بشرى عبد المجيد تاكفراست - ابن قتيبة الدينوري وقضية اللفظ والمعنى

هو أبو عبد الله بن مسلم بن قتيبة، وكنيته أبو محمد[1]، ذكر نفسه بكنيته كثيرا في كتبه، وقد لقب بالدينوري والمروزي والقتبي. من أصل فارسي :”أخذ نصيبا ضخما في اللغة والأدب والثقافة العربية القديمة الرصينة… كان له حظ كبير من العلوم الشرعية والدينية… كانت له مشاركة في الفلسفة والبلاغة والمنطق”[2] وبذلك فهو “علم من أعلام الإسلام، وإمام حجة من أئمة العلم، وكان لأهل السنة مثل الجاحظ للمعتزلة، فإنه خطيب أهل السنة، كما أن الجاحظ خطيب المعتزلة؟.[3]

هكذا فابن قتيبة عالم أديب قد ألم بجميع آلات الأدب وما يتصل به ولقد وضع لنا حدا للعالم الأديب -لا أرى بأسا من ذكره- حيث يقول: “من أراد أن يكون عالما فليطلب فنا واحدا، ومن أراد أن يكون أديبا فليتسع في العلوم”.[4]

تأثر ابن قتيبة في شبابه بما كان يدور في أوساط العلماء من جدل وتناظر بين المعتزلة عن الحياة الفكرية، فأعجب بآرائهم كما يحكي في “تأويل مختلف الحديث”، ص: 74، وعنه قال محمد بن إسحاق المعروف بابن النديم أنه :”كان يغلو في البصريين، إلا أنه خلط المذهبين، وحكى في كتبه عن الكوفيين، وكان صادقا فيما يرويه، عالما باللغة والنحو وغريب القرآن ومعانيه والشعر والفقه، كثير التصنيف والتأليف”.[5]

وقد اختير قاضيا لمدينة الدينور، فلقب بالدينوري. قضى بهذه المدينة زمنا اتصل فيه بالمحدثين والفقهاء والمشاييخ المشاهير. تدارس أمور الدين والفقه، ثم عاد إلى بغداد. وهناك وجد شمس المعتزلة آخذة في الأفول بعد أن تولى الخلافة جعفر المتوكل. وساعد أهل الحديث والسنة على الظهور على منافسيهم. فتقدم هو ليدلي بدلوه، وينتصر للسنة ويجمع من الآراء والكتب ما يعينه على ذلك. واتصل ابن قتيبة في بغداد برجال الدولة كعادة غيره من العلماء والأدباء. وعرف منهم في ذلك الوقت الوزير أبا الحسن عبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير المتوكل وابنه المعتمد. وأهدى إليه كتاب “أدب الكاتب”.

واستمرت حياته العلمية ببغداد، فاشتغل بالتدريس زمنا. وكان يقرأ كتبه على تلاميذه ومن بينهم جماعة من العلماء الذين نبهوا بعد ذلك وكان لهم نتاج معروف مثل ابنه أحمد بن عبد الله بن مسلم بن قتيبة، الذي حدث بكتب أبيه في مصر حين ولى القضاء بها، وعبد الله بن جعفر بن درستويه الكاتب الفارسي صاحب “أدب الكتابة”.

اتجه ابن قتيبة في مطلع حياته إلى علم الكلام، واجتذبته أضواؤه، فجلس إلى كثير من علماء المتكلمين، أخذ منهم، واغتر بكلامهم فقد قال: “وقد كنت في عنفوان الشباب، أحب أن أتعلق من كل علم بسبب، وان أضرب فيه بسهم، فربما حضرت بعض مجالسهم، وأنا مغتر بهم طامع أن اصدر عنه بفائدة أو كلمة تدل على خير أو تهدي لرشد، فأرى من جرأتهم على الله تعالى، وحملهم أنفسهم على العظائم لطرد القياس أو لئلا يقع انقطاع، ما أرجع معه خاسرا نادما”. [6]

وقد أفاده اطلاعه على آراء المتكلمين في جدله معهم، إذ قارعهم الحجة بالحجة. وكال لهم بالكيل الذي كالوا به لأهل السنة والحديث. تأثر ابن قتيبة بآراء أبي حاتم السجستاني، وشيخه المحدث إسحاق بن راهويه، ودافع عنها.

إن نظرة خاطفه في لائحة الأساتذة الذين تتلمذ عنهم كفيلة بإعطائنا الجو الذي نبغ فيه ابن قتيبة والعوامل التي كونت شخصه الثقافي وما كان يتمتع به من عقلية منظمة مصقولة، ولذلك جاءت كتبه وليدة هذا الفكر المنسق، فقد كان التأليف الأدبي ساذجا، يتسم بالاستطراد لا ضابط له، فمسألة من هنا ومسألة من هنا بل ومسائل من واد واحد مبعثرة عبر ثنايا المؤلف. وذلك ملحوظ في كتاب “البيان والتبيين” و”الحيوان” و”الكامل”. فإذا تناولت كتاب “الحيوان” أحسست أنه يمثل فوضى التأليف فهو حين يتكلم عن “الكلب” و”الديك” مثلا: يخرج عن ذلك إلى موضوعات لا تخطر على بال، فتراه في أثناء ذلك يسوق كلاما في الإمامة والشيعة. وفي الشعر وأثره في القبيلة، واعتزاز العرب بالشاعر… وهكذا، ونفس المسألة نصادفها في “البيان والتبيين” و”الكامل”.

ولكن الأمر يختلف في “عيون الأخبار” مثلا، ففيه تشعر بأن كتب المختارات الأدبية قد خطت خطوات واسعة نحو التوفيق والكمال على يد ابن قتيبة… وذلك أنه رتب المختارات وبوبها وجمع ما تشابه منها تحت عنوان واحد، مثل كتاب السلطان، وكتاب الطعام وكتاب النساء… وبذلك يسهل على الباحث أن يجد ضالته في غير عناء. وهو حين يتناول الموضوع يستقصيه استقصاء شاملا، فإذا تحدث عن السلطان مثلا يتكلم عن صحبته وآدابها، واتقاء شره واختيار عماله وكتابه وبطانته. وغير ذلك، موردا في ثنايا ذلك المأثور من القول الحكيم والشعر الرائع والنادرة اللطيفة والفكاهة البارعة… كل ذلك في تنسيق بديع ولا ينتقل من نقطة إلى أخرى من غير أن يرشح لها باستطراد مناسب ليس كاستطراد الجاحظ، بل يمضي في الموضوع الذي يتناوله إلى أن يوفيه حقه ثم ينتقل إلى غيره.

ورجل هذه معارفه متنوعة فسيحة، وهذه ذهنيته تستوعب العربية واللغة، وتلم بما شاع في عصره من ضروب الثقافة الأجنبية، رجل تلك أوصافه لابد أن يكون له ذوق خاص، ومنحى خاص إذا تصدى للنقد الأدبي.

وإذا بحثنا عن دوافع التأليف لدى ابن قتيبة نلاحظ أنه “يكمل دور الجاحظ في الدفاع عن العرب والرد عن الشعوبية. ويتخذ هذا الرد صورة مباشرة في مثل كتاب “العرب وعلومها” وصورة غير مباشرة في مؤلفات يراد بها إبراز ما لدى العرب من مآثر، ولهذا ينحو ابن قتيبة منحى الجاحظ في اتخاذ الشعر العربي مصدرا للمعرفة، فيكتب كتابا في “الأنواء”، وآخر في “الأشربة” وثالثا في “الخيل” ليثبت لأنصار الكتب المترجمة أن في الشعر العربي ما يضاهي حكم الفلاسفة وعلوم العلماء. ولما كان أكثر الشعوبيين أثرا، وأبعدهم صوتا من طبقة الكتاب فقد حاول ابن قتيبة أن يؤلف له كتبا، يقرب إليهم بها المعرفة، ويسهل عليهم تناولها. ويجنبهم بها صعوبة الكتب المتخصصة، ولا بأس أن يضع لهم في هذه الكتب شيئا من حكمة الفرس، فكان من ذلك تلك الموجزات من أمثال “أدب الكاتب” و”عيون الأخبار” و”المعارف” و”الشعر والشعراء”.[7] وإلى جانب المؤلفات السابقة نجد ابن قتيبة كتب كتاب “مشكل القرآن”، كتاب “غريب القرآن”، وكتاب “تأويل مختلف الحديث”، كتاب “المعاني الكبير، كتاب “الميسر والقداح”، كتاب “الاختلاف في اللفظ والرد على الجهمية والمشبهة”، كتاب “النعم والبهائم” كتاب “المسائل والأجوبة”، كتاب “الإمامة والسياسة”، كتاب “عيون كالأخبار”، “فضل العرب على العجم”، (مخطوط)، “الاشتقاق” (مخطوط)، “والألقاب المعربة”.[8]

وأمام هذه المؤلفات الغزيرة لا يسع إحسان عباس إلا أن يسجل بمداد الفخر والاعتزاز في مقدمة حديثه عن ابن قتيبة الخلاصة الآتية: “تدل مؤلفات ابن قتيبة على تعدد مناحي اهتمامه، فبعضها يمثل العناية بغريب اللغة، وبعضها يتناول النحو، كما أن صنفا ثالثا منها مستلهم من عصبيته لأصحاب الحديث ومن عدائه للمعتزلة. ويمثل الشعر ميدانا رابعا من تلك الميادين التي استأثرت بجهده…. .[9]

مسحة عن كتاب “الشعر والشعراء”:

كتاب “الشعر والشعراء” مصدر ذكره معظم من ترجم لابن قتيبة، من مصادر الأدب الأولى.

يسميه بعضهم “طبقات الشعراء” مع أنني لا أميل إلى هذه التسمية لأن ابن قتيبة لم يجعل الشعراء طبقات على غرار ما فعل ابن سلام في مؤلفه.

وقد طبعت مقدمة الكتاب في ليدن سنة 1875 مصدرة بمقدمة باللغة الفلمنكية، ثم طبع المستشرق “دي جوين” الكتاب كله بقسميه “الشعر والشعراء” في ليدن سنة 1902. ووضع له مقدمة قيمة باللغة اللاتينية. ثم طبع بمصر عدة طبعات رديئة وأخيرا طبع طبعة جيدة سنة 1945، في مطبعة عيسى الحلبي بتحقيق أحمد محمد شاكر. ينطوي المؤلف على محورين:

الأول: عرض للناحية الأدبية أو النقدية إذ ذكر ما يستجاد من شعر الشعراء، وما قاله العلماء فيه. ثم طبقات ذلك الشعر والوجوه التي يختار لأجلها. ومن المؤكد أن هذا القسم هو المقصود من الجزء الأول من العنوان الذي هو “الشعر” وفي ذلك يقول :”هذا كتاب ألفته في الشعراء أخبرت فيه عن الشعراء وأزمانهم وأقدارهم وأحوالهم في أشعارهم وقبائلهم وأسماء آبائهم ومن كان يعرف باللقب أو بالكنية منهم، وعما يستحسن من أخبار الرجل ويستجاد من شعره. وما أخذه العلماء عليهم من الغلط في ألفاظهم أو معانيهم. وما سبق إليه المتقدمون فأخذه عنهم المتأخرون وأخبرت فيه عن أقسام الشعر، وطبقاته، وعن الوجوه التي يختار الشعر عليها ويستحسن لها”.[10]

الثاني: فهو عرض تاريخي ذكر فيه أسماء الشعراء وتراجمهم وأخبارهم وقبائلهم وما إلى ذلك.

لم يعرض الكتاب بطبيعة الحال لشعراء العرب جميعا في الجاهلية والإسلام إلى عصر المؤلف. بل مارس ابن قتيبة عملية الانتقاء، فكان انتقاؤه مبينا على الشهرة والتقدم، وعلى أشياء أخرى ذكرها في قوله: “وكان أكثر قصدي للمشهورين من الشعراء الذين يعرفهم جل أهل الأدب والذين يقع الاحتجاج بأشعارهم في الغريب وفي النحو، وفي كتاب الله… وحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فأما من خفي اسمه وقل ذكره وكسد شعره، وكان لا يعرفه إلا بعض الخواص، فما أقل من ذكرت من هذه الطبقة”.[11] والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن الآن هو: هل ابن قتيبة اتخذ مقياس الشهرة أساسا لترتيب الذين ترجم لهم؟ وإلى أي حد التزم بهذا المقياس؟ نجيب بسرعة فنقول: إن اتخذ ابن قتيبة من الشهرة والقدرة الفنية مقياسا لتاريخ الشعراء، فإنه لم يلتزم هذا المقياس هداية في ترتيب الشعراء، وآية ذلك تقديمه “للمتلمس” و”المسيب بن علس” على “طرفة بن العبد” و”الأعشى” مع العلم أنهم من الشعراء الذين خمل ذكرهم، ولا مبرر له لتقديمهم على الفطاحل. والمتصفح لكتاب “الشعر والشعراء”، يقف عند حدود هذه الحقيقة.

وتعد مقدمة الكتاب من أعظم ما خلفه ابن قتيبة من الآثار الأدبية لأنه وضع فيها مذهبا جديدا في تقويم الشعر والشعراء فهي “بيان” بموقفه النقدي عامة ودستور مستقل بموارده وأحكامه”.[12]

وتناول ابن قتيبة بعد ذلك دواعي الشعر، نذكر منها الطمع والشوق، والطرب والغضب، وأورد الأمثلة على إجادة بعض الشعراء لفنون من الشعر وتخلفهم في بعضها بسبب تلك الدواعي. وتحدث إلى جانب ذلك عن أمور وثيقة الصلة بالنقد ويمكن إجمالها فيما يلي:

أ – حديث عن الشاعر: الشاعر لدى ابن قتيبة من كثر شعره، أما من ندر شعره فلا حظ له عند ابن قتيبة، وفي ذلك يقول: “ولم أعرض في كتابي هذا لمن كان غلب عليه الشعر، فقد رأينا بعض من ألف في هذا الفن كتابا يذكر في الشعراء من لا يعرف بالشعر، ولم يقل منه إلا الشد اليسير كابن شبرمة القاضي، وسليمان ابن قتة التميمي المحدث، ولو قصدنا لذكر مثل هؤلاء في الشعر، لذكرنا أكثر الناس لأن قل أحد له أدنى مسكة من أدب، وله أدنى حظ من طبع إلا وقد قال من الشعر شيئا ولاحتجنا أن نذكر صحابة رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وجلة التابعين وقوما كثيرا من حملة العلم ومن الخلفاء والأشراف. ونجعلهم في طبقات الشعراء”.[13]

ب – حديث عن الشعر: هو الكلام الجيد المعبر عن الحياة المعاشة، البعيد عن الإغراب اللفظي والمعنوي، يقيس ابن قتيبة جودته في بعد عن الإطار الزمني والمكاني الذي أنتجه، إذ المعول عليه هو قيمته الفنية. وفي ذلك يقول: “فإني رأيت من علمائنا من يستجيد الشعر السخيف لتقدم قائله ويضعه في متخيره، ويرذل الشعر الرصين، ولا عيب له عنده إلا أنه قيل في زمانه، وأنه رأى قائله، ولم يقصر الله العلم والشعر والبلاغة على زمن دون زمن، ولا خص به قوما دون قوم، بل جعل ذلك مشتركا مقسوما بين عباده في كل دهر. وجعل كل قديم حديثا في عصره”.[14]

وفي حديثه عن أسلوب الشعر نجده يقسمه من حيث ألفاظه ومعانيه إلى أربعة أقسام:


1 – قسم حسن لفظه وجاد معناه.

2 – قسم حسن لفظه وما جاد معناه.

3 – قسم ما حسن لفظه وما جاد معناه.

4 – قسم ما حسن لفظه وجاد معناه.


أما عن عيوب الشعر، فينص ابن قتيبة أنها عيوب تتصل بالصياغة من حيث سلامة الأوزان، أو اعتدال القوافي وصحتها، أو هي عيوب تتصل بالإعراب وتظهر فيما يلجأ إليها الشاعر من تسكين متحرك أو تحريك ساكن أو قصر ممدود، أو إيراد ألفاظ وحشية، ومن العيوب التي يحصيها ابن قتيبة في مؤلفه “الشعر والشعراء” للشعر نصادف ما يلي: الاقواء، السناد، الإيطاء، الإجازة. وقد أورد أمثلة متعددة مأثورة للاستدلال بها، وبين موضع الخلل فيها وموقف علماء اللغة والعروض منها.

ج – حديث عن بناء القصيدة: من المتعارف عليه أن القصيدة العربية متفككة البنية تتشكل من وحدات متعددة. ويعد ابن قتيبة أول من أشار إلى هذه الوحدات، وفصل الحديث فيها بقوله: “سمعت بعض أهل الأدب يذكر أن مقصد القصيد إنما ابتدأ فيها بذكر الديار والذمن والآثار. فبكى وشكا وخاطب الربع واستوقف الرفيق ليجعل ذلك سببا لذكر أهلها الظاعنين عنها، إذ كان نازلة العمد في الحلو والظعن على خلاف ما عليه نازلة المدر لانتقالهم عن ماء إلى ماء وانتجاعهم الكلأ وتتبعهم مساقط الغيث حيث كان، ثم وصل ذلك بالنسيب فشكا شدة الوجد وألم الفراق، وفرط الصبابة والشوق، ليميل نحوه القلوب ويصرف إليه الوجوه ويستعدي (به) إصغاء الأسماع، لأن التشبيب قريب من النفوس لائط بالقلوب. لما (قد) جعل الله في تركيب العباد من محبة الغزل وإلف النساء فليس يكاد أحد يخلو من أن يكون متعلقا منه بسبب وضاربا فيه بسهم حلال أو حرام. فإذا علم أنه استوثق من الإصغاء إليه والاستماع له، عقب له بإيجاب الحقوق، فرحل في شعره، وشكا النصب والسهر وسرى الليل وحر الهجي، وانضاء الراحلة والبعير، فإذا علم أنه أوجب على صاحبه حق الرجاء وذمامة التأميل وقرر عنده ما ناله من المكاره في المسير، بدأ في المديح فبعثه على المكافأة، وهزه للسماح وفضله على الأشباه وصغر في قدره الجزيل، فالشاعر المجيد من سلك هذه الأساليب وعدل بين هذه الأقسام، فلم يجعل واحدا منها أغلب على الشعر ولم يطل فيمل السامعين، ولم يقطع وبالنفوس ظماء إلى المزيد”.[15]

د – حديث عن المتكلف والمطبوع: المتكلف عنده هو الذي يعمد إلى شعره فيتقنه، ومن هؤلاء رواد المدرسة الأوسية. وأما المطبوع فهو الذي يصدر عن سليقة عربية قحة في بعد عن التصنع والتكلف، ويأتي بأمثلة متعددة تبين ما يذهب إليه.

وإذا كان هذا ما اشتملت عليه مقدمة الكتاب، فإن متنه كان عبارة عن سجل لعدد ضخم من الشعراء وأخبارهم وشيء من أشعارهم منذ العصر الجاهلي حتى منتصف القرن الثاني الهجري. وهو كتاب قيم جدا ويعتبر من أهم المصادر الأدبية لتراجم الشعراء. ويعلق د. محمد مندور على عمل ابن قتيبة قائلا: بأنه “لم يتناول النصوص ولا الشعر بنقد فني تطبيقي، وإنما اكتفى بأن عرض في مقدمته لبعض المسائل العامة، يحاول أن يضع لها مبادئ ثم أخذ في سرد سير الشعراء وبعض أشعارهم على غير منهج واضح ولا مبدأ في التأليف”.[16] بالفعل فالعرض الذي قام به ابن قتيبة لم تكن له ميزة ظاهرة، فهو ينقد كل شاعر منهم على حدة، ولم يقسمهم إلى مجموعات بحسب قدمهم أو إجادتهم أو تصرفهم في فنون الشعر، فبينما تبدو لك قوة الشخصية واستقلال الرأي في صدر الكتاب، إذ بتلك الشخصية تضعف بل تنهار تدريجيا في صلبه. هكذا بدا لنا ابن قتيبة فاشلا في تطبيق تلك المبادئ النقدية التي نادى بها. فبقي ما جاء به في المقدمة لا يعدو دعوة دعا إليها الناس ولم يلزم نفسه بها.

والمتصفح لكتاب ابن قتيبة يلحظ أنه “لم يصدر في كتابه عن منهج في التأليف (من حيث ترتيب الشعراء)… تاريخ ابن قتيبة قصص ونوادر وأخبار وحكايات، أما محاولة جمع الشعراء في مدارس وفقا لمذاهبهم الفنية، وأما محاولة دراسة فنون الأدب كوحدات، وأما محاولة تتبع التيارات المختلفة فهذه الأشياء لم تخطر له على بال”.[17] بل الملاحظ أنه يعاقب في أحيان كثيرة بين الشعراء الذين تربطهم منها:

1 – رابطة الدم: فقد ترجم لزهير بن أبي سلمى ثم لابنه بعده، وترجم للمرقش الأكبر ثم للأصغر وهو أخوه في رواية وابن أخيه في رواية أخرى… ولعل السر في ذلك راجع إلى تداعي الأفكار، لذلك نراه يتناول الشاعرين الأخوين في ترجمة واحدة كما صنع مع ابن نويرة، ومع سويد ويزيد ابني خذاق وهما شاعران كانا في زمن عمرو بن هند، ومع كعب وعميرة ابني جُعَيْل وغيرهم.

2 – رابطة العشق: وبذلك نراه يترجم لتوبة بن الحُمَّيْر عاشق ليلى الأخيلية، ثم يترجم لها بعده.

3 – رابطة ذكر القرين بقرينه: فترجم لجرير والفرزدق والأخطل على التوالي، ولم يراع في ذلك كبر السن بدليل أنه ترجم للأخطل بعد أن ترجم للفرزدق وجرير، وهو أسنهم، وكان يلزم الصدارة في الترجمة. ويبدو أنه رتبهم انطلاقا من وزنهم الفني. تم ترجم بعدهم للبعيث لصلته بهم، إذ شارك في الخصومات التي احتدمت بينهم كما نعرف. وقد ذكر بعد ترجمة الأخطل مجموعة من شعر هؤلاء الشعراء الثلاثة.

وتمشيا مع رابطة القرينة نجده يترجم لكثير عزة ثم للأحوص، وهما من شعراء الغزل وانتقل من شعراء الغزل إلى شعراء العشق والنسيب، فترجم للمجنون ولعروة بن حُزام وبعده لقيس بن ذريح صاحب لبنى.

4 – رابطة الصداقة: وعلى إثرها ترجم للكميث بن زيد الأسدي، ثم الطرماح بن حكيم بعده.

5 – رابطة القرابة الفنية: في ضوئها ترجم للعجاج الراجز، ثم لابنه رؤبة ثم ترجم بعدهما لأبي نخيلة الراجز ثم لأبي النجم: ثم لذكين الراجز، ثم راجز آخر مغمور اسمه الأغلب.

6 – رابطة قبلية: فنجده يترجم للشعراء الذين ينتمون لقبيلة هذيل تحت عنوان “شعراء هذيل”.

7 – رابطة الموضوع: وتحتها ترجم لأبي نواس ثم للعباس بن الأحنف ثم لمسلم بن الوليد، لأنهم يتقاربون في الموضوعات، موضوعات اللهو والخمر والمجون.

وآخر من ترجم له ابن قتيبة هو “الأشجع السلمي” الذي كان متصلا بالبرامكة والملاحظ أن الكتاب لم يختم بالعبارة التي يختم بها ابن قتيبة وغيره مؤلفاتهم، بل ختم بالجملة التالية: “أخذه من قول الآخر وهو ابن الدمينة” ثم يذكر البيت الشعري. وهكذا يطرح تساؤلات عدة عن نهاية المؤلف، سواء أكانت هذه النهاية طويلة أم قصيرة من صفحة أو عدة صفحات. المهم، أن ما ختم به الكتاب لا يعد نهاية حقيقية له وبذلك يبقى مؤلف “الشعر والشعراء” مؤلف مبتور النهاية.

هذا هو ابن قتيبة، وهذا هو مؤلف ابن قتيبة والسؤال المطروح: إذا لم يكن ابن قتيبة قد أظهر أصالة في التاريخ الأدبي، فهل كان له شيء من الفضل في السير بالنقد الأدبي إلى الأمام خطوة تدنيه مما سار إليه عند رجل كالآمدي من نضوج؟.

أجل، لقد اعتبر كتاب ابن قتيبة رغم كل الملاحظات التي سجلت عليه خطوة متقدمة بالنسبة “للبيان والتبيين” و”طبقات فحول الشعراء” لابن سلام فهو يجمع بين اتجاهيهما في منهج منظم إلى حد ما فيه أصالة رأي واضحة وقد أثر هذا المنهج في كتب النقد التي جاءت بعده. ودليلنا على ذلك أن تقسيمه للشعر إلى أربعة أقسام مسألة أصبحت شائعة لدى النقاد الذين جاءوا بعده أمثال: ابن طباطبا (322 هـ) في “عيار الشعر” وأبو هلال العسكري في كتاب “الصناعتين” كما أن تلك الأقسام كانت قاعدة الكثير من الدراسات والأبواب البلاغية التي تفرعت عن المتأخرين.

فهو كتاب في التاريخ والسير لما سرد فيه من الروايات والأخبار، وتناول من ذكر الرجال وأقدارهم وأسماء القبائل، والآباء والحروب والمواقع والصفات. ولكن هذا التاريخ يفقد التسلسل الطبيعي وترتيب الأيام والأحداث، وتتابع وقوعها في الزمن. وإنما تذكر تلك الأحداث بمناسباتها عند ذكر الأشخاص الذين تتصل بهم. وهؤلاء لم يرتبوا في ذلك الكتاب ترتيبهم في الحياة والوجود، فكثيرا ما يذكر الجاهلي القديم بعد المخضرم أو القريب إلى الإسلام، وكثيرا ما يذكر الإسلامي قبل الجاهلي أو بعد العباسي.

وهو كذلك كتاب في “الأدب” فقد أحصى فيه ستة ومائتين من الشعراء الجاهليين والمخضرمين والإسلاميين والعباسيين.

إلى جانب ذلك هو كتاب في “النقد” فقد أحصى فيه مآخذ العلماء على الشعراء، وتكلم عن السرقات الشعرية، وعن أقسام الشعر، وعن وجوه استحسانه واستتبع ذلك كثيرا من النظرات النقدية، والكلام في طبيعة الشعر ومعانيه وأشكاله وألفاظه. شيء يرفض محمد مندور أن يقر به، حين ينص أن القارئ للمقدمة التي جاء بها ابن قتيبة يلاحظ أنه “كلام قد يفيد أن المؤلف قد جمع بين التاريخ والنقد ولكن الواقع بخلاف ذلك، فابن قتيبة لم يتناول النصوص ولا الشعر بنقد فني تطبيقي، وإنما اكتفى بأن عرض في مقدمته (من ص 2 إلى 36) لبعض المسائل العامة يحاول أن يضع لها مبادئ، ثم أخذ في سرد سير الشعراء وبعض أشعارهم على غير منهج واضح ولا مبدأ في التأليف”.[18]

الشكل والمضمون لدى ابن قتيبة:

سنتناول في هذا المحور بالدرس والتحليل قضية نقدية قديمة، احتدم فيها الجدال ولا زال مستمرا تحت عنوان “الشكل المضمون” مرة و”الدال والمدلول” مرة وهي قضية “اللفظ والمعنى”، وسنركز بالأساس على الجواب عن سؤال افترضه البحث نفسه وهو: كيف قوم النقد الحديث هذه المسالة؟ وما موقف الذين وقع عليهم الاختيار –كنموذج في هذا البحث من النقاد المحدثين- من قضية الشكل والدلالة؟.

كان ابن قتيبة من أهم النقاد القدامى الذين اهتموا بهذه القضية، وبث فيها آراءه في مؤلفه “الشعر والشعراء” الذي صنف فيه الشعر إلى أربعة أصناف يميز كل واحد منها جيد الشعر من رديئه، وقبل أن نتبين موقفه من اللفظ والمعنى نتعرض لتقسيمات الشعر التي انتهى إليها فما هي هذه التقسيمات؟.

تدبر ابن قتيبة الشعر فوجده أربعة أضرب لا تسمح العلاقة المنطقية -في نظره- بأكثر منها”.[19]

ضرب حسن لفظه وجاد معناه، وضرب حسن لفظه وخلا، فإذا أنت فتشته لم تجد هناك فائدة في المعنى، وضرب جاد معناه وقصرت ألفاظه عنه، وضرب تأخر معناه وتأخر

لفظه. وقد ضرب الأمثلة الكثيرة لكل ضرب من هذه الأضرب. فمن الضرب الأول قول أبي دؤيب:
والنَّفْسُ رَاغبَةٌ إذَا رَغَّبتَهَا وإِذَا تُرَدُّ إلَى قَليلٍ تَقْنعُ

وهذا البيت من أبدع ما قالته العرب لفظا ومعنى. ومن الضرب الثاني قول قائل:
ولَمَّا قَضَيْنا مِنْ مِنَى كُلَّ حَاجَةٍ
وَشَدَّتْ علَى حُدْبِ المَهارى رِحَالُنا
أَخَذْنَا بِأطْرافِ الأحَادِيثِ بَيْننَا وَمسَّحَ بالأرْكَانِ مَنْ هُوَ مَاسِحُ
ولاَ يَنْظُر الغَادِي الذي هو رَائِحُ
وسَالتْ بِأَعْناقِ المَطِيِّ الأَباطِحُ

وهذه الأبيات في نظر ابن قتيبة حسنة الجرس، جميلة المقاطع والمخارج ولكن معناها دارج، فأنت إذا نظرت إلى ما تحتها من المعنى وجدته: ولما قضينا أيام منى، واستلمنا الأركان، وعالينا ابلنا الانضاء، ومضى الناس لا ينظر الغادي الرائح ابتدأنا في الحديث، وسارت المطي في الأبطح ويعقب قائلا :”وهذا الصنف في الشعر كثير”.[20] فليست معاني هذه الأبيات شيئا يذكر في نظر ابن قتيبة”.[21] بل ذهب د. محمد غنيمي هلال أبعد من ذلك في تعليقه على رأي ابن قتيبة بقوله: “وكأن ابن قتيبة يرى أن المعنى هو ما يتم به غرض من أغراض القصيدة. لأن ذلك من مقتضى صنعة الشعر وإمكانه”.[22]

وقد تناول عبد القاهر الجرجاني الأبيات السالفة بالدرس والتحليل ليبين ما فيها من حسن النظم وجمال العبارة، وكذا ضياء الدين بن الأثير، والفيلسوف العربي أبو الوليد بن رشد في تلخيصه كتاب “الشعر” لأرسطو. فقد بين أن الصورة البيانية هي التي خلقت من هذه الألفاظ شعرا جميلا ثم قال: “إنما صار (الكلام) شعرا من قبل أنه استعمل قوله:
أَخَذنَا بأطْرافِ الأَحاَديثِ بَيْننَا وسَالَتْ بِأعْناقِ المَطِي الأباطِحُ”[23]

ومن الضرب الثالث قول لبيد بن ربيعة:
مَا عاتَب المَرْءَ الكَرِيمَ كَنَفْسهِ والمَرْء يُصلِحُه الجَليسُ الصَّالِحُ

فهذا بيت جيد المعنى غير أنه قليل الماء والرونق، ليس فيه شيء من الطلاوة والإشراق على حد رأي ابن قتيبة[24].

ومن الضرب الرابع قول الأعشى:
وَقَدْ غَدَوْتُ إلَى الحَانُوتِ يَتْبَعُنِي شَاوٍ مِشَلٌّ شَلُولٌ شُلْشُلٌ شَوِلُ[25]

(وهي ألفاظ لها نفس الدلالة، ومعناها الرجل الحسن الصحبة، السريع في تلبية الحاجة).

كان هذا هو التقسيم الرباعي الذي أعطاه ابن قتيبة للشعر، وهو شيء يرضي المناطقة وأصحاب النظرة العقلية. وقد سبق لابن قتيبة أن حذرنا منه عندما هاجم الفلاسفة وأهل المنطق وأساليبهم في دراسة اللغة. فلست أدري كيف غابت الحقيقة عن ابن قتيبة كما أنني لا أجد تعليلا لسقوط ابن قتيبة في فخ هؤلاء.



[1] – إن استيعاب ترجمة وافية عن ابن قتيبة يكمن في الرجوع إلى كتابين مشهورين “مقدمة الميسر والقداح “السيد محي الدين الخطيب، الذي طبع في مطبعة السلفية عام 1342 هـ، وفي أول الجزء الرابع من كتاب “عيون الأخبار” الذي طبعه الأستاذ أحمد زكي العدوي، عن دار الكتب عام 1349 هـ وقبلهما بطبيعة الحال “الفهرس” لابن النديم، و”تاريخ بغداد” للخطيب البغدادي.

[2] – طه أحمد إبراهيم، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 122.

[3] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 55 تحقيق أحمد محمد شاكر.

[4] – ابن عبد ربه، العقد الفريد، ج 2 ص 208 طبعة لجنة التأليف.

[5] – ابن النديم، الفهرست، ص 115، ط. المطبعة الرحمانية بمصر.

[6] – ابن قتيبة الدينوري، تأويل مختلف الحديث، ص 74، عن محمد زغلول سلام في مؤلفه: ابن قتيبة”، ص 22، دار المعارف بمصر.

[7] – إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 104 – 105.

[8] – الزركلي، الأعلام، ج4 ص 137.

[9] – إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العرب، ص 104.

[10] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 65 ط 3، تحقيق أحمد محمد شاكر.

[11] – المصدر نفسه، ص 55.

[12] – إحسان عباس، تاريخ النقد عند العرب، ص 106.

[13] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 67 – 68 ط. 3 تحقيق أحمد محمد شاكر.

[14] – المصدر نفسه، ص 68 – 69.

[15] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 80 – 81، تحقيق أحمد محمد شاكر، ط3.

[16] – محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، ص 22.

[17] – المرجع نفسه، ص 26 – 27.

[18] – محمد مندور، النقد المنهجي عند العرب، ص22.

[19] – إحسان عباس، تاريخ النقد الأدبي عند العربي، ص 108.

[20] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 73 تحقيق أحمد محمد شاكر، ط3.

[21] – محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، ص 264.

[22] – المرجع نفسه، ص 264.

[23] – أرسطو، فن الشعر ص 242، تحقيق عبد الرحمن بدوي.

[24] – ابن قتيبة، الشعر والشعراء، ص 74 تحقيق أحمد محمد شاكر.

[25] – المصدر نفسه، ص 77.




*[SIZE=6] دة. بشرى عبد المجيد تاكفراست[/SIZE]
أستاذة النقد الأدبي ومناهج الدراسات الأدبية
كلية اللغة العربية/جامعة القاضي عياض
مراكش / المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى