قصة ايروتيكة جلال نعيم - الماموث

هي ذي ترسم ، على وجهها ، علامات الرغبة ، باحتراف ، وتلتفت اليّ . التقط الطُعم راضياً وأخطو نحوها ، ترتبك خطواتي وانأ أحاول أن أقلّد الآخرين باستعراضيتهم ، على طرف المسرح نلتقي ، أغرز سبابتي على فخذها ، بين سبابتي وجلد ما فوق ركبتها يستلقي دولار واحد ، تستلّه هي بينما اسحب سبابتي ، تمسح به تكويرة فخذها اليقظ ، تمثّل نشوة عناق المال بالجسد وكلاهما يمثلان المشهد في حفلة غير تنكرية ، تكوره مثل سيكارة ثم تنشره كبساط ، تتخذ منه أداة للأستعراض ، المهم هو جسدها بمفاتنه التي لا يعلق بها شيء سوى العيون ، العيون التي تتطلّع بفضول هو أكبر من الإغراء ، أو هكذا بدا الأمر لي ، تشمّمه مابين فخذيها ، تمرّغ انفه هناك ، ثم تفرجه ليصبح مثل سكين لاهثة ، تتركه ليتسلّق جسدها الناحل ، ترفعه الى سرّتها المندرسة باحتفالية راقصة ، تطوف به حول حبة بندقها ، ثم لتأخذه في رحلة لابد وان ترسو بين نهديها ، نهدان صغيران وحلمة مدبّبة ، هكذا تسترجع "الحلمة" و"الحلم" همّهما العربي ، وكأننا لا نجرؤ على لصق تاء التأنيث به فيظل معلّقاً هكذا : حُلُم ..حُلمة ، لغة وكابوساً يخترقان رأسي ، رأسي الممتليء بطعم البيرة ، البيرة التي اشربها في البار المجاور لأعود .. أعود الى حفل الأجساد في عريها المتكامل حدّ الصمت ، صمت الرغبة التي تعتلي الوجوه ولا تبقي في الفضاء غير دوي الموسيقى، الموسيقى التي تعانق رأسي مثل إسطوانة قديمة ، اشمّها ولا أراها ، على نافذة فرن (الصمّون) ، حيث البرد يشعّ من كلّ العظام سوى نافذة المخبز وتلك الصبيّة ، الصبيّة التي لا تبعد غير أصابع عنّي ، والتي ما ان اقتربت منها حتى راحت تنحني وتنتصب مثل فراغات اعماقي المراهقة التي ما كنت أعرف لها مبرّراً ، فراغات أعماقي التي ما كنت أفهم لماذا تسلّلت الى سمرة عنقها ، وراحت تلهب فيّ وكأني شخص لا أعرفه ، ولد معها او فيها ، وراح يحنّ لملاصقة الجسد بالجسد في عراء ذاك البرد البغدادي ، ذاك البرد الذي لا يشبه احداً غير حزنها ، حزنها الذي ما فهمت شيئاً منه ، فلا سواد ملابس امي يفسره ولا عيون المخذولين ، تطوف بهم الشوارع كما كان يطوف بي ابي بسيارته القديمة وأحاديثه المبتورة ، فلا أعرف يحب مَن أو يكره مَن ، ولا أعرف ان كان يقف ضد أحد غير جزعه الذي يتضح احياناً مع تراكم البيانات وإحتلال شاشة التلفزيون من قبل "الماموث" ، "الماموث" الذي لم يعرف "اوديب" سرّه ولم يرديه قتيلاً على قارعة الاسطورة ، الإسطورة التي إحتالت الى كابوس نحياه ، كابوس لن يتكشف بغير ملامسة الصبيّة المنحنية ، التي ينفث جسدها رائحة دخان مدوّخة تستدرج اعضائي البكر ، فما أعود اميز بين شهوتها ورائحة الصمّون ، الصمّون الذي لا يعرف دفئه أحد هنا ، في مدينة كبيرة يسمونها "لوس أنجلس" او يفاخر بعضهم بتسميتها "هوليوود" ، المدينة التي تمنحكَ كل شيء سوى ذاك الحنان المفتقد ، الحنان المشرد الذي ما عاد له مأوى .
هل أخذ دولاري طريقه لطراوة شفتيها ؟ شفتاها المبللتان بالفسفور ، الفسفور الذي يلتمع ليغتال شيئاً من رغبتي ويهيّج فيّ ذكرى رائحة قديمة ؟ نعم .. نعم ، عندما رصّونا مثل كتلة كبيرة من البشر ، في تلك الغرفة المظلمة الباردة (وكيف تكون السجون إذن ؟!) العيون مكممّة تماماً ، وكأنها قد تعدي حقارتهم بمحبّتها ، وألأذرع مقيّدة للظهر ، ينتقون ثلاثة ، يسحلونهم الى ظلمة مصيرهم وينسحبون ، يقفلون باباً لم يره غيرهم ، تبتعد الخطوات ليعلو الصراخ وكأنه يخرج منا او ينبع فينا ، نحن المنتظرين هنا ، وكأن لا مدن هناك ولا خرائط ولا من يتنفّس على رقعة الخراء هذا الذي يسمونه الكون مَن يعبأ بنا ، ان نتنفس أم لا ، أن تسحق أفواهنا بالأقدام المدرّبة على التسديد من كل زوايا العالم الى انوفنا ..؟
البرد يتكاثف مع الصمت المتقطع ، ومعهما تنبت حواس جديدة ، تتشكل فجأة ، تتعرف فيها على الآخر من لوعة أنفاسه ، خوفه أو حزنه وتنهداته ، لايمكنك الجزم بدوافعكَ ألآن ولكن همس رائحة ما ينادي ، هناك ايضاً أو فيك او ربما غير بعيد عنك ، تزحف بمؤخرتكَ قليلاً ، تستطلع الهمس ، او "مسحوق الهمس" كما يصفه يوسف إدريس راح يتلألأ في رئتي ، رئتي المسحوقة بالبرد والرعب وخراء الدنيا ، رئتي التي راحت تتقلّص مع كل صرخة : ذلك صوت أعرفه ، تهمس لي أذني ، قلبي ، روحي الموغلة في مواجهة اللاجدوى ( وهل هنالك أكثر عبثاً من ذلك ؟!) ربما كانت رئتي ألأكثر جوعاً ، او تمرّداً ، فراحت تدافع عن رغبتها بالأنتفاخ ، الإنتفاخ بأنفاس إمرأة تشعر بها غير بعيد عن الهناك .. الهناك الذي ما عاد هنا ، وما عادات سلاسل رعبه توقظك عند الفجر وانت تتنفس صراخ شارع الرشيد في صباحٍ بغدادي ، وانما تملأك الرغبة بقنينة أخرى من البيرة ، كم أنت بحاجة الى "عرق" ؟ تتذكر ضحكة "صفاء" مجيباً على ضابط أميركي ، ربيع 1991 على أطراف الناصرية ، عندما سأله ألأميركي " هل صحيح ان أغلب الشباب العراقيين ما زالوا يمارسون (العادة السرّية)؟ فأجابه "صفاء" وأنا اتخيل ضحكته : " وكيف يمكن العيش في عراق صدام بلا عرق ولا إستمناء ؟!"
وكأنه إستمناء آخر ما أحياه ، رغم أن لي إمرأة لا بأس بروعتها ، ورغم إمتلاء العوالم بالنساء ، ولكني ما زلت أذكر تلك اليد التي منحتني أصابعها ، وتلك الروح التي التصقت بي بكلّ ذلك البوح والرغبة بالتضامن ، التضامن او أي شيء ربما رحت أتخيّله الآن ، في بار العري الذي اخطو خارجه ، أشهر للحارس ختم المرور ، فسفوري هو ألآخر ، فيشير لي موافقاً وكانه لمح تلك المرأة تنبض في رأسي ، رأسي المولع اليوم بالبيرة وبالذاكرة ، الذاكرة القاحلة القديمة ، الذاكرة التي لا تشبع رغم انها شهدت نهاية الكابوس ، الكابوس الذي ، حتى قبل سقوط أصنامه ، راح ابي يعلن ضده سبابه وشتائمه ويهمس ، " مع ألأسف لقد كبرتم في ظلّ خرابه "، خرابه الذي كان يعلو منسوبه فينا ، بين صرخة وصرخة ، ومع كل لمسة إصبع نتسلّل فيه وكأننا " خارجون من بطون التوابيت ، ومن جحور إبن آوى .." كما كتب (فرج الحطّاب) في قصيدة ما ، وكأنه يتمنى أن يحرر لنا شهادة ميلاد أخرى ..
سألتني شابة أميركية مرة :" هل تعتقد باننا نمتلك عقولاً مفتوحة ؟ "
قلت ، دون أن أتذكر الأفخاذ المفتوحة هنا : " نعم ولكنكم تحيون في قفص مغلق .. قفص كبير ومغلق يسمونه الولايات المتحدة ! "
لم تفهم ما أقصد بالذات ، كانت وجهة نظري غريبة عنها بعض الشيء ، أو ، ربما لأنها لم تكن ، ولن تكون ، صاحبة اليد التي منحتني أصابعها فمنحتها روحي في عمق الصمت الذي لا تقطعه غيرالصرخات التي يتوسطها صوت حميم أعرف لوعة ألمه ورونق ضحكته وهويقهقه عالياً عندما نتذكر "نعيمة الصغير" ، الممثلة ، الملقّبة – سرّاً – بقوادة السينما المصرية ، وحاملة شعارات " ربنا يوقف نموّك " ، و نتخيلها زعيمة حزب سياسي وثوري ، ونقلّد طريقتها في ترديد "شعارات المرحلة" ونبرتها وهي تحرضنا لمقاتلة "الفرس المجوس" او "اليهود" او أعداءنا الأزليين الذين ما عاد مرخصاً لنا ، في الوجود ، غير شتمهم ! ثم نتخيّل "توفيق الدقن" و"ألو .. يا أمم " لشدة أمميته ولتفسّخ اليسار فينا ، او التفافه من خلف ظهورنا ليصبح اكثر يمينيّة من "عيدي أمين" الذي يجذبنا جرس إسمه الذي ربما يصلح أكثر لأن يعلّق كعنوان عريض لشركة إستثمار الهية تلفق ربحها من ذقون الفقراء ولا تدفع ضريبتها لغير سماء ما ، سماءها هي أو لا سماء ، يُعلي بها الجميع ولا أحد يعلو عليها ، هكذا .. مثل علم خطوا عليه إسم الله ليبقى عالياً دون ان يرى الآذان التي تقطع والأيدي التي تبتر ، والنساء اللواتي يرجمن ، او يحلّ ربيع المفخخات الذي لا موسم له ، فيفجّر ، فرحاً ، كل المواسم ..!
أتحسس أصابعها ، استبطن ذاك الدفء وأقول لنفسي "ألآن عرفت ، أكثر من اي وقت مضى ، لماذا نتشابه بالإحساس بالبرد والحزن واللوعة والقهر ولا نتشابه ببصمات الأصابع" .. ها هي ترسم دوائر أنفاسي ، تلامس خيوط روحي دون ان تسألني ما أنت أو مَن أنت .. ؟ ربما لأنها هجست بأني بت لهاث اللاجدوى المنتشر في الهواء وأنا اسمع أصدق عذاباتي تتسرّب من المبنى المقابل ، بينما روحي تنتظر دورها للفلقة والكهرباء وأصناف الموت المصنوعة عمداً لما تخلّفه لمسة اصبع منها ، او لمجرد سماعها نفثة مثقلة ..؟
لحظة .. ثم أخرى .. يعلو فيها قمع الخطوات ، ثم إذا هو العماء المطلق .. حيث ليس غير طعم البيرة ، وختم البار الفسفوري الأزرق ينبت على ظهر الكف مثل زهرة صناعية (أرأيتم زهرة زرقاء من قبل ؟!)
لا يهم ما دمت هنا اللا أحد الذي انتمي اليه ، لهذا إستأذنت صديقتي ، ونصحتها بالنوم " انني اليوم ملك شخص آخر " .." اللا أحد الذي فيّ " ، لم التقي به منذ زمان ، مزحوم بعملي والعالم الذي عدت لفك حروفه ، خطاً خطاً ، ونقطة نقطة ، هكذا جئت وحيداً وكأني أحاول أن انتج ذاتي ثانية ، في وطنٍ آخر ، أعدّ خساراتي وكأني الخاسر الوحيد دائماً ، ولكني ، في الحقيقة ، تملّكني الشوق الى إمرأة أخرى ، امرأة أدرت برأسي مشروع ان أتلفن لها ، ولكني أرجأت ذلك ليوم آخر . ورحت أفكر كيف كانت تأتي هي مع "عمّان" ورائحة القهوة ، بشمسها الخاصة وإطلالتها ، أتكون أعذب لحظات الشوق تلك التي تستمني فيها ذاكرتكَ وحيداً مع طيف او حتى بدونه ؟ والأكثر لوعة فيه أن يكون مع رائحة ، رائحة لا تتكرر مثل بصمة إصبع أو طعنة "حبيبة" : ما قلتُ لها أحبكِ ، كانت أجمل من ذلك بكثير ، الا إني دهمتني الرغبة في مقهى عمّاني جميل ، فهتفت لها في سرّي او في إطلالة غمّازتيها البغداديتين.. قلت "أشتهيكِ" وكأني أغازل حلماً او أستيقظ من جوع خيبة قديمة ، عميقة ومتأصلة ، فما كانت عمّان جنّة نلوذ بها ، وانما كانت جحيماً أهون من آخر ، وصراخاً أهون من نعيق ، كانت نافذتنا التي سنتهاوى منها على العالم ، العالم الذي نتخيّل التمرّغ في وحله ، وهو كل ما نريد . فقد تجاوزنا الحلم منذ زمن ولم يبق لنا غير الهجرة او الرحيل .. وهو ما قادني لأن أحلم بالقطارات والخرائط : وبدأت أصرخ مع "وليد إخلاصي" (يا قارّات الله الخمس .. أليس لي مكان ؟!) ويهدّني الجوع والتعب والذلّ فأنام بعد أن تسيل دموعي – مثل محمد الماغوط – من قارّة الى قارّة .. وجرعة الحنان الوحيدة تصلني ، عبر الحدود ، من أمي " ولكم جوعان ويحب الفاصوليا .." "يا عيني عليه ما جاع هنا أبداً وما أدري ما الذي أخذه ؟" ، وتأتيني قدور الفاصوليا ، مغلّفة بأنفاسها وورق السيلوفان ، بينما أغيب بين ضحك وبكاء ، ودبابيس تنغز الجلد و لا تنبت من الحنين الجارف والإبتعاد المرّ عن بلاد دخلت دائرة المستحيل رغم انها لا تبعد أكثر من أنفاس ..
كنت عاجزاً عن ذلك الذي يدعونه الحب ، ومتمرّغاً بالشهوة حدّ القتل ، حدّ بتر الأصابع التي عانقت خلاصي يوماً ، والتطويح بها بعيداً ، خلف بحارٍ سأعبرها غير بعيد عن جنح طائرة ، في بلاد علمتني ان التآلف معها يعني تواصلاً مع الذات ، و"ترسيم حدود" مع الذاكرة . علّمتني كيف أن أخسر بلداً لأكسب العالم .. ما دمت قد خسرته رغماً عني ، وفقدت نعمة استنشاق غباره ، وإذن ، فليكن ، ولتولد آلاف المرّات حتى ولو من دون رحم ، لا تقلق فلن تكون مخلوقاً فرانكشتاينياً آخر ، ولربما ستكون أكثر قرباً من ذاتك وهي تتشكل في مختبرات أخرى ؟
كانت ، هي الأخرى ، تنفرج غمازتاها البغداديتان لتقول ذلك أيضاً: ذكرني بذلك منولوجست الكازينو أمس وهو يصف خلافه مع صديقته :"تقول بأني أريد أن أعرف أين و مَن أنا .. " يقول " فجلبت لها خارطة ومرآة وقلت لها : هذه خارطة لتعرفين أين أنتِ ، وهذه مرآة ترين فيها وجهكِ وتعرفين مع أي شيطانٍ أعيش !! " .
ضحك الجميع وتذكرتك ، هل كنت بحاجة لجوابه لألقيه عليكِ ؟! .. إلا إني أعرف حجم إغترابنا العاثر .. وبحثنا الدائب عما يبعث قوة الحياة فينا .. هل أقول أشتهيكِ مرة أخرى ؟ ربما ولكن ليس حدّ القتل ، والتطويح بتلك الأصابع .. ربما حدّ ان أطرحكِ أرضاً ، وأشمّ عبيركِ المنبعث مما خلف رقبتكِ .. وأهمسِ : أتعرفين شهوة ألأصابع وهي تتسلّق الهواء بحثاً عن أنثى ؟ يا لقسوة انوثتك الحمراء !
أخاصرها ، في الظلمة ، منحدرين من "جبل اللويبدة" ، أنظر لإمتلاء قميصها ، فتنسل أصابعي أسفل نهدها ألأيسر ، تجفل ، أقول : أشتهيكِ .. تنفر بنهدها بعيداً ، وضحكتها تعكّر مزاج المدينة العابس : "لو تموت.."
أجيب بابتسامة خابية :" أنتِ الخاسرة !"
" أخسر رغبتكَ أفضل من أخسر صداقتنا ..؟"
" سحقاً لماجدة الرومي ونزارها .. !"
" سحقاً لرغباتكم التي لا تعرف الإنتظار .."
" أكره السعادات العرجاء .."
" وأنا أكره العلاقات العرجاء "
" على العكس .. يمكن أن نضيف رجلاً أخرى لعلاقتنا بذلك ؟"
" كذّاب .. لم أر كائناً في حياتي يمشي على ثلاثة أطراف ! "
" تعرفين .. كان عندي صديق ، أحول ومتزوّج من إثنتين ، ودائماً يدعو الى التعددية الجنسية بحماسة ، حاصرناه مرّة لنعرف سرّ دعوته .. فقال : إذا تحدثت عن التعددية السياسيّة فلن يكون مصيركَ غير السجن .. أما إذا تحدثت عن التعددية الجنسية فقد تجد نفسك في الشارع ، أو بالنسبة لي مع الزوجة الثانية ، فهي مكافأة أحياناً أكثر مما هي عقوبة ! "
" ولكنها تؤدي الى الخيانة الزوجية أيضاً .."
" حاججناه بذلك ، ولكنه لم يعبأ .. قال : نعم ، وهذا ينطبق عليكم .. أما أنا فليس على الحولان حرج... .."
" وعسى أن تكرهوا شيئاً "
" وهو عزاء لكم .."
" عزا في عينك .."
فقلت وكأني أمثل مشهداً مفبركاُ :
" بل لقلبي الذي الذي لا عزاء له "
ثم همست لها ، وهي على الطرف الآخر من العالم ، وكأني أحدث نفسي :
" هي الرغبة .. جنين يواصل نموه حتى يموت مع حامله ، او يولد ، في مكان ما "
ثم جاءني همسها ثانية عبر الهاتف :
" كنت أنا الخاسرة .. كما قلت لي ذلك اليوم"
" ربما كان العكس صحيحاً .."
كانت تصفني ب" السافل اللذيذ " ، وكنت قد نلت اللقب باستحقاق ، كلما عزمتني في مطعم أو مقهى ابادر لفتح الباب لها وأقول ب" عربنكليزيّة " متأففة " ليدييز فيرست " ثم أدمدم بخبث وأنا أتطلع لمؤخرتها " الآن عرفت عظمة هذه القاعدة !" . بينما كان صعود السلالم ، وهي تتقدمني ، يرهقني حدّ اللهاث ، وأنا أهمس " لم اعرف مدى الكبت الذي عاناه مَن إكتشف (ليدييز فيرست) الا الآن !"
بينما هي تضحك ، تضحك وكأنها تتواطأ معي برغبة الإنتقام من جفاف المدينة ، وحدّة كائناتها ، رغم الطيبة التي تتآكلها شروط العيش فيها .. أقول لها :" مساكين " وأشير اليهم " نحن مجرّد عابرين ، ونشعر بثقل وطأة الحياة فيها ، فكيف وقد كتب عليهم ان يولدوا ويعيشوا .. وربما أن يدفنوا فيها ؟"
" فيها كشف عن لا عدالة التوزيع الإلهي .." تقول هي " لا ماء .. لا خضرة لا نفط ، حتى الدم ، يبدو وكأنه نشف في عروق ابناءها ..!"
" شحة عنيفة بجميع أنواع السوائل !"
تضحك " حتى المنويّة منها !"
" سمعت الكثير عن ذلك .. ولكن كيف عرفتِ ؟"
" نساءهم يهمسنَ به .. وكأنهنّ خارجات تواً من شاشة (النوم في العسل) !"
" لا تقولي بأنكِ جرّبتِ .. لأنه سيكون إعتداءاً صارخاً على انوثتكِ التي أتوق اليها .."
تجيبني بنصف ضيق ، ونصف تمثيل :
" اووووه .. نصحتكَ بأن تتبنّى قاعدة : اصرف نظر .. واشبع قهر !"
" شبعان قهر والعبّاس .." ثمّ وانا أتابع التماعة ما في رقبتها :" هي الروح الجائعة .. ولا تشبع !"
"شيطان .."
" ملاك والعباس .. ولكن بلسان شيطان .. انظري في عينيّ وسترين ؟"
"ماذا أرى ؟"
" كيف أصلب كل لحظة ، مثل مسيح ضائع ، كلّما تأخرت عن اقتحام كيانكِ .."
" لا أملك أكثر من جزءٍ بسيط من هذا الكيان ، ما تبقّى منه فأحمله أمانة لمن يسكن هناك .. ألم تقنع بذلك ؟"
بدت وكأنها تحلم ، كم يبدو حلم الحب معدياً .. وأكثر عدوى من الصراخ أو الهيام بشبح يسمونه الحرية !
قلت :" تحتفظين بأسرار تبدو لي كلعنة .. لذا ما عدت أميّز ايهما حلم ، وايهما واقع ..؟"
" هو حلم واقعي متجسّد .. هناك "
" وأنتِ ؟"
" طيف أو كابوس .. سيصادفكَ مراراً "
" ماذا تعنين ؟"
" أعني إن فيكَ خوفاً داخليّاً من شيء ما ، من حب أو موت الحب ، كما يسميه حسب الشيخ جعفر في احدى قصائده .."
" لست خائفاً .. أنا مجرّد ضائع .."
" وصايع .."
" ونذل .."
" وسافل لذيذ .."
" وأشتهيكِ .."
" حسّي .. مثل بقية الرجال !"
" وكأنكِ قلتِ : مثل بقية الكلاب !"
تضحك وتتلكأ وكأنها ستفقد نعمة الكلام :" ليس لذاك الحد .. ولكنكم تقضون نصف اعماركم تنظرون عن الثورة والتغيير ، لتكون نهاية نصف منكم الى سجادة صلاة ، ونصف آخر هائمين على ابواب العاهرات .."
قلت مقلّداً نبرة مسرحية كوميديّة :
" هؤلاء نحن .. وأنتن أيتها النسوة ؟"
" اننا نحلم .. مثل فيروز : بيت وأوظة منسيّة وسلّم داير مندار "
" ومع ذلك تنتهينَ الى رجل عابس ، وحجاب ، وخراء أطفال .."
" سنّة الوجود في بلادنا .. لهذا قررت المغادرة .."
" شجاعة اليأس .. يا عزيزتي !"
" أنتم مشكلتكم قد تنحصر بنظام .. (الماموث) كما تسميه .. أما نحن فمشكلتنا مع كل شيء ، بما في ذلك أنتم ..!"
" أوتظنين خروجنا كان مجرّد نزوة .. أم هم متراكم من كل شيء !"
" أعتقد بان جرثومتكم أكبر من ان يعقمها العالم الآخر الذي تتوقون اليه .. خوفي أن تواصل أمراضكم نموّها حتى لو عشتم في جزيرة روبنسون كروزو !"
" طبعاً سأكون كذلك في جزيرة الأخ كروزو .. لو ذهبتِ معي .. فلن أسمح لقردة الجزيرة بالإستمناء على فخذيكِ !"
" يا قرد .."
" يا سحلية .. يا مربربة !"
" يا مجرم "
تضربني على ظهر كتفي ، التقط ذراعها وألويها ، فجأة أجد ظهرها ملء صدري ، تتأوه ، وقد لامس وجهي صفحة خدها ، تمرّ سيارة فأحررها من قبضتي .. ها نحنذا تفصل بيننا سكين حادّة .. يدعونها الجسد ، لا تجرح فقط ، وانما تنزف موتاً ورعباً هناك بينما يشبه هنا أشياء كثيرة ، قابلة للتبادل والإستهلاك ببساطة أكبر ، مما يفقده احياناً مكانته ، قيمته ودوره ، وهو في كليهما ضائع ما بين حبسه في وحشيّة القداسة هناك ، واستباحته وصفّه على رفوف الأسواق هنا .. حيث أتنقل من البار الى نادي العري كالمهووس بذاكرة هبطت مع أجراس البيرة التي ترن في رأسي مثل ناقوس بعيد في ضباب صباح غائم ، عشته وما عدت اميّز فيه ما بين واقع وخيال ، همس وصراخ ، وكأني ما شاهدت "الماموث" الذي استباح "طيبة" ودمر جبالاً من طيبتها ، وهو يخطو في المحكمة ، ساحلاً ذاكرة خراب متراكم ، وتأريخ مرّ ، بدأ معي من صرخة "ثريا" ، جارتنا التي هجّروها مع أسرتها ، بعد منتصف ليلة رعب بغدادية ، ولا ينتهي بسخريّة "شيرزاد" واصفاً ضابط ألأمن في "كركوك" :" كان يعذبني ويصرخ :" أخ القحبة .. تريد تصير وزير !"
فيضحك ونضحك ، بينما يتدلّى الموت مثل شاهدة في عراء ذاكرة رحت أستعيدها ، محتفلاً ، في سيرك الأجساد هذا ، بينما أشعر بدبيب شوق بارد لصديقتي ، التي ستكون نائمة حتماً ، متدثرة بطمأنينة هادئة بعيداً عن صخب جنون مازال يضجّ فيّ ، رغم مغادرتي أحلام القطارات منذ زمانٍ ، ورغم ان دموعي ما عادت تسيل ، مثل الماغوط ، من قارّة الى قارّة ، حتى وأنا اهمس لكِ ، عبر (النقال) ، بشيء من السكر والغموض ، بينمااقود سيارتي مغادرا سيركات العري :" ربما أنا مَن بدأ يغادر رغباته السحيقة .. هنالك إحساس ، متراكم ، بالعهر كلّما قررنا مغادرة المكان الذي أحببناه .. هي تعدّدية من نوع آخر ، لم ينظّر لها صاحبنا الأحول.. ذاك !"
تضحكين ، ولا أبتسم ، ربما لأني شعرت بشيء ما يتدحرج ويمضي مثل زجاج متكسر.. فلا اقوى على القول أكثر من :
" وداعاً .. !"


.
* عن الحوار المتمدن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى