سَنَوات الجَفَاف

ببطنها المنتفخ، نزلت تشتري ملحاً للطعام. عندما رآها وفيق الحلواني اندفع نحوها عارضاً عليها أنْ يحضر لها ما تريد. شكرته. نَهَر الحلواني العيال الثلاثة وهم يتقاذفون أمامها بالكرة الشَّراب المنبعجة. ابتسمت من رعبهم الطفولي... من وراء الشيش كانت تنظر إليهم وتتحسس بطنها. تمسح بعينيها الشَّارع الملعب الملتقي مع ترعة المحمودية. رسمته في مخيلتها كمربع. رفس حسين الكرة بغضب.. شاهدته في مباريات كثيرة، بأنفه الحاد وكتفيه العريضين، يعترض دائماً في دورات الكأس التي يقيمونها مع أطفال الشوارع الأخرى. خصوصاً إذا دخل في فريقه هدف يُصِر على أنَّ ذلك ليس هدفاً. بجعجعته ينكر الهزيمة ويحولها لفرصة يلغي بها المباراة. يخضعون له ويُكذبون عيونهم. اعتزل ذات يوم، فتوقف فريقه عن اللعب حَتَّى عاد لأنَّهم لا يستطيعون اللعب بدون جعجعة.

متي ستخرج يا عمرو من بطنها؟ ستكون محترفا مشهوراً. ستدخل النَّادي وتتعلم اللعب على أصوله. تحلم بعمرو من زمن مرارة العقم العجيب، أيام كانت حالتها تحير الأطباء. كانوا يؤكدون أنَّها سليمة تماماً كزوجها. يقولون أنَّ شيئاً خفياً يمنع الحمل. يد شيطانية تعبث بالرحم.. اضطرت مع إصرار حماتها وشوقها الجارف للولد للاغتسال يوم الخميس فوق جمجمة رجل أنجب سبعة ذكور. وضعتها بين فخذيها، اخترقتْ الجمجمة أدقّ أسرارها. نظر الموت لسِر لم يطلع عليه إنسان. عيون الجمجمة حية تحدق في الحرام. قطرات الْمَاء المتساقطة على جسدها إبر تَندب في أعصابها. شعرها جلد قنفذ. كادت تداري منطقة السِّر ولكنَّها توقفت مرعوبة عندما تذكرت تحذيرات المرأة- التي دلتها على الطَّريقة- عن عدم وضع اليد مهما كان الرًّعب المتصاعد لأعلى. كادت تصرخ. التحذيرات كتمت الصراخ. أزيز الصراخ تداخل مع الرعب المتصاعد من أسفل. اشتبك في جسدها. هزها هزات عنيفة. سقطت مغشياً عليها. خطف نوفل الكرة.. لا يمكن أن تنسى سُمْرَته الهادئة وجبينه البيضاوي المخدوش في منتصفه، حدث له ذلك حين أراد لاعب أنْ يأخذ الكرة منه. رطم رأسه في جدار البيت وأوهم الجميع أنَّه مدفوع للجدار. أخذ ضربة جزاء ومسح الدَّم ودفع الكرة بسرعة. قبل نهاية المباراة يغيِّر أسلوبه تماماً، يُصِيب البعض إصابات عنيفة.

من أجلك يا عمرو ذهبتْ مع حماتها النَّحيفة المعروقة لمقابر الآثار. الطَّريق مُتْرَّب حار، صامت بالموت. وضعت في يد الحارس نقوداً. مع خطواتهم للداخل بدأ الضوء يختفي. أشعل الحارس شمعة. المكان رطب. الضوء المتساقط من الشَّمعة أشباح غائرة في الجدران. الممر ضيق، خانق، كادت قدمها تنزلق. مسكت حماتها بشدة. صراخها تردَّد في النفق، رجَّ الجدران. وضع الحارس يده، على كتفها وهو يقول:

- لا تخافي.

كانت يده تتحسَّسها بخبث. من رعب الموقف لم تشعر بيده إلا بعد لحظات. أزاح يده. أسقط الشَّمعة على الأرض، الظلام قابض. تعلقتْ بجسد حماتها. تداخلت أنفاس الحارس مع الهواء الخانق. فاحت لُزُوجته قالت:

- سنأتي غداً.

همس لها عند باب المقبرة.

- تعالي بمفردك. اتركي المرأة العجوز.

خرجت ولم تعد.. الكرة مع حسونة. دائماً تنحي عينيها عن أنفه الضَّخم وأذنيه الكبيرين، يلعب مع كلا الفرقين، يرضي الجميع فهو لا يتحمل أنْ يغضب منه أحد. إذا آذاه أحدهم- حَتَّى لو كان خارج اللعب- آثار نوفل حَتَّى ينتقم منه في المباراة. فعل ذلك مع عمَّار الذي أمسكه وهو عائد من المدرسة وأجبره على إخراج ما معه من أقلام.

أيام جافة قضتها قبل أن تأتي يا عمرو.. ذهبت للمساجد. تبركت بالمشايخ وأولياء الله. كلام المشايخ طيب خاطرها ولكن حماتها جعلتها تذهب لمولد القديسة دميانة.. ذهبتْ وعادتْ كما ذهبتْ. صنعتْ أعاجيب حَتَّى يئسوا جميعاً من حملها ولم يعد أحد يطالبها أنْ تفعل شيئاً. لكنها لم تفقد الأمل و..

جاء الفرج وانتفخ بطنها. ظنُّوا جميعاً أنَّ الحمل كاذب كما حدث لانشراح ولكنَّ الأطباء أكدوا الحمل وإنْ اختلفوا في الزَّمن الباقي على خروجه. طالبوها بالاستعداد لأنَّ مجيء عمرو قد أوشك.

يا فرحتها عندما يتحرك في بطنها، يوقظها في عزِّ الليل، كأنَّه يريد أنْ يشرب فيجفف حلقها من الدَّاخل. في الليالي القمرية لا يجعلها تنام، يضرب ويدق قاع بطنها حَتَّى تخرج ويستحم في ضوء القمر.

أمسك نوفل الكرة. وهو يضحك صوبها لرأس حسونة جري حسين وراء حسونة ليمسكه. دار حسونه حولهما لامسا تكويرة البطن. ضحكتْ وهي تمنع الإيشارب الأبيض من السُّقوط. دفع نوفل الكرة. اختبأ الاثنان وراء البطن. استقرتْ الكرة في جنبها. مسكتْ بطنها، تمايلتْ ببطء. وقعتْ على أرضية الشَّارع.

اندفع الثلاثة لزقاق جانبي. جرى الحلواني يسب ويلعن. أقسم لو شاهدهم مَرَّة أخرى ليقصفن رقابهم. اندفع قاسم النَّجار ومرقص البقال ناحيتها. رفعاها من تحت إبطيها بهدوء وحنان. ما يزال الحلواني يجري وراء العيال. نهضت وسرسوب دمْ رفيع يصنع خطاً متعرجاً على الشَّارع المُرَبَّع.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى