودة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى