قصة ايروتيكة ليلى بعلبكي - البطــل.. قصة

بدأت المشكلة بكلمة صغيرة: (قبِّليني).
وبدون انتباه، أسرعت فوراً أسأله، أداعبه: (ولماذا أقبّلك؟ ماذا فعلت؟)
ثم ماتت الابتسامة في عينيّ، وسرى فيهما توتر توزّع في كل الجسد. ورفعت نظري إليه؛ كنت أجلس على كرسي صغير من القصب، وكان ينتصب أمامي يدير ظهره لباب المدخل، يعض شفته السفلى؛ فرحه برؤيتي لا زال يلمع في يديه الممدودتين صوبي، ينحني ظهره قليلاً فوقي، يهمّ باحتضاني. في هذه الومضة السريعة من الوقت، استطعت أن أتخيل.
لا، لم أتخيل. رأيت الممر الصغير خلفه قد تحول إلى طريق طويل، طويل، يتمدد في السهول، يخترق الجبال، يلفّ حول الأنهر، ينحدر على شواطئ البحر، يتغلغل في المدن الكبرى، يتهادى في غابات الأشجار الوارفة العطرة، ثم يقفز منها إلى بيتي. وهاهو وصل؛ وصل البطل إلى الحاجز الأخير، صفقوا له؛ قطع البطل المسافة برفة عين؛ هاهو البطل، سيارة السباق سليمة؛ هاهو البطل، وهذه هي حبيبته تهجم إلى عنقه بباقر زهر، تقبّله.
نهضت على الكرسي ودفنت وجهي في رقبته. فهمس لي انه متعب، لم يجد وقتاً ليأكل؛ كان يركض كل النهار، يطير؛ باع بضاعة بأربعة آلاف ليرة. وأوقفني أمامه وحمل وجهي بيديه. حزن لم أعرفه من قبل يعصر قلبي فيؤلمني. وأظنه لمح تغير اللون في وجهي، فسألني إن كان يزعجني أن نصبح أغنياء، فلم أجب. وأذكر إن الصمت ظل مطبقاً على فمي طوال السهرة. وكان مرهقاً؛ نام وحده.
ولم أعد أتحمل أن يلمسني. صرت انظر إليه بسخرية: رجل شاب عادي، يملك صحة متينة، يستيقظ في الصباح، يشرب القهوة، يستحم، يلبس ثيابه، ينزل إلى المكتب، يرجع ظهراً، يتناول طعامه ثم القهوة ويستلقي قليلاً على المقعد، ثم يذهب إلى المكتب. وفي الساعة السابعة يصل من جديد إلى البيت، يشرب قدحاً من الكحول، نتعشى في مطعم في المدينة، وندخل إلى السينما أو إلى أحد المراقص، وننام.
والتفتّ إلى الوراء، إلى ماضيّ معه، فأدهشني عدد الأيام الكثيرة التي هربت ونحن ندور في مكاننا. وجننت أكثر عندما فكرت بعدد الأيام الممكن أن تمر فوقنا ونحن ندور في مكاننا. ولم أعد أتحمل؛ صرت أتعذب، وأتساءل إن كان هذا الرجل يعجز عن التطوع للذهاب في رحلة في الفضاء ويكون الرجل الأول الذي ينزل على سطح القمر -القمر؟
ليته يقوم بهذه المهمة. وعلى الأرض، البشر والحيوانات والأشجار على الأرض تخطف أنفاسها، ترفع أعناقها إلى فوق بحذر، تراقب دورانه بين النجوم؛ يخترق الضوء، يتجاوزه، يسبقه؛ والحجارة على الأرض تنحني، الحجارة التي كانت هي الآلهة تصلي؛ خلفها بقية الموجودات والبشر يرتلون، يعدون بنذر كبير إذا وصل إلى الكوكب سالماً، وإذا عاد إليهم سالماً يعدون بنذر أكبر. وأنا على شرفة بيتي قلقة: إذا استقبلته الجموع هناك، في القمر، وقدمت له حسناء فاتنة باقة من الزهر وقبّلته، سحرته، أغرته بتمديد زيارته، بأن يستوطن -ماذا أفعل؟ وتتسارع دقات قلبي، ثم تبطئ. وهاهو هاهو البطل يعود؛ وتضج الأصوات، تنبع من كل فم ومن كل شيء ومن كل مكان؛ هاهو البطل، ويعلو الغناء وتعلو الهتافات والموسيقى، ويهطل الزهر من السماء، ينبع الزهر من الأرض. وأرمي نفسي من الشرفة ليتلقاني بين ذراعيه، واقبّله أقبّله أقبّله، والأصوات تشتد والحماس يقوى والأرض تضج.
وبدأت تلاحقني الأصوات. ولم أعد أسمع ما يقوله لي؛ صرت فقط أرى حركة شفتيه، وأراه بين الجموع؛ أتخيله صغيراً، صغيراً. ولم أتنبه لما يحدث له، وما يحدث لي؛ كنت غائبة.
وبعد مدة قليلة، في صباح، لم ينهض باكراً، ولم يحضر القهوة ويوقظني لأشربها معه كالمعتاد، ولم يرتدِ ثيابه ليذهب إلى عمله.
كان يجلس على كرسي في غرفة النوم يراقبني نائمة. عندما تحركت وفتحت أجفاني ورأيته، كدت أشهق؛ ثم اعتقدت إنني أحلم، ففركت عيني، وعدت وتمنعت بالكرسي. وبخوف سألته: (ماذا حدث؟) وببرود أجاب: (عندي عمل أهم هنا). وتبسمت بخبث وأنا أفكر: إن كان هذا الرجل يعجز عن الانتصار في القمر، فلماذا لا يحقق شيئاً كبيراً يغير مجرى تاريخ الأرض؟ ثم قلت له: (أتمنى أن يكون هذا العمل اليوم بطولياً). فصرخ، ولأول مرة أسمعه يصرخ: (لا تحاولي التهرب، أود أن أعرف سبب خوفك والكمد وارتجاف جسدك نفوراً كلما لمستك. هل هناك رجل آخر؟).
صعقت. فتحت عيني. ورجعت إلى وعيي قليلاً. قليلاً. قليلاً: (رجل؟ أي رجل؟) وقفزت من الفراش، ومددت يدي إلى وجهه، وصرخت: (هل تعتقد إنني أخونك؟ أنت سيئ. سيئ).
وامسكني بكتفي وشدني فآلمني، تأوهت. وبصوت مثقل بالكمد متقطع، قال انه يعجز عن الاستمرار هكذا، ولا -لا يمكنه أن يتحمل المراوغة والتستر والكذب، وانه ليس غبياً كما أظن، وإني يجب أن أصارحه، أتركه.
وصمت. ورفع وجهي إليه، وانتظر.
وهبطت في الحاضر. هو قذفني فيه كأنني طابة. وكالطابة صرت أرتطم بالأشياء، ثم أعلو في الفضاء، وألمس الطاولة والجريدة فوقها، وصحون السجاير، ومفتاح الخزانة في الحائط، واللمبة في السقف. ثم صرت أسمع صوت ارتطامي بالأشياء، وأسمع بكاء طفل في بيت مجاور، وزمامير السيارات في الشارع، وهدير المصعد وهو يسحب في جوف البناية من فوق إلى تحت، من فوق إلى تحت. وأصبت بالدوار، فعصرت عينيّ ثم فتحتهما، وسمعت صوت تنفسه الكثيف، ودقات نبضه على ظهري. وصرت أرى؛ رأيت ارتعاش أجفانه، والرجفة على شفتيه، واللمعان القاسي الحاد في أغوار عينيه، والشقاء. رأيت الشقاء على رقبته يتدلى من ذقنه، ويتوارى في صدره؛ فخطر لي أن الحسه بلساني من فتحة بيجامته، واجففه إلى الأبد.
هزني بعنف. (تكلمي. تكلمي).
ارتبكت، وضعت؛ كيف أشرح له إن ما يأكلني وينغل فيّ إنما هو: هو، هو الآخر، الذي أحلم أن يكونه؟
تلعثمت، وتمتمت أرجوه أن يفعل شيئاً، أن ينقذني. فاهتاج وردد بقسوة: (أنقذك؟ أنقذك؟). وتذكرت المساء الذي كنت فيه معه نشاهد مسرحية، الأسبوع الماضي بالضبط؛ تأكدت وأنت أتتبع حركة الأشخاص والحوار إنني أستطيع أن أخونه بكل بساطة مع مؤلف المسرحية، ومع الممثل.
وعاد صوته يسلخني من حلمي، ويعيدني إلى وجهه الذي بدأ يزداد اغبراراً وقسوة: (ممن تريدين أن أنقذك؟ ممن؟) وشعرت إني أتزحلق، أنزل إلى تحت؛ يشدني هو إلى هوة لا أعرفها، يتهمني. فتملصت من قبضة يديه. وصرخت انه مختل، وإنني أرفض أن يحمل في رأسه هذه الأفكار القذرة عني. (أرفض. أرفض). وهو بلا حراك يتفحصني. بلا حراك. وبصوت خافت رجوته: (يجب أن تفعل شيئاً). وفكرت إنني لا أريد أن أخسره.
وأيضاً زمجر: (ماذا أفعل؟ هل أنا أظلمك؟ هل أنا أهملك؟ هل أنا أجوّعك؟ هل أنا أعشق عليك؟).
انه يتعذب. وأيضاً يبعثر أفكاري. (إنني أتعذب كالحيوان). لا، انه يتعذب كالبشر. لم أعد قادرة على أن أوصل نظري إليه. فخبأت وجهي براحتي. كيف أشرح له موقفي؟
ولم يعطِني فرصة لأستريح. عجّل يشدني من خصري، يمد أصابعه في شعري، يرفع وجهي في الفضاء ويأمرني: (والآن اعترفي. قولي الحقيقة. ماذا أصابك؟) فقلت: (إنني أضجر).
كأنني صفعته، كأنني ضربته بسكين في حنجرته. أطلق (آه) عميقة، دامية، خافتة، ثم ردد على مهل وبتهكم: (هكذا إذاً، بينما أنا أعرق وأناضل وأركض لأزيدك رفاهية وسعادة، أنت تضجرين؟).
لا يمكنه أن يفهم. ثم كيف أشرح له ما أعنيه؟ سأحاول.
مرة أخرى، لم يمنحني الفرصة، فقال بغيظ: (وهل تريدينني أن أعمل لك مهرجاً؟ أن أرقص الأفاعي. أن أصارع الثيران. أن أجتاز سباحة بحر المانش. أن أصعد إلى قمة هيمالايا. أن أشعل ثورة في البلاد. أن أغزو القمر. أن أقفز على رجل واحدة. أن أنام على عامود الكهرباء. أن أتشقلب على رأسي. أن أفعل كل هذا لأسلّيك؟).
كيف؟ كيف يمكنه أن يخلط الأعمال الكبيرة بالأعمال المبتذلة؟ ورماني بعيداً، لا أجرؤ على قول الحقيقة له. سيتهمني بالجنون. ثم صرخ: (ماذا تريدين مني أن أفعل؟)
فاغتنمت الفرصة وتشجعت وأجبت: (أي شيء غير ما كنت تفعله حتى الآن). فذهل، واستحال إلى تمثال؛ ثم تحرك ودار قليلاً في الغرفة، وأشعل سيجارة، وأدار لي ظهره. ثم استدار يواجهني، يتكلم: (بقي أمر واحد فشل فيه الإنسان على الأرض، هل تعتقدين أنني مؤهل أنا لأن أنجح فيه؟)
غمرني الفرح. وبغباء سألته: (ما هو؟)
أجاب: (اكتشاف لقاح ضد السرطان).
هززت رأسي بانكسار. وغمغم هو: (فهمت. فهمت. مات الحب. مات).
لا أدري ماذا فهم. ترك الغرفة ولم يدخلها بعد ذلك أبداً، ولم أعد أخرج منها. كان يسكر كل ليلة ويعود إلى البيت متأخراً ويتركه باكراً، ولم يعد ينظر إليّ ولا يلمسني.
وفي يوم (فعل شيئاً):
لم يرجع إلى البيت، وطلب الطلاق.
ومنذ فترة الاستقلال، منذ أصبحت وحيدة، وأنا أبحث عن بطل.


.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى