قصة ايروتيكة ناصر الجاسم - الثائرة

جاءت إليه في الليل البهيم يبلل ثيابها المطر، تحمل بين ثنايا ضلوعها قلب رجل وعاطفة أنثى متدفقة، فهي جسورة، الخوف لا يعرف طريقاً إليها، ولا للحياء مكان في قاموس حياتها، فهي تتندر بين زميلاتها في الصف بنكت كاشفة وتستلذ لطابور السيارات الذي يدشن فترة خروجها من المدرسة في طريق عودتها إلى البيت، ولا ترفض دعوة للجنس بشرط أن يكون الداعي كالبهيم ذي شهوة عارمة متجددة وتكشف عن ذلك بتبجحها الدائم حين تقول: إنها بحاجة إلى رجل لديه القدرة على أن يضاجع ثلاث نساء في ساعة واحدة!

استقبلها ببرود تام إذ إنه تعود مثل تلك الزيارة منها، وهالهُ في البدء تورد الخدين وابتسامتها الصفراء التي لا تخلو من سحر أنثى مصطنع، حاول أن يتظاهر بثقل زيارتها فمدّ شفتيه للأمام قليلاً قبل أن تطأ أول قدميها دهليز المنزل، فأفسدت عليه مشهده التمثيلي حين غمزت له بعينها اليسرى وارتطام كتفها الأيسر بكتفه الأيسر، فأصابه بعض الارتباك حين تذكر صورتها المنتصبة على منضدة سرير نومه، فحاول أن يسبقها إلى غرفة نومه ليواري صورتها عن ناظريها، ولكنها كانت أسرع منه، حين رآها قد ألقت بجسدها على سرير نومه ويدها ممتدة على المنضدة وباغتته بسؤال وهي ترفع خصلة من شعرها البني قد انسدلت على عينيها فقالت: هل كنت تحادثني غيابياً أم تقبّل صورتي كما يفعل مراهق جائع ؟

فدهش من السؤال ثم رد بإجابة سريعة متأخرة كانت خلالها قد أعادت الصورة إلى مكانها:
- لقد كنت أكتب
- تكتب ماذا؟
- همي الذي أعاني من؟
فأضافت: نحن- المبدعين- الكتابة بالنسبة لنا هم يومي لا بد أن نقتاته. ثم بادرت بسؤال أكثر مباغتة فقالت: وما علاقة صورتي بالكتابة؟ هل أنا ملهمتك أم زائرة ليلك؟


شعر باختناق من جراء سؤالها ففتح أزارير ثوبه فقرأ التلهف في عينيها لرؤية شعر صدره العنيد فرد باقتضاب:
- أنت زائرة ليلي فقط
لا بل زائرة ليلك وملهمتك هل نسيت قصائدك التي كتبتها من أجلي؟ هل طمرت خواطرك التي تغنيت فيها بجمالي بين ركام أدبياتك يا أديب زمانك ؟
فقال: أنت غريزية تحتاجين إلى جسدي فقط.
فردت بثقة مفرطة: أنت أناني كمثل باقي الرجال الذين عرفتهم
- إذن لا فرق بيني وبينهم
- أنت مميز في أدبك ضعيف في فراشك


شعر بالنقص فانتهزت هذه الفرصة واستغلت هذه الهزيمة السهلة وبدأت تمارس أدوار الإغراء، ففتحت أزارير قميصها الوردي: كأنها متضايقة من حديثه، وحتى لا يتهمها بالدعوة الصريحة للجنس، حاول أن يمارس قدرته في الإقناع وقوته في طرح الأسئلة الجديدة فقال:
- لماذا تكتبين؟ وأردف:
- لا بد أنه لكسب مزيد من رفاق الليل.


حينها تأكدت من ضعف سلاحها الإغرائي الأول أمام سؤاله، فهاجمته بسلاح أقوى تأثيراً، فتقلّبت على سرير نومه وهي تلحظ عينيه الزائغتين واستقرت على جنبها الأيمن ورمقته بنظرة تحدٍ وقالت:
- أنت واحد منهم.. هل تنكر إعجابك بكتاباتي وثناءك عليّ في أكثر من صحيفة وعند أكثر من أديب متطفل من أصدقائك الليليين.
فرد بامتعاض شديد: أنت متمردة على كل شيء على الدين وعلى العادات وعلى التقاليد..
- أنت لا تحسن الوصف.. أنا متحررة وهناك فرق بين التمرد والتحرر.


فقال: لا بل متمردة ودليل ذلك غرامياتك المعلنة!
أيقنت أن سلاحها الثاني لم يؤتِ ثماره، فدعته للجلوس وقالت: اجلس فانت بحاجة إلى راحة، ففي الغد ستحاضر أمام طلابك يا صاحب الأدب المزيف.


انصاع لرغبتها، ففي الدعوة شيء يحفظ صلابته ويداري رغبته، حاول التمدد جانبها بثيابه فنهرته قبل أن يلقي بجسده المنهك على السرير:
- ألا تعلم أنني أكره النوم بالثياب .
فرد بغرور: إني لا أحسن الحوار إلا بثيابٍ رسمية هكذا اعتدت أمام أساتذتي في الجامعة..
فأجهزت على غروره بابتسامة آسرة لا تخلو من ميوعة قاتله وواصلت:
- ألا تعلم أنني عشيقتك ولست أستاذة لك؟
ارتعش جسده، وتمزقت صلابته، وتجرد من جميع أسلحته، وسقطت على السرير كل مكابراته، ففكر في دفنها في هذا الجسد المستدير فتعرى في فراشه وساعدته في التعري حتى بدا كالوليد، فاطمأنت لخضوعه واستكانته، ولكنها احتشمت بعض الشيء وسترت مواطنَ معينة كسبيل للإغراء وللاحتفاظ بالسيطرة..


تنبه لخبثها المحير، وحاول أن يمسك زمام القيادة من جديد ففاجأها بسؤال ماكر وهو يلتحف بغطائه الوثير وعيناه تحدقان في سقف الغرفة دون أن يلتف إليها:

- إذا لم تكوني متمردة ولست بمتحررة فبماذا تفسرين نزواتك وطيش جسدك؟
- أنا ثائرة!!
- مصطلح جديد لم أتوقعه.
- إنني كذلك، فما حسبك أن أكون؟
- ثائرة من ماذا وعلى ماذا؟
- ثائرة من نفسي وثائرة على أبي؟
- كيف تتحقق مفاهيم الثورة وأنت قبلية؟
- لا تتحدث عن القبلية!.. إنني أكره تلك المفردة الحقيرة، إنها تأخر، تخلف، عودة إلى الوراء، عيشة في الكهف بعيداً عن النور في دياجير الظلام، تلتف حول الجسد وتعيقه عن الحركة، إنها تلغي دور العقل وتبطله.
- لماذا أخترت أباك بالذات؟
- تصور أنني أكرهه، لقد قتل كل من في البيت، دمّر نفوسنا جميعاً ما عدا أمي دهر صحتها فقط
- كيف ذلك؟
- إنه قاس صلد كالحجر، زاعق ناعق، تصور إننا نراه يحمل أمي إلى أعلى ويلقي بها على الأرض دون أن تبدي مقاومة، ونحن عاجزون عن فعل شيء عدا البكاء، لقد سبب لها مرض السكر والضغط ولا زال راغباً في أمراض أكثر فتكا، إنه مصارع لا زوج ولا أب، إن أبي نوع من الرجال اللذين لا يؤمنون بتلك الآية "ولو كنت فظاً غليظ القلب لانفضوا من حولك".. تصور أنه تبرأ مني واعتبرني ابنة غير شرعية، وكثيراً ما ردد ذلك على مسمع من أسرتي عند الغداء والعشاء لقد شككني في نفسي وفي أمي الطاهرة.
أخي الأكبر أدمن السكر حتى مات في حادث سيارة وهو ثمل وتبعه في الهروب من واقعنا المرّ أخواي الآخران، تعاطيا المخدرات وضُبطا وفُصلا من عملهما في شركة البترول وسجنا، الأول خرج بلا عمل والثاني ما زال في السجن يسدد ما تبقى من أقساط الظلم التي استدانها من أبي.
وأختي الكبرى فشلت في دراستها الجامعية بعد أن عجزت عن حمل أرتال الألم فكيف لا تريد مني أن أثور على أبي؟
آه لم أنسَ أن اقول لك أن أبي يغازل الخادمة أمام مرأى أمي وفي حضرتها، إنه لا يعرف شيئاً اسمه الشعور أو ما تنشده أنثى من حنان؟


قطع عليها استرسالها في الحديث عن ثورتها على أبيها وكأنه كره المزيد وخشي من أن تنطفئ رغبته فقال:
- قد أقبل منك ثورتك على أبيك وأبررها حسب مفاهيم علم النفس المعاصر، ولكن كيف أغفر لك ثورتك على نفسك؟
- ألا تذكر أيها الأديب قول شوقي:
خدعوها بقولهم حسناء والغواني يغرهن الثناء


وكأنها تقول أنا الغانية التي قصدها شوقي في بيته الشعري، فنظر إليها بإمعان وتفحصها ملياً، ورآها فعلاً غانية مستغنية بجمالها عن كل أنواع المساحيق والماكياج، وكأنه للمرة الأولى يراها، عينان واسعتان في وجه أبيض كما الشهد، يميزه أنف جميل يستقر عنده النظر، وثغر وردي باسم به شق جميل في الشقة السفلى في المنتصف، لم ينتبه لضيقه من قبل، ونزل ببصره على الجيد ورآه أجمل ما يكون وتوقف كثيراً عند الصدر الناهد، فأعجبه التشكيل الربّاني الجميل، ووضع يده على الخصر فلم يجد من الكلمات ما يستحق أن يصفه به وتوقف عند موطن الستر وعاد ليسال:

- ولكن كيف دعاك مثل هذا الجسد للثورة وهي أخطر شيء على المرأة؟
- السبب أبي وليس جسدي.
- لقد كرهت أباك لا تتحدثي عنه.
- لقد قلت لك إن أخي الأكبر أدمن السكر بسبب أبي، والسكر عادة لا يحلو إلا مع الرفاق أو النساء، وكانت ليلة حمراء أحياها أخي في منزلنا مع رفاقه فتسلّل الى أرضية البيت واحدٌ من رفاقه فرأني في وضع مغرٍ، ولم يشأ الصبر فما جاء الصباح حتى اقتادني من الشارع عنوة وقسراً في وقت ذهابي للمدرسة فلم أستطع المقاومة، لقد كنت صغيرة في الرابعة عشرة من عمري فاغتصبني وكانت البداية في سلك طريق الخطيئة والانتقام من أبي ومن قبيلتي بدس أنوفهم في التراب..
- ألا ترين أن الانتقام بعرض الجسد على الجياع طريق خاطئ؟
- لا بل إنه أفضل السبل؛ حاولت الانتحار ولكن الله لا يريدني أن أموت ابتلعت كمية من الحبوب والكبسولات التي تعالج بها أمي ولكن في اللحظة الأخيرة أنقذوني وكانت فرصة ضائعة.. وأصبت بحالة هستيرية فكسرت زجاج نافذة غرفتي حتى تلطخ الزجاج بدمي وتجرحت يداي وبقيت أنزف ليلاً كاملاً ولكنهم في الصباح أنقذوني وضاعت فرصة ثانية.
لجأت إلى ربي وأعلنت التوبة وقرأت كتاب المرأة المسلمة والحجاب وفتاوى النساء والصحيحين وكونت مكتبة جيدة من الشريط الإسلامي، ولكن توبتي كانت غير نصوح ففي نفسي ثورة عارمة، وأصبحت أعاني من جوع في الجسد، فلم أستطع الصمود وها أنا ذي الآن مستقرة على صدرك وفي حضنك.


حاولت أن تضفي على الجو الرمادي نوعاً من المرح فقالت:
- هل تريدني أن أتوب حقا يا صاحب الغش الأدبي؟ يا مدعي المبادئ والقيم؟ أنت مثلي ثائر ولكن ثورتك لا تكتب في تاريخك ولا تاريخ عائلتك فأنت وجل وأنا امرأة، أنت لك الحق في الثورة وفي تلبية نداء الغريزة أما أنا فلا..
حاول أن يغير مجرى الحديث فقال:
- أنت وقتية في مشاعرك!
- تقصد بأنه في إمكاني أن أتوب ؟!
- لِمَ لا ولديك غذاء الروح؟
- تقصد القرآن؟ كيف تتحدث عن القرآن وأنت زير نساء فاسق عربيد؟


سكت أمام جوابها وخرس! فسلّت السيجارة من فمه وأشعلت آخر سيجارة في علبة دخانه، وبدأت تدخن بأنفاس عميقة في ارتياح تام وكأنها انتصرت عليه.


ناصر الجاسم
قصة قصيرة من المجموعة القصصية هكذا يرفس الحب


79.jpg

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى