بسمة الشوالي - المغتسلة..

-1-

– سالمة هلاّ أرحت هذا الجسد يكاد فخّاره يشّقّف من نصب الحركة الشَّرُود فتهْوَيْن كِسَرا لا تلتئم..؟

أقلّي عليك هذا الشّقاء ولو راحة قصيرة.

حدجت سالمة الجالسات نظرة وَقَدا أوقعت فيهنّ وفي أختِها خيفة نُكْرا. كانت تسند المكنسة إلى الجدار، وتهمّ ترشّ السّاحة ماء مترعا بمحلول “الجافال” المركّز. يصيب الطّشيش قوائم الكراسي وأهداب أثوابهنّ، فيكْبُبْن هوالع يتفقّدن ملابسهنّ، ويغضضن غيظهنّ مشفقات أو متبرّمات.

فَاجَأَها الصّوت الدّامع يخضخض جرّة الهدوء المستتبّ في وعيها العائم على سطح الأحداث الواقعيّة، فأزبد التّشويش على مفارق النّظرات الحيرى. اِنقطعت تصرف رأسها إلى خواطرها الزِّحام، وترجع من طرف السّهوم القاصي مقدارا مضطربا من الاتّزان. زهتْ: نصف قهقهةٍ، فابتسامة منحسرة، فوجه جهْم.. يسرّها زفاف ابنتها، لكنّها تحزن لانصرافها عن المنزل. لمن تبثّ شكاة لا تنتهي أماسي وأفْجارا..؟

حمّالة آهات نعيمة، ومخزن لصنوف الهموم. كانت حليفها الوحيد في وجه أبيها، لكنّها ماكرة على كلّ حال. تحالفه بين آونة وأخرى، وتنسب الأمر لعدالة البُنُوّة لا غير.

قطّبت سالمة. هيأتها المرتّبة تمادت تختلط. مسيل الكُحْل لطّخ بالسّواد الخدّين قبل أن يجفّ مجراه. شعرها المسرّح عرِقَ وقَفّ. وجهها سحنة متوتّرة، ذات دكنة شاحبة، يضمر صرخة موقوتة، ويجهر بعداء كظيم. وأصابعها نِصال عشرة مستنفرة العداء، تحنّت أطرافها بدُقاق الفحم والأبْخِرة..

ردّت في غليل دفين:

– ما لك يا ابنة أمّي..؟ هل أترك الدّار على وسخ يوم زفاف ابنتي فأكون أضحوكة الدّانيات والقاصيات..؟ كان الأجدر أن تساعديني.

ومسحت منفعلة، حانقة، شمطاء النّظرةِ، يديها المبلّلتين في فستان فسّخت طُفاحة الدّلو ألْوانَه، وتقاطر ماؤه على حفا القدمين. ثمّ غمرت من جيبها نثرة من بخور ألقتها على فحم وهيج كَدَمِها..

“ومِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذَا حَسَدَ..”
” قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ..” قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ”
” .. مِنْ شَرِّ مَا خَلَقَ”

اِعترضت الأخت الرّيح الزّاكية تُعْشي دمعها المتواري:

– رجاء يا سالمة، وجهك تفحّم من عجاج البخور، والسّاحة أكثر من نظيفة. اُنظري يا أُخيّة.. نضَت المكنسةُ الأرضَ من دقيق التّراب، وأبان فرط الماء عظمَها.. فماذا تكنسين بعْدُ وماذا تغسلين..؟

– أشياء فوق العدّ تستحثّني.. أشرف النّهار على انتصافه، ولم أُنجز ما عليّ. لا أحبّ أن يدركني أهل أمجد على فوضى.

إيه.. أنّى للأمّ راحة أو هجعة.. حسبي حُرقة أنّ الخالة تلزم مقعدا لا مباليا كهؤلاء الغريبات كأنْ لا تمتّ لها العروس برحِم.

– كلا يا أُخيّة. المنزل مهيّأ للمناسبة كأجمل البيوت. والعروس تستعدّ اغتسالا، فيما بيتها الجديد مُنجّد بما شاء الله من الرّحمة. تعالي. تنامين قليلا بينما تجهز هي، أو تستريحين بعض الجلوس.. لك مَدُّ العمر للاحتفال يا أمّ نعيمة.. وليالٍ عُسُرٍ.. بربّك أخيّتي، أريحي شيئا من الوقت. لم يخلد النّوم لجفنيك منذ الواقعة. تعالي. اِجلسي جنبي.

سهمت سالمة بمنأى عن الخطاب، وانفرطت دون محدّثتِها تذرع السّاحة خطوات تائهة عن المغزى. ترشّ هذا المكان، وتكنس ذاك، وترجع هرولة إلى الكانون تلقمه نارا ومسحوقا عطرا. تفرّست في النّسوة الباسِرات يتكاثرن في منزلها خارج انتباهها، ويصطفِفْن على الكراسي البيضاء. قطّبت فمها تستنكر، وتحسر شعرها الشّعث إلى ما خلف أذنيها.

هنّ يتسابقن بالفضول إلى منزلها فيسترقن الأخبار عن جهاز ابنتها من أقفال الغرف ووشوشة الأحاديث الجانبيّة، وإذ تحول المراتيج دونهنّ وما أضمرن، يجلسن كَمِدات على كآبة كأنّ على رؤوسهنّ جثامين تستعجل مراقدها. يزمُمْن شفاههنّ، يزْوِين جُبُنهنّ، ويوشك الكلام المكتوم في قناني الصّدور أن يتفجّر حسدا نابيا كمطر البرَد..

شزرتهنّ رجما بالحُنق، وكرهتهنّ خُفية..

” لعينات حاسدات كأنّما يقدِمن إلى مأتم. أُقدِّم لهنّ شراب اللّوز فتزورّ عنه بعضهنّ عابسات. وتستحي أخريات فيتناولن كؤوسهنّ، ولا يرتشفن منها جرعة واحدة..

لولا غضب نعيمة وشماتتهنّ لطردتُهنّ.”

شردت من جديد تلوّح لخاطر ما بابتسامتها النّافرة من شفة اليُبْس. تدلّت نظراتها على حدير الشّرود، وبدا كأنّها تغادر اللّحظة برمّة اكتظاظها وصخبها المضغوط، وتغور حيث لا أحد يدري.. رأت كأنّ قبضة يد تشجّ سماء الخاطر وتتّجه نحوها. بوغتت، وتراجعت عن موقفها تتّقي خطرها، وتذود عن وجهها بذراعين متقاطعين قبل أن تأخذ في التّراخي أرضا..

هبّت إليها نساء جزعات يلقفن هُويّها فاستدركت سريعا تتنصّل من الأذرع الرّئيفة، وتشيح عنهنّ مُغضَبة، محدّثة نفسها في تمتمة جهيرة..

“.. بل دعيهنّ يا سالمة، ستحضّ الدّرابيك خصورهنّ الباردة بعد قليل فيقمن عن وجومهنّ يرقصن ويزغردن. كادت أجمل العرائس تنهي اغتسالها. لا شكّ النّساء يُلْبِسنها الآن فستان الزّفاف.. ويلي لم أشْرِ لها الحنّاء.. لا، شريتها. أذكر أنّي خرجت أمس، أو صباح اليوم أظنّ، لا بل أوّل أمس خرجت لهذا الغرض..”

عَراها بالفكرة المُحنّاة بعض اطمئنان أرجعها حيث كانت أختها تلطم خدّا، وتضرب كفّا، وتغالب دمعا همولا.

اِبتسمت لها حانية في شحوب مريع. اِنتبهت أنّ من قِرى ذوي القربى أن تُشفق على أختها المسكينة. كانت نهَرَتْها بقسوة دون ذنب. ألْقت الدّلو بغتة من يدها فبقبق جوفه وصرخت نسوة تبلّلن حتى وجوههنّ. خفّت لها الأخت تطوّقها برفق وتُجلسها جانبها، فاستجابت تقتعد جانبا حذرا من الكرسيّ، وتصرّف وجهها في أنحاء السّاحة من منزلها..

الخشوع يتعبّد الزّوايا والقلوب، والكدر يُطبق بصَلَف السّكات على شفاه تحتدم خلف أسوارها الأسئلة. ماء يسيح حتى الأقدام من غرفة نعيمة الموصدة خطّا لطيف المسرى، أَوِدا ما يفتأ يزخر كسيل موسميّ متّخذا مجراه اليوميّ. صفوف الكراسي عمَرتْ كلّها زائراتٍ متزمّتات. وأخذت جوانب السّاحة تعمر أخريات واقفات. رجال تعمّموا الصّمت يتكاثرون على الجنوب الخارجيّة. الأب يتكوّم في ركن قاصٍ جذمة أتلفها الهمّ. والابن متوتّر الخطى، يحوّم حول أمّه ولا يكلّمها، أو يتخلّى للمناسبة عن الهيئة المتعالية لرجل مرموق.

اِستقرّت سالمة على الرّثاثة من مشهد زوجها نيفا قاسيا من البهَت رتّبت عليه مزق الحادثة السّالفة..

كان موظّفا ضيّع بالتّقاعد رشد الحركة، وأذهب عنه الفراغ بطش العنفوان، فانقلبت الرّاحة في قعوده شؤما على الصّمت والكلام. وانشغلت هي بعراكه. تناوره كامرأة غير مَرْضِيَّة لتجْزَى بالصّراخ في وجهه عن لياليها المُدقعة، وأيّامها الذّليلة..

أمجد كان الخبرَ المستعجل الذي أحيا ابنتها كحزن السّماء النّمير ينثّ شفيقا على الأجساد الظِّماء، كان الخطأَ الذي أودى بها كالطّعنة العشواء..

لم يرض فرد من العائلة تزويجه منها. مطلّق له سيرة زيرِ عبثٍ قديم تردّد الأصقاع المحيطة فصول قصصه، وصفة مزواج سكن إلى امرأة فتوفّاها أجلها، وسكنت إليه ثانية فطلّقها، وهجر الثالثة أيّام خطبتها.. ثمّ هو اليوم يعتزم في العقد الخامس من عمره وضع حجر الأساس الجديد لحياته على خواء الكفّ، وكثافة النّحْس. ثمّ إنّ لنعيمة أختا صغرى لم تنه دراستها بعد.. فمن يكفلها إن هي تزوّجت..؟ الأخ الأصغر منشغل ببناء مستقبله، والباقون في شغل الحياة غرقى وتائهون..

صباح أوّل أمس، تغاضت العروس عن الشِّجار المسترسل على وتيرة العادة من غرفة نوم والديها تعتكف على إعداد المساء القادم احتفاء بخطبتها. قد لا يحضر أحد لاستقبال أمجد، قد يُطرد.. لكنّها ستوافيه عن رُشد تأخّر به العمر كثيرا.

قالت إنّ القساوة في بيتنا دُوَل، بعكس الأفراح، تعيد نفسها بجديّة لا تفسدها مهزلة، وقلوبنا غرابيل متّسعة الثّقوب تنخل حبّات الفرح الضّئيلة، وتترك لنا ما ثَخُن من الهمّ وتكثّف. وإنّ تحت كلّ نقضٍ حياة محتملة. فكلّ كِسْرَة من كِسَر الكيان المشتّت تحتفظ في حوافّها المسنّنة برسمة الكِسْرة الملائمة لها. لحظة يحين قدر اللّقاء تتداخل انكسارات الحوافّ، وتأتلف الكِسْرتان.. هي فقط أرادت أن تدفع عن أهلها قذاء الألسن بالتي هي أحسن. لكنّ قرار خروجها عن طاعة الوالدين في سنّ تفوق الأربعين بأمل ضئيل أذكى الخصومات اليوميّة بنقاط اختلاف مغايرة كسرت رتابة العداء العائليّ المألوف. وجدّدت لغته، وأشكاله، وسِجالاته..

كانت تدندن بالفرح في أهازيج الصّبا الضّحوك، وتراجع ما سلف من جنون الحبّ المنفرط. تهتك ستُر الكدر عن نوافذ الانتظار الحزينة. ترمي الرّثيثَ إلى سلال المهملات، وتسحب من أدراجها المقفلة عددا من السّنين الرّواكد باقات الورد المصنّع، وهفيف السّتائر، وكُسى النّمارق.. فتنضّد، وتسدل، وتفرش بعناية الأمل الوريف يهدهد وجيب القلب بالأمنيات العِذاب، ويَضِن طاقات الوعد للغد الرّابض متلهّفا على عتبة المساء الخرافيّ القادم بعد حين.. بعد بضع يوم لن يكون كغيره ذا قسوة، طويلا..

اِشتدّ الخصام. تطايرت قطع من أثاث، وتشظّت مواعين، وتطاولت الألسن بالشّتائم.. خشيَتْ نعيمة الدّمارَ يطال غرفة الجلوس المتبرّجة احتفاء بالخطبة حين لم يجنح أحدهما للسّلم أو الهزيمة ريثما يعبر الوقتَ موكبُ المساء.

خرجت عن برود الصّبر تخترق مرحلة العنف الجسديّ المحتمل. قد تزرقّ لأمّها عين، أو تتورّم وجْنة تجعلها مضغة الأفواه اللّواذع. وقد يقع والدها يتمرّغ في نوبة تشنّج عصبيّ تنتهي به، كحفلات سابقات، إلى المستشفى في ليلة مرتجاة..

المناسبة جديرة بسلّة شتائم تُفرغ عليها، أو بعض الضّربات الطّائشة تنال منها هنا أو هناك..

توسّطتهما..

أذْرُع أربعة تتناوش فيما جسمها جدار صدّ يصدع ويئنّ. ولسانان يتطاولان في تقاذف اللّعنات، وزخّات السّباب، ورذاذ الشّتائم.. و..

سقط جدار الصّدّ لا ينبس فيه عِرق، ولا يهسّ منه نفس.. ولا ..

سالمة.. ماذا حدث..؟

لقد.. نعم.. تذكر مليّا.. جذب زوجها ابنته ناحية يزيحها من أمامه، ورفع صوبها هي جُمُع يده.. ثمّ..

اِرتعبت سالمة ثانية للومضة المسترجعة تُواري رأسها من جديد ذراعيها المتقاطعين..

ثمّ ماذا..؟

لم تعد تذكر.. اِنفلت خيط السّرد للمرّة ما بعد التّكرار بعدد مجهول.. اِستطارت غضبا..

هي لم تنس نأمة ممّا حدث، لكنّ الحركة كانت برقا ومِضا، رُمحا بطيشا شرخ فضاء البصر الزّائغ..

بل تذكر كثيرا.. الضّربة التي ندّت عن اليد المكوّرة كانت قويّة، وقد أدركت موضعا ما.. هي فقط لا تعرف هذا التّفصيل الدّقيق الواقع قبل هذه الـ”ثمّ” الغامضة، ذلك الفعلَ المختصر، الخطِر، المستثنى من العلم..

من أصابت يدُه..؟ هي..؟ ابنتَها..؟ لا أحد..؟

تحسّست مواضعها.. للفعلة في جسمها ذكرى تنبض بالوجع المضيض، وليس لها أثر من رضّة، أو زرقة، أو كدمة..

ونعيمة..؟ ماذا حدث لها إذن..؟

ـــ 2 ـــ

في الخارج، مسافةَ ضفّتين وواد ذليل، أناخ أمجد منهوكا بالسّهاد على جرف الانهيار من ضفّة الوادي الثّانية ينتظر خروج عروسه كانت حينها تغتسل لغير شفتيه، وتتبرّج لغير عينيه شهّاء الثّمر الرّغيد، وتُعِدّ جسدها البذخ هبةً خالصة الوفاء لغير شوقه التّائه عن رُوَائه.. زفر حرقة. كأنْ لم يحي بكلّ ذلك الصّخب الجميل إلاّ كما البهلوان يمشي زهْوا على حبل من الصُّدف يشدّه العدم من طرفيه، فكلّما قرّ إلى حُضنٍ رجّ القلق نفسه، وبعثر دواخله..

كان يرفل في بدلة سوداء بِكر توالي السّكينة الصّفراء على وجه الحبيبة، وصقيعَ اللّهفة في دمها. ترك القميص مسدولا فوق البنطال. ومن النّعال تخيّر لقدميه حذاء مغبرّا. وأهمل وجهه للشّعث فبلغ منه فجأة عتوّ المشيب، وتغشّت قسماته قطعة من ليل بهيم يُلَعْثِم فرحة اللّقاء المُتخيَّل. القلب زاهد يتزمّل حتى ذُراه بالخشية، بينما ينسج اللّسان من الكلام خيمة حريرا تستر رجفة الشّوق القديم الكامن فيه إليها..

وكان، على غير أدب الإشفاق حين استفحالِ المواجع بالعُشّاق، فرِحا مستطيرا بحفا “حُنيْن”، وفقْد “شَنٍّ” لـ “طبَقَة”، وسير المحِبّ الضّليل بلا زاد ولا سخيّ يُسْرج ناره للعابرين.. على غير الأحياء الآيِلين إلى الزّوال كان، مزهوّا بموته القادم بعد قليل..

تأوّدت تباشير الهجير لاهثة الأنفاس. ذوى جسد الوادي لوطء الحرّ، ولفّه ما يشبه الغيم اللّظى. جنح أكثر العباد إلى المخادع يقيلون سوى الكلاب تقعي على ذيولها ولُهاثها، وترصد من خرجوا في غفوات الأعين وغفلات القلوب ليأتوا كلّ الذي تحاشوْه في وضح الرّؤية، واعتدال الأوقات..

أخذ بعض النّاس يقدمون على منزل سالمة من أصواب أضداد زُمرا وأفرادا ملتفعين برهبة خشنة. لا أحد يفطن لأحد. لا أحد يحضر قطْعا أو يغيب. صادَر الحدث الغائل أفعال المراقبة وجذور الحساب السّائدة فيهم بفضول شرِهٍ، وصرف الأنظار عن حبل موازٍ تعلّق بالشّجرة المطلّة على أسفل الجهة المقابلة متربّصا بالجنازة.

اِنتبه أمجد لمظهره الرّثيث وأوان اللّقاء يحين. سوّى قميصه داخل البنطال، وأكبّ يمسح بكفّه غبار الدّنيا عن حذائه. فات الأوان ليحلق شعث وجهه وشعره. لا ضيْر. كانت نعيمة تحبّ وجهه إذا استوحش بعد خصامها.. صار يذكر كلّ أخبار كان وأسمائها الغابرة.. كانت أشدّ منه قلقا. تحوّلت عنه إلى غمار الوجود تخوضه بقلب طموح، وجسد ثريّ وطئته، لسنين طوال من الضّياع، أقدام الزّمن الرّديء بلا وجل ولا خشية، وإذ تموت اليوم يخشى فيها المجنبون الله، وغدا يتّقون الدّوْس على جوانب التُّرْب من قبرها..

تحسّس الطّين من كيانه..

لا أنين تثيره فكرة الموت. أمن عميم يرين عليه، وسكينة وِقر تجلّل نفسه. أمْواس جوع الأيّام المنقضية لا تمزّق أحشاءه، وشوك الظّمإ توقّف أن يتنامى حادّا في حلقه، ولا عِرْق فيه يخفق بعدُ لشهقة تبغ تخترق دمه. اِنسجمت أضداده. تآلفت نوازعه البدَدُ، وتوحّدت دخيلته المتفرّقة. قرار موافاة عروسه عند باب السّماء الدّنيا أمر قطْعٌ شبّ عن حدود الخطإ وشروط الصّواب. فعل حسم سقط من الكتاب فخرج عن ثواب الحسنة وإثم السّيّئة.

وقف إثرئذ على حافّة الجُرف يتعرّض للعيون المنصرفة عن شأنه كمن يستجدي نهزة انتباه. كان الطّفل فيه قد انفلت عن طوع الكهل اليؤوس، وخرج عنه يخاتل جذوة الحياة الباقية منه، ويسرف رغما عنه في الظّهور، مستعرضا وفاءه في مزاد الكلمات الغاصّة بالدّمع، مجتهدا في لفت النّاس إلى رجل يفتدي بحياته امرأة كان هو آخر سبب تذرّع به القضاء ليرفع عن نفسه شُبهة الجوْر، ويخلّف له التّأنيب من جديد والرّجم بالنّحس..

فُتحت غرفة نعيمة على اندفاق الماء من قلبها. اِنفجر في الأمّ الاضطراب يندفع فيها بفوضى مريعة. تحرّك رأسها بانفعال قلِق مُرعب تبحث في كلّ اتّجاه عن شيء ما نفر منها. قامت عن جنب أختها مسفوعة اللّون، هوجاء كالغضب الوبيل..

خشعت أبصار إلى ما خلف صِفْق الباب المتوارب وتعلّقت أخرى تراقب حركات الأمّ الهلوع..

خرجت امرأة مسنّة تحلّ طيّات الثّوب عن زنديها المبللّين، وثانية تلتها تحمل لفافة أدباش ومواعين الاغتسال. في الدّاخل تقمّطت العروس في ثوبها الأبيض لا يبين منها حتى صفرة الوجه الكابية. اِصطفّت القريبات على المدخل يتحيّنّ تقبيل الرّاحلة للوداع الأخير. هرولت سالمة إلى الكانون تضرّم فحمه وتصبّ عليه قذفات بخور متتالية تكاد تعمي ناره. أخذت تحوّم على حوافّ الغرفة وتحاول سُدى تفرقة حشد الفضوليّات عن غرفة ابنتها..

” قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ..” “وَمِنْ شَرِّ حَاسِدٍ إذا حَسَدَ..” أفسِحن للهواء يا نساء تكاد العروس تختنق..

سالت المدامع مختنقة النّشيج، واحتشدت النّساء حول الثّكلى. اِقترب الأب من غرفة ابنته بدمع غزير. وكبكب إلى السّقوط فأسنده أحدهم بموعظة الصّبر. حثّ الابن سطوته لقمع النّواح فضاعفته النّسوة حسرة على الأمّ. توافد الرّجال يفكّون عمائم الصّمت مُكبّرين. اِنشقّت سالمة عن نسق الرّهبة تولول بالزّغاريد ففَجّعت النّفوس الخواشع. جرت تشغّل شريطا مسجّلا احتفاليّ الأنغام، وربطت خصرها الرّاعش بلحاف انتزعته من إحدى الواقفات الشّاخصات بلا إذن. أسرع ابنها يُخرس الفرح الشَّاذّ عن وقار الرّزِيّة، ويزمجر في أمّ لا تكنه لهذا البكاء المتوحّش علّة حزينة. فغرت فيه حمرة العينين المروّعتين، وكالت له اللّعنات بلا تطفيف. ثمّ أطلقت صوتها المغرورق على غارب الحزن المغنّى..

اِرتاع ابنها، وتركها لنفسها المنفطرة ترقص لفرح يضجّ أهْوج في رأسها التّائه عن صواب الفعال. والجمع من حولها خُشّعا ونائحات يحوقلون، ويكبّرون، ويتطارحون الأحزان، والسّؤال المرير..

ماذا حدث لنعيمة..؟

بيْد أنّ أحدا لا يجيب. الأب نفسه لم يكن يعرف.

فعلها..؟

قطعا نعم..

لا. أظنّ لم يفعلها..

لكنّ ابنته وقعت حين لكمتُه وقعت..

تسدّدت قبضته ضليلة فأدركت قلبها، أو وجهها، أو رأسها، أو..

أصابها.

لا. لم يصبها..

كانت قبالته تماما توليه وجهها المسفوع، وتُولي أمَّها شعرَها المنفوش كليل وحشيّ يهرهر على كتفيها بالحَلَك الرّهيب. ترجو. تسبّ. تلعن. تستعطف. تهدّد. تستحلف بأسماء لا تعرف صلتها الحقّ بالصّلاح. تنخرط في العداء يمرّغ شعرة الاحترام الأخيرة لوالديها في قذارة الحظّ الزّنخ. تهدأ. تهوج. تنقم. ترقّ. تغلظ.. بركة الضّحل تحت قدميها تأخذ في النَّشف، وتُرابها العطين يميل إلى التّلبّد واللّزوجة.. تطلّ كأذناب الشّراغيف الرّؤوس صلعاء، عشيبة، كاسية، حافية.. تتنازع ذات سكر عماء عليها لكي، على طاولة القُمار، يتمّ الاقتراع على ليلتها تلك.. لكي تخطّ اليد الفائزة انهياراتها المقنّنة بزيف التّواقيع الكبيرة أسفل الوعود الكاذبة.. تكبر.. ينتفج حضورها كثمرة نفخت فيها كيمياء الزّراعة نضرة اللّون وفتنة الامتلاء المسمومتين.. تزدهر الخلاعة في ضحكها.. تمجن من زهو.. تتعالى على غيْرة الغريمات.. وتفرقع البذاءة بالونات الهراء فيصيبها طشيش السّباب، واللّعاب، ونتونة الأفواه، وعطن النّوايا الكشيفة تحت أشعّة الصّباح الجديد.. تضحك بهَوَج فيما تتوسّط بالحسنى زوج الأعداء.. تضحك بذلّ.. تنخذل.. تبكي.. يتحلّل سمّ اليأس في دمها.. تعتلّ.. يعمه نبضها.. يختنق نفسها.. تبرد أطرافها.. يخفت قلبها متداعيا للسّكات.. تعرق.. وتميد بها الأرض بينما يشدّ الضّحل المتلبّد قدميها عن الحركة الفرارِ.. ثمّ..

أُرْدِيت بإضمارٍ أخْطأ مرماه، أو من تلقاء الصّدفة، أو بمحض الأجل أزف والحركةُ محكمة الأذى تقع.. لم يستأخر نحبها عن قضاء اللّكمة ومضة فعل أو طرفة زمن، ولا استقدم. تزامنت جملة من الأقدار في الحلول. يد تمتدّ صوب الأمام، وجسم ينخسف إلى أسفل، وأربع عيون تذهل لفقدان الوعي بجزئيّة حدث رمحت بينهما خارج الإدراك.. أصابت الضّربة العمياء موضعا ما فزهقت فيها، أو حينها، أو موازاةً معها نَفْسٌ..

بل أصابها..

أو ربّما..

ريعت الأمّ وراغت عن الفهم إلى بلاهة الأسئلة وحمق الأجوبة. جسد ابنتها يتمدّد عند قدميها الحافيتين.. اِنتبهت لحَفاهَا المشين فهرولت تنتعل، وتصلح حالها، وتلفّ شعرها المنفلت عن غطائه. هذا يوم خطبة ابنتها. بئس أب أبوها. أليست هذه المسجيّة على أرض وسخة هي العروس نفسها يا أمّها..؟ خسئتِ أمّا. أدبر نهارك في عراك شيخ مهذار. ما عيب أمجد فيُرفَض..؟ كفى أنّه قاعِد مدى العمر فلا خوف من خرفه سنّ التّقاعد كهذا الموظّف الخرب. ما يلبث الباب يطرق والمنزل زَرِيّ المظهر. اِنهضي نعيمة. ماذا تفعلين بين أقدامنا..؟ أنا وأبوك لن نتصالح أبد الدّهر. هيّا قومي. اِنتهت مباراة اليوم.. ماذا سنعدّ للعشاء..؟

تجلّد الزّوج على غير سابقة له في الجلد. تضمّخ كبده بالمرارة وغرغر الطّعم كريها في حلقه. رجّح احتمال قتلها بقبضته. أُبْهِت الأب فيه وانكفأ على فجيعته يجمجم جوفُه ولا تفصح شفتاه. ثمّ اندحر إلى عتمة النّدم غوْر نفسه ضئيلا خاسئا مذؤوما، فيما انسلخ عنه الجاني يكيد مكرا فيسقي الجثّة ماء “الجافال” المركّز ويُشْرِبها منه عنوة، فيسيل الحتف على مفرق الشّفتين المثلجتين..

غسل المحلولُ الحارق معالم الخطإ. لا قصديّة للفعل ولا عفويّة. لا أحد يقدر أن يحدّد وصفا محايدا للواقعة. وشاهِدتُه غابت كما لم تشته أن تغيب. أسرع بعدئذ يكنِّس شظايا الأثاث المكسور ويغلّق الغرف الشّعثاء على أسرارها.

هزهزت سالمة ابنتها تفيقها من مرقدها مستعجبة. كان البَلَه قد أخذ في احتكار وعيها المذهول فحركاتها تطيش، وتلْحد لغتها عن اعتدال المعاني. ظنّت ابنتها مغمى عليها فطفقت ترشّها بما تبقّى من دنّ الجافال تظنّه ماء كالحياة، لمّا زوجها خرج على النّاس يعْوِل ويلطم رأسه..

” عظمت مصيبتي ولا عزاء لي.. اِبنتي المسكينة انتحرت لمّا رفضتُ تزويجها من ذلك العاقّ المتشرّد.. ليتني ما رفضت.. يا ليتني ما..”

الابن أيضا لم يكن يعرف. كان فقط يقدّر الأمر هول قدره. نزع عنه الأُخوّة يرجئ لوعتها لنحيب آخر اللّيل، وتزمّل بهيأته الصّارمة ليحُدّ صراخ الفضيحة ويُلْجم الأجوار الملتحقين ببخار الحادثة الفائرة.

حُسم الأمر ضدّ الجثّة البكماء.

” كانت المرحومة جاهلة لم ينفعها علمها أن تميّز الخطأ من الصّواب، ضالّةً لا تحسن الاختيار. هدرت صباها للطّيش، ونذرت باقي عمرها للخسارة..”

تحرّكت الرّؤوس في تزكية القول الفصل في المأساة. وأضمرت القلوب الظّنون.

أقامت نعيمة ليلة في المستشفى بصفة منتحِرة، وأُخرجت بوساطة الرُّتبة ذات السّطوة قبل تشريح الشّكوك.

تحوّل منزل الشّمس عن كبد السّماء، واتّخذ له قطعة ناحية اليسار. جهز أمجد تماما لطقس الرّحيل، واقترب خاشعا منيبا من دائرة الحبل معبَرِه إلى السّماء. صار لكلّ شيء ظلّ بحجمه. ظِلّ له تنكسر رقبته على حافّة الجُرف، وظلّ راقص للحبل المدلّى. كما لو أنّ المكان الذي حفظ تذكارات الصّبا، وجنون الشّباب، وجُنح الأجساد المغامرة ينتحر بدوره..

رُفع جثمان العروس على هودج الخشب يحمله أربعة، وأوغل في غمام الهجير يتبعه النّواح..

أدخل أمجد رأسه في حيّز الأنشوطة. رفرفت أهدابه لهجمة النّور متوتّرةً، وأسلمت توّا للذّبول الرّحيم منطبقة على وردتين من حمرة تبرّجتا عن غسق الوجه المربدّ. اِبتسم لها لمّا كانت تمدّ له يدها لتعبر به إلى الصّراط. وتحدّرت سالمة على ضفّة الوادي المقابلة تُكِبّ نحوه أكثر ممّا تستوي، وخاضت الماء ملوّحة باسْمِه في الفضاء المبهوت. ومن خلفها نساء يصرخن به راجيات فيُفزِّعْن سكينة النّفس المطمئنّة، ويُغْشين إشراقة التّلاقي الجميل..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى