مارلين وديع سعادة - الجاسوس

بدأت المأساة بمزاح سمج كان أبو قاسم يتقبّله ببسمة صفراء اصفرار ما تبقى من أسنانه التي تفترّ عنها.

وأبو قاسم هذا هو بائع الخضار المتجوّل مع حماره الجلود الذي لا يتعب من جر “الطنبر” المحمّل بأنواع الخضار، ينادي عليها صاحبها طول النهار.

من يراقب أبا قاسم خلال يوم من أيامه يمكنه أن يختصر كل ما تنطوي عليه حياة هذا الرجل دينا ودنيا. فأبو قاسم مسلم تقي يخاف الله ولا يهمل فرضاً من فروض ديانته.. ولأنه يدرك تماما أن مسؤولياته تجاه عائلته المؤلفة من زوجة وخمسة أولاد (صبي وأربع بنات)، كبيرهم في الثامنة من عمره، لا تسمح له بإدخار بعض المال ليقوم بفريضة الحج، أبى إلاّ أن يدفع نذراً ولو يسيراً مما يربحه من عمله ليكفّر به عن تقصيره! مستغفراً الله على تعنيتات زوجته له، إذ تعتبر أنَ أولادها أحق بالمساعدة، شافعة تأنيبها بقصّة حياتها، يرددها أبو قاسم المسكين معها – وقد حفظها – صاراً على أسنانه، فهي تلعن سوء حظها إذ ارتبطت بعجوز بسيط ساذج – وتخجلها تقواه أن تقول “أبله” – لا يعرف كيف يحتال لكسب لقمة عيشه. كما لا يسمح لها أن تساعده في العمل، إذ يعتبر أنّ من واجباتها فقط تربية أولادها…

وهنا تغصّ “حسنة” – وهو إسم زوجته – كما لتتحاشى إظهار ما تكتمه من فورة غضبها فتقع الكارثة…

“حقاً كم أنً حظّك سيّء يا “حسنة”! يظن هذا العجوز أنه يربي عائلته بما يجمعه في نهاره من ليرات، الشحاذ يجمع أكثر منها… لا يعلم أنه لولا ما تجمعه “حسنة” المسكينة من عملها سراً في البيوت ، وما تجلبه من ملابس وأغراض يتصدق بها المحسنون، لكنّا متنا جوعاً. ويظن أنها تأتي بجهده وماله، مردداً: أرأيت يا “حسنة” أن عملي يكفينا والله يرزقنا؟…”

لقد تعوّد أبو قاسم المناقرة، وكان سلاحه الوحيد لرد ظلم زوجته وزبائنه له، طلبه مغفرة الله. فإن اتهمته “أم إيلي” برفع الأسعار، وبأن الربع ليرة ثمن باقة الفجل نصفه ربح صافٍ له… إنقبض قلبه على غضب يأبى أن يصرخ به فيكظمه مجالداً على ناره حتى يخمده بقوله: “أستغفر الله”…

اليوم يدرك أبو قاسم كم أنّ حياته الماضية، على الرغم من مشاكلها ومتاعبها، كانت جميلة وهانئة… أين أصبح اليوم زبائنه؟ لقد هجروا جميعاً منازلهم هرباً من الحرب. لا شك أنّهم سيجدون من يلجأون إليه، أما أبو قاسم فليس له من مأوى سوى بيته يختبئ وعائلته داخل جدرانه المرتجة مع كل قنبلة أو قذيفة، لا ينتظرون سوى الموت.

… نعم، كم كانت تلك الأيام جميلة! أين “أم إيلي” تساومه على القرش؟ وأولاد الشارع الأعلى يسرقون، على غفلة منه، شيئا من خضاره؟… لقد أضحى “الطنبر” اليوم خالياً، ف “مصطفى” الذي كان يزوّده بالخضار، يحملها من الجنوب ليبيعها في الضاحية، لم يعد يأتِ هو الآخر.

كانت “حسنة” متأكدة من أنهم سيموتون جوعاً لولاها، فقد استطاعت أن تستعطف صاحب منزل فخم في الجوار كي يقبل أبا قاسم كناطور لمنزله وأرضه في فترة غيابه، تدعم طلبها بتنبيه رب البيت إلى كثرة السرقات ووجوب حماية المنزل… وحاجتهم إلى المال؛ وأجره لدى الله إذ ينقذ العائلة من الموت جوعاً…

***

Marleine

لم يرق العمل الجديد لأبي قاسم، خاصة أنّه يفرض عليه حمل السلاح. وأبى أن تنتقل عائلته لتعيش معه في الغرفة المخصصة له في المنزل، مكتفيا بزيارتهم من وقت إلى آخر، يرافقه باستمرار حماره و”طنبره” يضع فيه شيئاً من الخضار التي زرعها – بعد أخذ إذن صاحب المنزل – في الحديقة…

لم يكن أبو قاسم يحتاج للعربة كي يحمل هذا النذر من الأغراض، إلاّ أنّه كان يجد لذّة في سوق الحمار و”الطنبر”، فهما رفيقاه الأمينان اللذان شقيا معه في تحصيل لقمة العيش له ولعائلته، ويعزّ عليه فراقهما.

في حرب السنتين تحوّلت نقطة أبي قاسم إلى خط نار خطير، نتج عنه انقسام المنطقة إلى شطرين يسيطر على كلٍّ منهما فريق حزبي معادٍ للفريق الحزبي الآخر. وكان أنّ منزل أبي قاسم وقع إثر هذا التقسيم في جهة، وعمله في الجهة الأخرى. فكان يلقى صعوبة في العبور إلى منزله إذ كان كلّما مرّ على المقاتلين يتعرّض لسخريتهم ومزاحهم الثقيل… حتى أنهم كانوا يُلزمونه أحياناً بمساعدتهم في بناء الحواجز، مستعينين بعربته يحمل عليها أكياس الرمل بعدما يعبّئها بنفسه وهم يراقبونه ضاحكين…
lebanese_civil_war01
ابو الغضب

مع التطورات الأخيرة أضحى عمل أبي قاسم شاقا جدا، فإضافة إلى أنّ الشباب يسخّرونه هو وعربته وحماره للعمل معهم، كان عليه أن يواجه المتجرّئين على دخول المنزل الذي يعمل فيه، بغية التفرج – كما يقولون – وفي الواقع كان أبو قاسم يدرك أن غايتهم الوحيدة هي السرقة.

واحد من المقاتلين- ويُعرف بـ “أبي الغضب”- غاظه أن يقف ” العجوز الخرِف، كتلة العظام” – كما يسميه – في طريقه،” فمن يحسب نفسه؟!”

يبدو أنّ أبا قاسم لم يدرك بعدْ التطور الحاصل بعدَ حرب السنتين، وأنّ قوّة السلاح والزعامات هي الآمرة الناهية، والويل لمن يقف في طريقها… لم يعرف أن حرمة الدين والشيخوخة قضت نحبها إثر أوّل فوج تلاميذ خُرّج قبل الأوان إلى المعارك…

وصمم هذا الشاب على “كسر رأس هذا العجوز”، فكان أكثر المتحرّشين به؛ حتى أنّه لم يتوانَ ذات ليلة عن دخول المنزل خلسة، فتلقّفته رصاصة في ذراعه أطلقها أبو قاسم بعد صراع طويل مع نفسه… فاجتمع على الصوت كل شباب المركز… ولم يعرف أبو قاسم هوية المتسلل الذي ولَّى هارباً، تاركاً آثار دمائه النازفة وراءه.

إلا أنه بعد ذلك بأيام لم يعد يرى “أبا الغضب”، فساوره الشك. ولو أمكن لأبي قاسم أن يقتفي أثر “أبي الغضب” ويرافقه إلى بيته وراء خط النار، لأدرك كم أنّه يظلم هذا “البطل” الذي تجمّع حوله، في ذلك اليوم، أهله وأحباؤه يتفاخرون بجرأته التي تشهد عليها رصاصة في ذراعه تلقاها في هجوم باسل قام به على العدو!

بعدما انهى”أبو الغضب” فترة النقاهة عاد إلى المركز، وكان هدفه الوحيد تحطيم رأس أبي قاسم، ولكن هذه المرة بالفعل لا بالقول. بدأ بتنفيذ مشروعه الذي خطط له فترة غيابه؛ فكانت أول خطوة له إثارة اشاعات في المركز بأن أبا قاسم جاسوس ينقل أخبارهم إلى العدو أثناء زيارته لعائلته. فسخر منه رفاقه هازئين، مستخفين بـ”قدرات” أبي قاسم.

***

ok

ولكن حصل مرّة، إثر زيارة أبي قاسم لعائلته، أن تعرّض المركز لمحاولة تسلل، كان سيُكتب لها النجاح لقلة عناصر الخدمة يومها؛ لولا أنّ فرقة مساعدة جاءت فجأة تدعم الشباب… وأدرك القادة أن معلومات دقيقة سُرّبت إلى العدو عن أحوال المركز في ذلك اليوم، ولا بد من وجود جاسوس ينقل هذه الأسرار…

ولأن أبا قاسم هو الوحيد الذي يعبر إلى منطقة العدو، ولأن لقب “جاسوس” ركبه سابقاً، اتجهت أصابع الإتهام نحوه، فسيق من مقر عمله قبل طلوع الفجر إلى المركز حيث بدأ الإستنطاق، وأبوقاسم ذاهل لا يحير جوابا! فكان سكوته رد جواب، وقرر كل من في المركز أنّ أبا قاسم هو الجاسوس، ويجب أن يُعاقب عقاب جاسوس.

في ذلك اليوم أيضاً قُدّم نيشان فخري لـ “أبي الغضب” الذي كشف التسلل في اللحظة الأخيرة وطلب مساعدة… وسُمح له أن ينفّذ بنفسه الحكم على أبي قاسم.

لا يزال إلى اليوم بعض المقيمين في المنطقة يتذكرون ما آل إليه مصير رجل عجوز- قد يكون جاسوساً- إذ رُبط من قدميه بحبال موصولة بعربة ينطلق بها حمار مسعور إثر ضربات السياط… فتأكل الطريق من لحم العجوز وعظمه وترتوي بدمائه… ويكون آخر مشهد: حمار ميت تحت عربة مقلوبة، يتدلى منها حبلان، علق بهما ما يشبه بقايا إنسان…


العلالي

6 نيسان 1988

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى