قصة ايروتيكة عبد العزيز بركة ساكن - ذَاكِرةُ الخَنْدَرِيسْ "وَمَنْ الذيْ يَخَاف عثمان بُشرى؟ "

العاشقان

والدتي لم تكن كبيرة السن أو هكذا تعتقد هي، أنجبتني عندما كانت في الثامنة عشر من عمرها، ما زالت امرأة نحيفة قصيرة بعض الشيء، ظلت دائما محتفظة بنضارة الشباب. في هيأتها ذاتها عندما تخرجت من كلية الآداب قبل عشرين سنةً. لا يحق لأحد أن يقدر عمرها بأكثر من أربعين عاما. أمي تعتبر نفسها أجمل مني. قد تبدو اصغر مني عمرا، إلا أنها تصر علي إنها أجمل منى، أرى أنها تخلط فيما بين ما هي عليه قبل عقد من الزمان و الآن. عندما كانت أجمل بنت في الحي. وأحلى و اصغر أم في الجامعة. فالواقع أمي تؤكد على انه إذا كانت هنالك مسابقة جمال في تلك الأزمنة لنالت جائزة أجمل بنت في السودان دون منازع. لا مصلحة لي في ألا اصدق ذلك، لكن المشكلة تكمن في ما بعد النقاش اليومي عن العمر والجمال لأنه ينتهي بشجار. لأن أمي تريدني أن أتزوج بأية طريقة كانت بل بأول من تقدم إليَّ، قد تقدم إليَّ كثيرون. بل لماذا انتظر إلي أن يتقدم إليَّ أحدهم. فالبنت الذكية هي التي تختار زوجها و تدفعه بحنكة إلي أن يطلب يدها، قد ترفضه إذا لم يعدها بثروته كلها. وأنت الآن تدخلين في "سن الياس"، تضيعين وقتك في حب شخص لا يمكن أن يتزوجك، لا اعرف مثقفا تزوج من قبل إنهم لا يتزوجون قبل أن يشعرون بان الموت يطرق أبوابهم أو أنهم على قارعة الإفلاس.
- قولي لي كم من النساء تزوجوا شعراء. أريد عشرة منهم؟
- لكنه يا أمي ما شاعر.
كعادتها تهمل إجاباتي عندما تسيطر فكرة ما على رأسها، خاصة بعد أن أخذت تنتابها حالات الإحباط النفسي بين وقت لآخر
- أنا اعرف عشرات النسوان الما تزوجوا شعراء وكانوا بحبوهم مثل عيونهم، ياما كتبوا فيهم شعر وأغاني..
أقول لها يا أمي هذا جدل بيزنطي. لا يوصل لنتيجة. انه ليس بشاعر، وكأنها لم تسمعني : تعدد لي أصحابي الشعراء الذين لم يتزوجوا حتى الآن:
عثمان بشرى.
عاصم الحزين.
الياس فتح الرحمن.
كمال الجزولي.
عاصم الرمادي.
عبد الله شابوا.
عالم عباس....
- يا أمي، يا أمي ديل فيهم ناس متزوجين وعندهم أولاد و بنات متزوجات.
لكنها تواصل في إصرار مجنون. وكأنها تقرأ كتابا منشورا أمامها:
بشرى الفاضل.
احمد النشادر.
مأمون التلب.
علي نصر الله.
محمد الصادق الحاج.
نصار الحاج.
عصام عيسى رجب.
- يا أمي يا أمي.
أضافت وهي تنحرف قليلا عن الموضوع الأساسي، محملقة بعينيها في الأفق البعيد.
- كويس، أو أتزوجوا نسوان تانيات.........
هل تذكرين ذلك الشاعر الذي كتب قصيدة جميلة عن حبيبته إيما، أظنه قال فيها إنها تشبه غيمة وتشبه نجمة: وحاجات تانية ما بتذكرها، لقد تزوج من فتاة أجمل منها اسمها انتصار، وذلك الذي كتب عن فتاة ذوبته عشقا وهي ماريا، تلك القصيدة الطويلة التي درسناها في الجامعة بعنوان ماريا وامبوي، سقطتُ فيها مرتين، قد تزوج امرأة اسمها ليلي علم الدين. وقالت إنَّ أراجون الذي ظل حياته كلها يكتب لعيون حبيبته إلزا أجمل الأشعار. العيون التي ظنَّ أنها الأجمل منذ ان خلق الله حواء أم البشر،اقترن في أواخر عمره بفنانة غجرية متشردة لا تكاد عيناها تريانه جيدا.
لم يبق لها سوى أن تضيف للقائمة رامبو، مالا راميه، بود لير و أمل دنقل. ذات مرة اعترفت لي بأن صديقة لها- أظنها تقصد نفسها- كانت تعشق شاعرا. لكنه يخونها مع صديقتها المقربة جدا بل الوحيدة، عندما اكتشفت أمرهما برر لها ذلك بقوله إن للجسد سلطان ونحن لسنا سوي شغيلة عنده. قالت إنها لم تفهم شيئا لكنها لم تعد تحبه منذ تلك اللحظة. بل كرهت المثقفين جميعا، على رأسهم الشعراء. لأن الشعراء يتفلسفون في الخيانة. ويقولون كلاماً غير مفهوم: كيف يكتب شخصا سويا نصا بعنوان "في مديح الخائنات"، وهو يعني بالخائنات، الخائنات، نعم الخائنات ذاتهن، ليس مجازا أو رمزا؟!
أحبت أمي وكرهت بعد وفاة أبي بسنوات لكني اعرف أنها الآن تحب روائي في عمرها. لا خير منه يُرجى - سوء الظن في الروائيين من حسن الفطن- وأظن انه يستغلها جسديا ومادياً، فانا لا اعرف شيئاً عنه وعن علاقتهما، وخطأ تخميناتي على أمي ان تتحمله، لأنها لم تفصح لي عن شيء. لم تتكرم علي بمعلومة مفيدة. غالبا ما تِدَعِي:
- هو صديقي ما أكثر.
أمي ليست صريحة معي، لكنها دائما تريدني أن أكون صريحة معها:
- حتى لا يَخدعكِ الرجال. فكل الرجال مُسيلمة يا بنتي، كذاب. بدون فرز وبدرجات متفاوتة، بعضهم إبليس بعينه:
- "أوعك تدي واحد قلبك كله".
اعشقيهم بلسانك لا أكثر. اقصد بطرف لسانك، لا تفرطين في قلبك أو جسدك، الرجل مثل الطفل، إذا شبع نسي أن له بطناً وإذا جاع تشهى كل الأشياء، حتى إذا كانت حجارة.
أمي أجمل مني. أنا لا اعترف بذلك. كنت أطول منها قامة لكني بدينة بعض الشيء. بل قل الشيء كله. ورثت بنيتي الجسمانية من أبي. لكني جميلة أيضا. فكثير من الرجال يحبون الأرداف المدورة، وهو الشيء الذي عليه أردافي الآن، اسمع كثيرا من تعليقات المارة بالشوارع والمواصلات العامة، تضايقني في أحيان كثيرة، اقض عنها الطرف في بعض الأحيان، اطرب لها وخاصة إذا كان مزاجي عكرا و كنت في حاجة إلى دُعابة ما، مهما كانت سخيفة، طولي 175 سنتمترا، فكرة الجمال عندي تتمثل في تصور الآخر لك من جانب، وتصورك لنفسك من الجانب الآخر. أنا أيضا لا كرش لي، مثل أمي،أمارس الرياضة بصورة متواصلة وخاصة تمارين البطن، لا آكل الشحوم أو السمن، امشي كثيراً برجلي ولا اتركه يَرِقَ فيَّ. لي بشرة سوداء ناصعة ورثتها عن جدود شتى، فور ونوبة برابرة وعرب. لا استخدم كريمات تبييض البشرة وهذا مبدأ إنساني، جمالي وأخلاقي لا أحيد عنه، ولو أنني بذلك افقد فرص العمل في كثير من القنوات التلفزيونية، البنوك، الشركات التي تهتم بالمظهر العام المنمط والمعلن عنه رسميا وإعلامياً، ورغم ذلك يحبني الكثيرون من اجل أنني أرغب ان أكون كما خلقني الله، يقولون ان لي ملامح ملكة نوبية، باختصار، اعرف أنني جميلة وهذا يكفي. أنا وأمي وحيدتان. أقاربنا يسكنون بعيدا ومتفرقون في مدائن السودان الكثيرة. ترك لنا أبي بيتا كبيرا في الخرطوم بحري. قمنا بتأجير نصفه الذي يفتح على شارع السيد على الميرغني، نسكن نحن في النصف الآخر المطل على شارع فرعي صغير لا اسم له. يحتوي على غرفتي وغرفتها، صالون وثلاثة حمامات بكل من الغرفتين والصالون. الجزء الآخر من البيت تستأجره منظمة مجتمع مدني تعمل في حماية الأطفال المتشردين. وهي المنظمة ذاتها التي أعمل فيها أنا أيضا كباحثة اجتماعية. تسمى المبادرة الصديقة للأطفال C F I. ليس كل ما تقوله أمي لا فائدة منه. لأن فكرتها عن حبيبي عبد الباقي كانت في محلها. إن علاقتنا قد استنفذت فرصها كلها. هو يريدها أن تبقي طالما كنا نذهب كثيرا إلى غرفة جدنا الخليفة عبد الله التعايشي السرية ونقضي فيها أجمل أوقات حياتنا. عندما نكون معا كنا نمتلك الحياة كلها. لا يهمنا شيء آخر في العالم. حتى الأطفال المتشردين، المسلولين وغيرهم. كان همنا أن نمتع جسدينا. أن نشبع رغبة الوحش الساكن في حشو كل منا. أظن الجنس يستطيع أن يفعل ذلك. أن يقوم بواجب التواصل الإنساني، الجنس الآمن. لم اقل إنَّ همه كان الجنس أو همنا. بل كل شيء لكن الأشياء الأخرى إما يصعب الإيفاء بها أو لنا فلسفة في جدواها. إذاً حان الوقت أن نفترق. أنا أريد أطفالا. بل تريدهم أمي أكثر، أمي تصاب بين وقت لآخر بالإحباط النفسي. وتظل لشهر أو شهور تري وتسمع أشخاصا وتتحدث معهم. مرات عديدة كانت تفكر في الانتحار. لا تستمر الحالة طويلا لكن عندما تصاب بتلك الحالة تكون في أسوأ أيامنا. في الآونة الأخيرة أخذت تساعد في رعاية المتشردين حسب مزاجها وبما تستطيع. فهي ليست ذات بال طويل وصبر علي نزق وشيطنة هؤلاء المنفلتين. الذين لا يترددون في عض اليد التي تقدم إليهم كسرة الخبز. فالحياة علمتهم عدم الثقة في الآخرين. ولا في أنفسهم كذلك. أمي تريد أطفالا يملئون حياتها، يوفرون لها الرفقة، أطفالا تثق فيهم على الأقل يمكنها أن تتنبأ بما ينوون القيام به. كنت أتحدث إلى نفسي بصوت عال مما أخاف أمي وظنت أن مرضها قد انتقل إليَّ. لكن عندما حكيت لها القصة هدأت وكادت أن تبكي، أمي لا تبكي بسهولة. ثم سمعنا طرقا عنيفا على الباب. على الرغم من أن لدينا جرس إلا أن الطارق لم يستخدمه. هتفت أمي
- مُنُو ؟ إن شاء الله خير ؟
كان يتنفس بصعوبة. ملابسه ممزقة. وتوجد في ما تبقى منها بعض بقع الدم الجاف. لم يكن هنالك زمن للأسئلة. استحم. لبس احد جلابيب أبي، أمي تحتفظ بالكثير منها للذكرى. أمي تهمس في أذني من وقت لآخر. مستفسرة عما لحق به. اهمس لها بأنني لا ادري، لكني كنت قد خمنت كل شيء. باختصار شديد وفي كلمتين اخبرني بكل شيء. احتسينا القهوة. عرفت أمي فخافت علينا. كان عبد الباقي رجلا مربوع القامة. طوله أربعة وسبعون سنتمترا أو يقل بقليل. تدل ملامحه علي انه قد يكون من سكان وسط السودان. أو لحد ما الشمالية. كان غاضبا وهو يحكي كيف قبضوا عليه وضربوه في الشارع العام ثم أطلقوا سراحه ثم لحقوا به مرة أخرى في بيته. ودارت معركة معهم في البيت. تدخل جيرانه. أصحابة و زوجته. ضربوا الجماعة ضربا مبرحا إلى أن فروا بجلدهم هاربين.
قاطعتني أمي
- سجمي! عنده أولاد ؟ بتحبيه ليه؟؟
- يا أمي شنو علاقة الأولاد بالحب؟
انتفضت أمي تقول، وهي تحملق في عيني كأنها تراني لأول مرة في حياتها، ولأول مرة ألاحظ ان بعينيها حزن عميق لا يستطيع الكحل اصطياده.
- عندو مرا ولا لأ؟
اجبتها بهدوء
- عنده مرا.
حاولت ان تكون هادئة مثلي
- يعني عايزة تقلعي راجل المرا و تشردي عياله؟
- يا أمي يمكنا نعيش مع بعض المشكلة شنو؟ أنا أصلا ما عايزة راجل متفرغ عشاني. يكفي نصف راجل أو ربع راجل. ما أكثر.
صمتت لبعض الوقت، كأنما كانت تريد ان تقول شيئا ما، ثم غيرت رأيها، قالت وهي تمضي بعيدا عني، وتبعثر كلماتها في المكان
- كلام ما مقنع. الراجل راجل والمرا مرا مافي نص ولا ربع. وأحسن تسيبي الزول لحاله، خلينا من الكلام الفارغ، شوفي أي مخلوق ما عنده زوجة و عرسيه.
تعكر مزاج والدتي فجأة ولم تقبل أن تستمع إلي فكرتي الجديدة بشأنه. بل لم تعرف انه لا يريد أن يتزوجني. وأنني صرفت النظر عنه، بالطبع لم اقل لها إنَّ ما تبقي بيني وبينه هو فقط التعود علي تلك المتعة الجسدية، لم يفكر كلانا إلى الآن في التخلي عنها على المدى القريب، هنالك أشياء يجد المرء نفسه ملتزما بالقيام بها قد لا يفكر كثيرا في مسالة جدواها من عدمه، خاصة الأشياء التي لها علاقة بالجسد، فهذا الأخير له منطقه الخاص وأفاعيله التي لا يستشير فيها العقل، فهو لا يفكر بالأعضاء التناسلية وحدها، لكنه يشرك كل الأجزاء الأخرى فيه، ويشرك العقل، الجزء الأكثر بشرية منه، فهو دكتاتور رحيم، ولا يُلام الجسد عندما يعمل عمل الجسد، بعد أن قرأتُ كتاب السِر. أخذت حياتي تتغير بسرعة، رميت بكلماتي في ظهرها:
-أنا ح أتزوج في هذا العام، ح أتزوج رجلا كاملا.
فاجأتني بثورة من الضحك. عادت واحتضنتني وأكدت لي للمرة الألف إنها سوف لا ترفض أن أتزوج أياً كان. إذا كنت أحبه ويحبني. متزوج أم غير متزوج مجنون أم عاقل. المهم يستطيع أن ينجب أطفالاً يعيشون معي في البيت هنا ولتذهبا أنت وهو للجحيم، قلت لها
- هل غيرت رأيك؟
قالت وفي وجهها ابتسامة رائقة.
- لأ، لم أغير رأي، أنا عن نفسي لا أتزوج رجل متزوج.
وضعنا الخطة. اتفقنا على أن نشرك فيها بعض الصحفيين المهتمين بالموضوع. لأنهم يمتلكون الخبرة في التحري، أيضا الشرعية والحيلة في تقديم الأسئلة والدخول إلي كل المؤسسات الحكومية والمدنية. طبعا ليس كذلك تماما لكن لحد ما. الأهم أن لهم أفضلية علينا في ذلك. البحث عن الصحفي المناسب كالبحث عن إبرة في كومة من القش. كنا نريده ذكيا، شجاعا ويؤمن بالقضية بصورة قريبة من وجهة نظرنا. حتى يكون هنالك توافقا وتناسقا في فريق العمل. أهم ما في الأمر ألا يكون مواليا للسلطة، لأن الموالاة تحتم عليه التوافق مع وجهة النظر السائدة. حتى ولو أنها جانبت الصواب، وفوق هذا وذاك نحن لا نستطيع ان نقدم له أجرا، مهما كان ضئيلا، فالعمل تطوعي وإنساني في المقام الأول. لم اقترح عليه أحمد الباشا. سيرفضه ظاناً منه- وأنا اعرف ظنونه- إنني كنت في يوم ما مغرمة به أو انه مغرم بي. كما انه صدَّق احدي كذباتي التي كان الهدف منها إثارة غيرته. بأن أحمد الباشا أكثر وسامة منه وان كثيرا من البنيات يستلطفونه، قلتها بالطريقة التي تجعله يسمع كلمة كثيرا كل أو : أنا واحدة منهم. أكدت له بأنني لا اهتم بذلك على الرغم من انه كان يتودد إليَّ بين حين وآخر. كما إن الباشا بعد أن طُرِدَ من جريدته أصبح مخيفا ومُتَجَنَبا من قبل كثير من المؤسسات وكل الجرائد الوطنية وغير الوطنية بالطبع. فلعنة حرمان الصحيفة من الإعلانات لعنة تظل تطارد صاحبها في الحياة الدنيا حتى الممات. قد تلحق بنسله الميامين. إذا استطاع أن ينسل في ظل لعنته تلك. قال لي عبد الباقي بعد قليل من التفكير
- أقترح صديقنا الصحفي أحمد الباشا، هو أكثر شخص مناسب لهذه المهمة.
المشكلة الوحيدة في انه مراقب، تلفونه لا يعمل، ولا نعرف إليه سبيلا.
كان ينظر في عمق عيني. أو كنت أظن أنه كان يحملق في وجهي ليعرف ردود أفعالي وتأثير اقتراحه المثير. اقترحت عليه حكمة الجميل هي ذات خلفية قانونية مثقفةٌ وشديدة الجمال وأعرف انه يحب طريقتها في كتابة الشعر. تعمل بالمحاماة والصحافة في نفس الوقت. اقترح هو صديقتنا دكتورة مريم الطبيبة البشرية ذات النشاط، الهمة والقلب الحنين، قد عملنا معا كثيراً، خضنا مغامرات شتى في سبيل المتشردين والأطفال. هي شخصية لا يختلف عليها اثنان. عليه أن يتصل بالباشا، عليَّ أن اتصل بحكمة ومريم.
أمي تحرص بشدة على أن تكون علاقتها الخاصة في غاية السرية والكتمان، لا تريدني أن اشك لحظة في أن لها علاقة قد أفسرها بأنها مشبوهة قد تقلل - حسب ظنها- من حسن صورتها عندي، حيث أنها تعمل طوال الوقت على ان تجعل من نفسها قديسة في نظري، من حقها ذلك، ولو أنني أري ذلك تزيفا روحيا كبيرا. وان عليها ان تنتبه لنداء جسدها بصورة أو بأخرى. فلقد كانت جميلة وفتية، أهدرت وقتها وروحها من اجل تربيتي بصورة لائقة، فكنت وما زلت مشروعها في الحياة، المشروع الذي كاد ان يثبت فشله، أو انه فشل بالفعل، حسب رأيها عندما لا تكون في مزاج رائق. توفي والدي ذات صباح باكر. كنت حينها نائمة في غرفتي. احتضن كما كنت افعل طوال طفولتي دميتي الصغيرة التي احضرها لي أبي من دولة أجنبية زارها. علي ما اعتقد كانت فرنسا أو ألمانيا. استيقظتُ على صراخ النساء، جدتي، خالاتي، أمي ونساء الجيران. انتزعت نفسي من السرير هرولت ناحية باب الحجرة، لكنها كانت مغلقة من الخارج، أخذت اصرخ واضرب الباب بكفي الصغيرين، اصرخ بكل ما لدي من صوت واركل بكل قواي، إلى ان تعبت تماما، خمدت في شبه إغماء، لم يأت إليَّ احدٌ، اختفت الأصوات تدريجا حلَّ محلها همهمة رجال، ليس صوت أبي من بينها، كنت أميز صوته من بين كل الأصوات، وأستطيع ان اسمعه من مسافات طويلة. ثم جاءتني خالتي، حملتني من على الأرض، حيث تبولت دون إرادتي. أخذتني على كتفها. كان وجهها مبللا بالدموع، وبصوتها حشرجة غير مستحبة. بدأتُ اصرخ من جديد مطالبة بأمي، إلى ان جاءت بعينين بنيتين غارقتين في الدموع احتضنتني بقوة، قبلتني وطلبتْ مني ان اذهب مع: خالتو. أحسست بشيء غير عادي يحدث في بيتنا، لكن خالتي العجول هرولت بي إلي بيتها عابرةً الشوارع الواسعة الساخنة وأنا على كتفها اصرخ وارفس بقدمي.علي بعد ميلين من بيتنا، تركتني لألعب مع بنتيها الشيطانتين صديقتيَّ، أحبهما كثيرا، كنت اصغر منهما قليلا في العمر. حالما أنسَيَتاني كل شيء وأقامتا ليَّ عُرساً، زوجتاني من طفل من القصب صنعته الأخت الكبرى علياء، رقصتُ كعروس حقيقة، علي إيقاع صينية الشاي، فانا أحبُ الرقص،غنتا رقصتا، انضمت إلينا فتيات الجيران الأخريات، فقد كان عرسا بهيا وجميلاً. عندما عدت في اليوم الثالث لم أجد أبي في البيت إلي هذا الحين. كانت أمي تقول لي إنه مسافر إلي مكان بعيد، ثم أخبرتني فجأة بأنه مات أي ذهب إلى الجنة، كلنا سنلحق به آجلا أم عاجلا. سوف لا يأتي مرة أخرى للحياة الدنيا، هذا مصير البشر. ثم زرنا قبره مرارا وتكرارا لسنوات طويلة، صيفاً وشتاءً، في الأعياد، وفي المناسبات العامة، كلما مرضتُ أو مرضتْ أمي، كلما بلغنا الصحة، كلما مات أحد أقاربنا، بل كلما تذكرته أمي. ثم فجأة توقفنا عن زيارة قبره، وأستطيع أن أؤرخ لذلك منذ اليوم الذي التقينا فيه بما أسمته أمي صديقها الروائي وليد الجندي في المقابر. كان هو الآخر في زيارة لما اسماها المرحومة صديقتنا سيدة. لا ادري كيف تطورت العلاقة بينهما بعد ذلك بعيدا عن بصري وسمعي، بينما كنت أنا اكبر قليلا قليلا، تمر السنون علي، عليهما وعلى علاقتهما مع بعض. من جانبي كنت أحس بفقدان أبي، دائما ما ارغب في أن أتحدث إليه، كان يسافر كثيرا، إلا انه عندما يكون بالمنزل فانه يلعب معي، يحكي لي ويستمع إلي ثرثرتي. رغم صغري في ذلك الحين كنت أتعلم منه. واسأله عن أمور كثيرة لا اذكرها الآن لكنها تجعله يضحك من صميم قلبه ويحملني على كتفه، يجري بي في حوش البيت. أريد من يفعل بي ذلك الآن، قد يكون هذا مستحيلا لوزني الثقيل لكن غير المستحيل أن أجد من يحكي لي، يستمع لحكاياتي ويضحك من قلبه لأجلي. يقول عني أصحابي أنني مترددة وغالبا ما أغير رأي، ليس لعدم ثقة في النفس، ولو انه يبدو كذلك لكني كنت في صميمي احتاج لآخر يتخذ معي القرار. اقصد أنني احتاج فعلا لأبي في هذا الشأن قد يرى الناس ذلك غريبا بالنسبة لإنسانة في نهاية العقد الثاني من العمر. تخرجت في الجامعة منذ أكثر من خمس سنوات وأحبت ما لا يقل عن خمسة رجال. وتعمل في مجال حماية الأطفال والمشردين بصورة يشهد عليها مديريها بأنها متميزة وجادة. كان عبد الباقي قد عرف في وقت مبكر هذه المعضلة. واخذ يعلمني كيف املأ فراغ الأب، لكن المشكلة الأساسية تقع في انه ملأ هذا الفراغ بنفسه. كان يكبرني بعشرة أعوام. يعني أنه اصغر من أمي بثمانية سنوات. كما قلت من قبل أمي ليست طاعنة في السن. تكبرني بثمانية عشر عاما لا غير.أمي أيضا كانت تفتقد أبي، تفتقده بشدة وبصبر، إذا كانت صريحة معي كنت أمنت لها خصوصية عظيمة بل لساعدتها في أن تتزوج أيضا، بإمكان أمي أن تتزوج، ماذا يمنع.
كان وليد الجندي شخصاً غامضا، هو أيضا من نوعية الكتاب الذين يصبح كل نصيبهم من الإبداع كتاب واحد لم يكتمل أو بضع مقالات لم تنشر بعد، ثم يقضون بقية العمر في التضجر، لوم الدهر، صب اللعنة علي الحكومات، ضيق ذات اليد وفشل المشروع الوطني السوداني. في الحقيقة لم التق به سوى مرات معدودات طوال سنوات علاقته مع أمي، لأن أمي تحرص ألا تكون لي معه أية علاقة قد تقود إلي فضح تفاصيلها هي الشخصية. أمي أيضا كانت واحدة من الفريق. اقترحت أنا للفريق بان ينضم إلينا وليد الجندي. كانوا يعرفون انه مقرب إلى أسرتنا الصغيرة. لكنهم لا يعرفون تفاصيل علاقتنا به. رفضت أمي الفكرة في بادئ الأمر بحجة أن الفريق يجب أن يكون مختصرا بقدر الإمكان حتى لا يفتضح أمره. كما أعلنت، وهو سبب غير وجيه. كانت تضمر سببين آخرين مقنعين لم تصرح بهما. لكن عيناها برقت سعادة عندما أقنعتها حكمة الجميل بضرورة أن ينضم إلينا الأستاذ وليد الجندي، حتما سيستفيد الفريق من حسه الروائي والنقدي، حيث يشاع انه ضليع في النقد الأدبي أيضاً.
الاجتماع الأول كان في بيتنا، أنا وحكمة الجميل. علينا أن نجمع المعلومات عن مادة الميثانول. كل ما يخصها من تفاصيل، معلومات مكتبية من الانترنت عن طريق الأخ قوقل، معلومات ميدانية عن أين وكيف يوجد هذا الميثانول في الخرطوم، ومدى سهولة أو صعوبة الحصول عليه. هذا قد يقود إلى مصدره بالتالي يضعنا وجها لوجه أمام المتهم الأول أو الخيط الذي يقود إلى المتهم الأول. هذا إذا كان هنالك متهما في الأساس. لأن من نسميهم نحن بالجماعة أو الفرقة ونتهمهم بالتسبب في قتل المتشردين كانوا هم أيضا يتهمون جهات شريرة أخري- نحن بعض هذه الجهات- ويعملون ليل نهار من أجل القبض عليها ووضعها في ميزان العدالة. وهذا يضع كل اتهاماتنا لهم ليست سوى أوهام ويدرجها تحت نظرية التآمر، ما لم تكون هنالك معلومات جيدة، دقيقة ومؤكدة، لا توجد حقيقة. الرأي الأرجح اقصد الوسطي في الصحافة أنَّ احدهم سرق مادة الميثانول معتقدا أنها أثينول وباعها للمتشردين بحسن نية وغرضه وراء ذلك الربح الحلال. لا أكثر..
أمي ووليد مسئولان عن التحقيق مع وزارة الرعاية الإنسانية وان يتبعا في ذلك ما يستطيعان من الحيل والمكر البشري، عليهما أن يعرفا ما هو الرأي الحقيقي لوزارة الرعاية الإنسانية في هذا الشأن وما هي الإجراءات التي اتخذتها. ويا حبذا لو تطرقا علي سياساتها تجاه المتشردين. الدكتورة مريم وباقي. عليهما متابعة التشريح الجنائي الذي حدث للجثث. وان يحاولا من ذلك تحديد وقت تناول الميثانول. أما الباشا الذي لم يحضر الاجتماع لصعوبة الوصول إليه، فكان عليه القيام بتحقيق صحفي شامل مع إدارة شرطة أمدرمان محلية البقعة، أمين عام الرعاية الإنسانية، المدير الطبي لمستشفى أمدرمان التعليمي، الأحياء من الأطفال والمتشردين الذين نجوا من الموت، وبعض منظمات المجتمع المدني. قلت لأمي، على خلفية نقاش طويل عن الحب والحياة، مصائر البشر، عن الموت والجمال، أيضا عن العلاقة بين الرجل والمرأة، وقد مررت إليها عدة تلميحات عن علاقتها بالجندي، وبدا لي أنها تعاملت مع تلميحاتي بتسامح لم اعتده منها، مما شجعني على خطوة أكبر:
- أنا ادعوك الليلة للعشاء في سوق نمرة أتنين ومعانا الأستاذ.
سالت مندهشة
- منو الأستاذ؟
قلت لها وانأ انظر بزاويتي عيني في أم وجهها


.

الرسام الفرنسي إتيان ناصر الدين دينية
13884097971.jpg
  • Like
التفاعلات: 2 أشخاص

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى