نعمات البحيري - مقعد صغير في القلب.. قصة

البدايات دائما رحبة و فضفاضة و رقراقة كمياه النهر ، و ساحبة كالرمال الناعمة ، خاص في الحب و الزواج . نظل نغزل من الحلم أثوابا وردية فتتداخل الأفراح و تتباعد الأتراح و تتناءى الشرور ، و نتبادل الأسرار و نفتح الروح على لروح و القلب على القلب لتنفتح نوافذ على القمر و الشمس و السماء ، تجزل عطاءها على المحبين و الراضين و القانعين بأقل القليل ، تمتد الأزمنة و الأمكنة فراشا للمحبين و يبدو الكل للكل سترا و غطاء.
سنة الحياة و البشر و النبت الصغير الذي ينشأ ثم يترعرع في أرض طيبة حتى و لو كانت صخرية. لكننا حين هبت العاصفة لم تستطع الأذرع و العيون و القلوب اتقاءها ، و أخذت في وجهها كل شيء و لم يبق أي شيء ، ثم هدأت مخلفة الرماد المتطاير ذرات في العيون و حدث الانفصال. لكنني ظلت أرسل له مع المسافرين سجائر مصرية التي يحبها و شايا و بنا على الرغم من أن الحياة بدت مثل ثوب جميل انقلب على ظهره ، أو – دون أن تنزعجوا من سخريتي المؤلمة – فردة شراب مقلوبة. على الرغم أيضا من أننا لم ننتظر حتى تفرز العلاقة بيننا أنكر الأصوات و أفظع الروائح و أقبح الألوان و الصفات و النعوت فيروح كل منا يبذل جهودا مضنية في تحميل الآخر مغبة ما حدث و ما يحدث و ما سوف يحدث..
بعد انفصالنا لأسباب لا داعي للخوض فيها الآن قات الدنيا و لم تقع وهبت العاصفة ، و تقلب الجرح مثل الألم الناتج عن انفصال الظفر من اللحم ، ثم هدأ تدريجيا كل شيء حتى اليأس.
تدخل الكثيرون ، كل يدلي بدلوه عن النتائج و الأسباب و المسببات، و تعالت أنفاس الحقد و الحس و التشفي و التشويش و ارتباك التفسير و التأويل لما آلت إليه الحال و الأحوال و عزف البعض كونشرتات القيل و القال.
انطلق تماما المارد من قمقمه ، و رغم كل الخرافات و الأساطير التي قيلت عن الحب و الحلم داخل القمقم ، انطلق ليمنحني رحابة الحرية و استنشاق أنفاسها و استحلاب مذاق طيب ، و رغم فرقتنا و كل فرقتنا و كل منا صارت له حياته ، إلا أنني قررت أن أبقي له مقعدا صغيرا في القلب ، فمشينا معا دون اتفاق مسبق أولى خطوات التحرر من قدر النهايات المفجعة لأجمل علاقات الحب و الزواج.
في البدء كانت دهشته ، ثم جاء فرز الأيام و الشهور و الأحلام و الكوابيس التي عشناها معا أو في البعد و التنائي في كتاب أهداني إياه.
و كتب إهداء في مقدمة الكتاب.
" إلى امرأة جميلة ، كانت يوما زوجتي ".
كان الكتاب أول دواوينه الشعرية و لم يكن عره بشاعر لكنه صار هكذا بعد انفصالنا ، ثم أقام من بيتنا متحفا و راح يهمس للأصدقاء.
" هنا كانت تكتب ، و هنا كنا نقرأ معا في الإيديولوجية .
و هنا كانت تأكل رأسي خوفا من الصواريخ الليلية.
بعدها تتلو الشهادة و تنام ،
و هنا خصلة من شعرها الأسود،
و هنا يرقد خاتمها الذهبي ،
نسيته في إحدى الغارات و فرت "...
ثم تباعدنا و تنائينا و سار كل في طريقه ، لكنه ظل كلما رأى أحدا يعرفني أرسل لي معه كتابا ألفه أو آخر عجب به ، أو باقة ورد يابسة ، و كذلك ظلت كلما سافر إليه أحد أرسلت له سجائر مصرية يحبها.
ذات مرة أرسل لي رسالة صغيرة كتب فيها..
زوجتي ... نعم ما زلت زوجتي... ألم يعد بيننا غير الدخان ؟.
كان و لا يزال الود يأخذ مداه رغم الفرقة ، و رغم ادعاء العمليين و الواقعيين بعبث الود و فوضى المشاعر و سذاجة الرومانسية.
و كنت أسخر من كل هذا بخفة دم ، و ربما أخف كثيرا من قدرتي على فعل الجفوة بيني و بين زوجي السابق الذي صرت أتعامل معه مثل جزء من تاريخي. تاريخ الألم و البهجة ، أو تاريخ الحل القديم بعروبة و وحدة و قوة.
مرت الأيام و كتبت عن لساني قصائد و روايات و قصصا جديدة ، على الرغم من أنني توخيت الحيطة و الحذر ، و لم أكن لأجرؤ على الخروج و لو قليلا خارج جدران الممكن و المسموح ، لكنه قدر الخبرة الإنسانية المغايرة ، الذي يجعلك تقفز داخل الحياة قفزات هائلة لأن الود الإنساني في عصر الكمبيوتر و الإنترنت و العولمة قفز قفزات هائلة للوراء ، فالأيام و التجارب و الخبرات حتى السيئ منها ، يمنحني هواء غير محدود للتنفس.
دق الباب .. كان أحد أصدقائه عابرا بحينا ، ترك باقة ورود يابسة و رسالة صغيرة و كتابا.

نعمات البحيري - 2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى