قاسم مسعد عليوة - الاستعـراض

قاسم مسعد عليوة.jpeg

في البهو الرئيسي لفيلا الأستاذ نادر جلسوا.. نـانى وألـفت وفوزي وعزيز بك. إلى فهمي الخجول يستمعون، الستيريو يبث أنغاماً هـادئة بينما تنذر مانشتات الصحف الملقاة على السجادة برعـود وعواصـف، أحذيتهم وجواربهم مبعثرة هنا وهناك، وعلى الترابيزة الواطئـة رُصَّتْ الزجاجات والكئوس وأطبـاق الحُمص والترمس والخيارالمملح، فيما تسـاقطت قطرات على بلور الترابيزة ونقوش السجادة.

في مقدمة الجيـش تسير إحدى فرق المشـاة. يتحرك الرجـال في صفوف، الصف تلو الأخر. لخطواتهم وقع ولأنفاسهم حفيف. يليهم نافخو المزامير الفضية فالنحاسية، جميعها مستقيم. جميعها لامع. في إثرهم فريق من الضباط . قلائدهم ونياشينهم تتأرجح على صدورهم وأسلحتهم في أيديهم.

على مسافة غير بعيدة تظهر عربة حربية وحيدة عليها لوحة بها كبش متوج بقرص الشمس.

صوت: أيها الجنود ابـتهجوا..انتم في حماية معبـودكم العظيم أمون رع.

ضحكت نانى"أمون رع وكبش؟!"

بعينين تدعيان الوقـار نظر إليها الأسـتاذ نـادر فلم تسكت "كبش؟!.. كبش متوج يا أستاذ نادر؟!".

زجرها "هش" فأمسكتْ لسانها ورفعتْ كأسها وشـربتْ.

المَلك بالشرفة المطلة على الساحة. شـرفة تليق بملك وقف فيها أو جلس فالعرض في مستوى بصره. مئزره فخيم وفى يده الصولجان. الصقر خلفه وفوق رأسه تاج المصرين العليا والسفلي. حامـلو المظلات متسمرون، وإلى جواره ولى العهد والكاتب الملكي وعظماء الضباط وفى الساحة تتقاطر فرق الضبـاط من حاملي القسي المثلثة والسيوف القصيرة. وتحـت عينية تمر فرق أمون، رع، سوتخ ،وبتاح. لكل منها تشكيله الخاص ومشيته المميزة.

بعد مسافة يظهر المشاة المصفقون فحاملو الدروع والرماح ثم حاملو البلط والسيـوف المحدبة والجريد. يُنفخ في الأبواق فتندفق العربات. كثيرة هي العربات التي يجرها جوادان. فوق كل عربة اثنان. ضابط وسـائس. السـائس يمسك اللجام بيد والسوط بالأخرى، والضابط المغطي بالزرد يمسك بالقوس شاداً إياه في وضع المقاتلة.

يلحظ الملك تأرجح جعاب السهام فوق الظـهور واهتزاز مقابض السيوف المثبتة إلى صناديق العربات فيبتهج.

صوت الملك: هذا هو جيشي.. حامينى وحامى البلاد.. طوفوا بهم في كل مكان ليعلم أعـدائي مـدي قوتي ومنعتي..

لم يتمالك الأستاذ نادر فتأرجح في مقعدة الهزاز وصاح "برافو.. برافو" ثم ألقى بحبتي حمص إلى فمه "حوِّل كل هذا إلى لقطات". عالج فهمي حشرجة صوته "للقصة بقية"، وقـال عزيز بك "ارحموني".. ضجوا بالضحك.."عزيز بك خائف على تل الفلوس"، فيرد "خد من التل يختل".

سألتْ ألفت "لكن أين الملـكة؟" فتمـاجن فوزي "في الحمام" ثم صخب وراح يدق بكأسه الزجاجة التي أمامه.

مالت نانى بصدرها إلى فهـمي "أخرجني من الحمـام يا فهمي". بوغتَ فهمي بحرارة الصـدر النافر فتنحنح وثنى جزعه للخلف. مالت أكثر"أخرجني يا فهمي". عاق مسـند الفوتيه تراجعه فاندلق ثديـاها تحت عينيه. ابتلـع ريقـه بصـعوبة بينما أخذوا ينادونه"أخرجها يا فهمي"اكسب ثوابا وأخرجها".. "أخرجها حرام عليك".

ألفت هي التي أنقذته. سـحبتها إلى حيث مدَّ الأستاذ نادر ذراعاً فاحتواها. قالت ألفت بحزم "دور الملكة يخصني أنا"، فردت عليها نانى "الملـكة هي أنا"."لا.. أنا" . التفتـت نانى إلى عزيز بك"من فينا الملكة يا عزيز بك ؟" ألقى عزيز بك بالخيارة المملحة "أنا أدفع فقط".

حرك فهمي عينيه بين نـانى وألفت. لألفت ابتسامة دافئة وجسـد ممشوق خفيف الحركة. أما نانى فشديدة الفتنة بجسمها المدملك وعينيها الجريئتين وثدييها المكورين.

نهض الأستاذ نادر. ترك نانى وألفت وكرسيه الهـزاز واتجه بكأسه المملوءة إلى فهمي "اشرب يا فهمي.. اشـرب"، لكن فهمي لم يشرب"فكر يا فهمي.. ما الذي يمـنع من أن يـكون للمـلك الواحد ملكتـين، أو فلنقل ملك ومحظية؟". في وقت واحد انطلقتا "لن أقوم بدور المحظية". زعق الأستاذ نـادر "أنا المخرج.. دعوني أقنعه"، وقال فهمي"دعوني أكمل". سكـب فوزي ثمـالة الكأس في جوفه "إن لم تفعلها أنت فعلناها نحن".

اغلق فهمي فمه وقام "سآتيكم حينما تفيقون" عنـدها انفعل عزيز بك.. أرعد وأزبد وأحاط الريم شفتيه "انتظر.. هس.. أسكت.. المسألة ليست فوضى.. وقتنا بفلوس..على الأقـل وقتي أنا.. خلصنا..شهل".

قبل أنت يتلاشى صوت الملك تصاعدت في العمق البعيد جلبة رجال الإمدادات وهم يزجرون الحمير المحمـلة بالصرر والجرار أو يُسّيرون العربات الضخمة التي تجرها الثيران. ما تزال العربات الحربية تمشى تحت عيني الملك، وما يزال قـادة الفيالق بقسيهم وسـهامهم يتقاطرون. يكبحون الجياد أمـام الشـرفة ويلتفتون. يؤدون التحية و يتلقون البركة بإشارة منه أو بإيماءة. والضباط والسائسون من خلفهم متـسمرون فوق عربـاتهم. الأقـواس مشـدودة والسياط مرفوعة ولا يلـتفتون.عربة واحدة فقط التفت راكباها وسمرا أعينهما في عيني الملك. عربة واحدة فقط انطلق منها السهم القصير المُريش خفيفاً رشيقاً لينغرس في رقبة الملـك. عربة واحـدة فقط هبط سائسها بسيف محدب وهجم على الشرفة وأعمل في الملك المرشوق الطعن والتقطـيع، فيما أخذ الصولجان يتدحرج بين الأقدام في قعقعة وضـجيج. بعد ذهـول، يسـود الهرج والمرج. يصطدم ولي العهد بالحراس والضباط العظـام في جريهم إلى غير ما وجهه. الكاتب الملـكي اختفى. والصقر مال من كثرة الارتطام به، فيما أخذ ت السهام والرماح وحجارة المقاليع تتساقط تسـاقط المطر. على المتلاحمين في السـاحة من أفراد الشـعب والجيش تنسـكب.. دونما تبصر.. دونما تفريق..الصرخات تتعالى ويندفق الدم نافورات غليظة ورفيعة في كل اتجاه. حراس الملك يضـربون بلا أوامر، يزأرون، يمسكون بتلابيب القريـبين منهم وينتزعون رؤوسهم لا يعرفون لماذا. وفى الشرفة أصوات تنادى طبيب الملك، وأخرى تدعو أمون رع. ثمة وجوه تحتمي بالصقر المشرف على الجميع وإنْ مال، وأجساد تفر أو تنكمش داخل ما ترتـديه من غـالى الثياب. والملك غائب تماماً عن المشهد بما يحتويه من جثث و رمـاح وسهام وحجـارة ونعال ودم وأفراد حاشية لم يقدموا إليه جزاء ما أنعم عليهم به من ثروات وسلطان.

رابطو الجأش أخلو الشرفة ممن فيها، ليهبـط الهدوء فجأة وتظهر عقبان السماء، فلا يلفت الانتباه سوى مقعد خشـبي وحيد أسفل الشرفة. مقعد شعبي شائع الاستخـدام. له أربعة أرجل ومسند. سليم. لكنه خال.. صامت.. ثابت كـشاهد أعمى لا يدرك خطورة ما يحيط به.

السكارى أفاقوا معاً. انتفضوا معاً. شتموا فهمي "يا كلب يا ابن ستين كلب "هجموا عليه وضربوه" حاتودينا في داهية". بكل ما طالته أياديهم ضربوه.. بالكؤوس والزجاجات وأطباق المزه، وبالـكرسي الهزاز. بعد ما همـدو ا شـل فوزي حـركته وطرحه أرضاً فبصـقت عليه ناني، وغرس عزيز بك حـذاءه في فمه، حتى ألفت لم يفتها أن تنال شرف هـرس أصابع يديه، فيما قبض الأستاذ نادر على الملف تحت إبطه وأخذ يدير قرص التليفون طالباً الرقم الثلاثي المشهور.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى