ميلان كونديرا - كافكا والعالم الذي أصبح شَرَكاً.. تر: أمين صالح

1
حتى الآن لا يزال الكثيرون ينظرون إلى العلاقة بين براغ وكافكا من دون معرفة أي شيء عن الثقافة التشيكية، والتأملات الرائعة بشأن ربيع براغ كانت قد تحسّنت من دون أي معرفة بالصحف والمجلات الصادرة في تلك الأيام. إن الموجة العظيمة للبنيوية، التي اكتسحت العالم بأسره، نشأت وانطلقت من براغ، لكن أغلب أعمال مؤسسي تلك المدرسة لم تحظَ بالترجمة إلى لغات عالمية لأنها كانت تحلّل رواياتٍ وأشعاراً تشيكية لم تكن معروفة خارج تشيكوسلوفاكيا.
إذا أراد المرء أن يبرز الفارق بين المراحل الثقافية المتعدّدة في أوروبا، بين أولئك المتأثرين بروح العقلانية وأولئك الذين ألْهمتهم اللاعقلانية، فبوسع المرء الزعم بأن هؤلاء الذين ألهمتهم اللاعقلانية هم الذين هيمنوا على تاريخ براغ: الطراز القوطي، أسلوبية عصر النهضة، وخصوصاً الباروكية.

2
في شوارع براغ كان في وسع فرانز كافكا أن يلتقي بكاتب ألماني عظيم من الجيل السابق هو جوستاف مايرينك، مؤلف الحكايات الطويلة. في العام 1902 نشر مايرينك حكايته الأولى «الجندي المشتعل»، عن رجل عسكري يصاب فجأة بحمّى تستمر في الارتفاع حتى تبلغ درجة حرارته 200 درجة، ثم تصل إلى 220، إلى أن يبدأ كل شيء من حوله في الاحتراق بمجرد الاقتراب منه، لذا يتفاداه الجميع. إن هذا تحوّل - غير مفسّر وغير مبرّر - لإنسان إلى وحش أو مسخ. بعد عشر سنوات، سوف يكتب كافكا قصته الشهيرة الأولى: حكاية جريجور سامسا، وكيف أنه – بطريقة غير مفسّرة وغير مبرّرة أيضاً - يحوّل نفسه إلى خنفساء.
الميراث السحري لبراغ، إذن، كان محفوظاً ومحسّناً في آن في أعمال كافكا: إبداعه العظيم لم يتألف من توظيف مخيّلة ذات غرابة في الرواية، فقد كان مخلصاً تماماً لتقاليد العاصمة السحرية، لكنه مضى جذرياً أبعد من كل أسلافه (وهذا ما يميّز عمله «التحوّل» أو «المسخ» عن كتابات مايرينك)، وذلك بشحن الفنتازي بالواقعي (واقع الملاحظات الصغيرة وواقع الرواية الاجتماعية أيضاً) بحيث إن مخيلته المفعمة بالحلم لم تصبح، كما النمط الرومانسي، ضرباً من الهروبية أو الذاتية الصرفة، بل هي بالأحرى حفر في حياة حقيقية وطريقة لفضحها ولمباغتتها.
كافكا كان الكاتب الأول الذي أحدث (قبل أن يقترح ذلك السورياليون) مزيجاً خيميائياً من الحلم والواقع، والذي خلق عالماً مستقلاً فيه الحقيقي يبدو فنتازياً، والفنتازي يكشف القناع عن الحقيقي. والفن الحديث يدين باكتشاف هذه الخيمياء للإرث البراغي (نسبة إلى براغ) عند فرانز كافكا.

3
ياروسلاف هاسيك Jaroslav Hasek ولد في العام نفسه الذي ولد فيه كافكا، وتُوفي قبل رحيل كافكا بعام واحد. كلاهما ظل وفياً لموطنه، وبحسب الرواة، الاثنان التقيا في أحد اجتماعات الحركة الفوضوية التشيكية.
سيكون من الصعب العثور على كاتبين مختلفين جوهرياً أكثر منهما. كافكا كان نباتياً، هاسيك كان مفرطاً في تعاطي الكحول. كافكا كان مستقيماً والآخر غريب الأطوار. أعمال كافكا تعتبر صعبة، مشفرة، سحرية، بينما أعمال هاسيك صارت شعبية ورائجة جداً مع أنها لم تعتبر أدباً «جاداً».
على الرغم من اختلافهما الشديد ظاهرياً، فإن هذين الفنانيْن كانا أبناء المجتمع نفسه، المرحلة نفسها، المناخ نفسه، وكانا يتحدثان عن ذات المسألة: البشرية تواجه مجتمعاً تحوّل (عند كافكا) إلى آلة بيروقراطية جبارة، أو (عند هاسيك) إلى آلة عسكرية: كـ(k) يواجه المحكمة أو القصر، شفيك يواجه استبدادية الجيش النمساوي - الهنغاري.
في الفترة نفسها تقريباً، أي في العام 1920، ثمة كاتب آخر من براغ، هو كاريل كابيك Capec، كان يروي في مسرحيته RUR قصة مخلوقات آلية (روبوتات).
كلمة «روبوت» التشيكية، المبتكرة حديثاً، هي مستمدّة من هذه المسرحية، وسرعان ما انتشرت عالمياً. هذه المخلوقات الآلية، التي صنعها الإنسان، تبدأ في شن الحرب ضد الإنسان. وبسبب انعدام الحساسية لديها، وانضباطها الذاتي، تنجح هذه المخلوقات أخيراً في إبادة الجنس البشري وإزالته عن وجه الأرض، وتأسيس إمبراطورية ذات نظام خاص بها. هذه الصورة، عن زوال البشرية تحت موجة استبدادية خيالية، تتكرّر في كل أعمال كابيك.. كما لو أنه هاجس، كابوس.
مباشرة بعد الحرب العالمية الأولى، عندما خضع سائر الأدب الأوروبي إلى رؤية مشعة للمستقبل، وإلى الإيمان ببعث الثورة، كان هؤلاء الكتّاب في براغ أول من كشف عن الوجه الخفي للتقدم: الوجه المعتم، المهدّد والرهيب.
هؤلاء الكتّاب، في الواقع، هم أفضل الممثلين لبلادهم: الشيء المشترك بينهم هو ذلك الاستشراف، المحرّر من الوهم، لـ«أوروبا الأخرى» ذات البلدان الصغيرة والأقليات.
ما يجعل روايات كافكا وهاسيك خالدة ليس تصويرها للآلة الشمولية الاستبدادية، إنما الشخصيتان العظيمتان اللتان تحملان اسم جوزيف (جوزيف ك، جوزيف شفيك) واللتان تجسدان استجابتين إنسانيتين أساسيتين تجاه هذه الآلة.
ما موقف جوزيف ك؟
مهما كلّف الأمر هو يريد أن يفهم المحكمة، التي هي مبهمة وغير شفافة. جوزيف يريد أن يفهمها وأن يجعل نفسه مفهوماً. بهذه الوسيلة، هو يصبح «متهماً راغباً في التهمة»: إنه يندفع إلى الاستجواب من أجل الوصول في الموعد المحدد، مع أن أحداً لم يحدّد له أي موعد للاجتماع، وعندما يقوده الجلادان إلى حتفه، هو يحميهما، ومن شرطة البلدية يسترهما عن الأنظار. المحكمة لا تعود عدوّة له، بل حقيقة يسعى وراءها لكن يتعذر بلوغها.

4
إنه أمر آسر رؤية التواصلية التي تربط براغ الخيالية والحقيقية: هذه الشخصيات العظيمة، النابعة من الخيال، تندمج مع الحياة نفسها. صحيح أن روايات كافكا تمّت إزالتها من رفوف المكتبة العامة، لكن براغ اليوم تستمر في إعادة تمثيلها. لهذا السبب هي مشهورة هناك ويتم الاستشهاد بها في الأحاديث اليومية في براغ.. تماماً كما الحال مع أعمال هاسيك المتوفرة أكثر.
لقد شاهدنا الآلاف من جوزيف ك أثناء وبعد المحاكمة الشهيرة لسلانسكي Slansky في 1951. في ذلك الوقت كانت هناك محاكمات لا تحصى ومن كل صنف: حالات إدانة، طرد، توبيخ رسمي، مضايقات. كل هذا حدث بينما الضحايا الذين استبد بهم الشعور بالذنب، المنهمكين في نقدٍ ذاتي متواصل ولا ينقطع أبداً، كانوا في أمسّ الحاجة إلى فهم المحكمة وجعل أنفسهم مفهومين من قِبل المحكمة. لقد بذلوا، حتى الدقيقة الأخيرة، أقصى ما لديهم من جهد لإيجاد معنى ما في أعمال آلة فارغة، لا معنى لها، كانت تسحقهم بلا رحمة. هؤلاء هم «المتهمون الراغبون» الذين كانوا مستعدين وتوّاقين لمساعدة جلاديهم حتى اللحظة الأخيرة من مثولهم أمام الخازوق، هاتفين: عاش الحزب.

5
«كفى سيكولوجيا».. هكذا كتب كافكا في يومياته. الموقف المضاد للسيكولوجيا عند كتاب براغ سبق بعشر أو عشرين سنة النموذج الشهير الذي وضعه أولئك الروائيون الأميركان عندما جرّدوا قصصهم من أي استبطان للأفكار والمشاعر والدوافع، مهتمين بالفعل والأحداث، محاولين الإمساك بالعالم من الخارج عن طريق مظهره المرئي والملموس.
موقف كتّاب براغ كان مختلفاً إلى حد ما، فهو لم يتألف من حب المغامرة الرجولية أو الولع بالوصف الخارجي، بل من طريقة جديدة في النظر إلى الإنسانية. هذه النظرة الجديدة يمكن رؤيتها في حقيقة أخاذة: ليس للاثنين (اللذين يحملان اسم جوزيف) أي ماضٍ. ما هي خلفيتهما العائلية؟ كيف كانت طفولتهما؟ هل كانا يحبان والدهما، أمهما؟ كيف كانت مراحل نموهما في الماضي؟ نحن لا نعرف شيئاً، وهذا اللاشيء هو الذي يشكّل انقطاعاً عن أدب الماضي.
كافكا لا ينكر الاستبطان، لكن لا يهم إلى أي مدى نحن نسعى وراء تفسير (ك) من فصل إلى آخر، فالذي يبهرنا ليس أبداً ثراء روحه. إن تفسير (ك) محدّد على نحو صارم من قِبل الوضع السلطوي والاستبدادي الذي فيه هو منهمك تماماً. الرواية، كما يؤلفها كتّاب براغ، لا تسأل: ما الكنز المخبوء في النفس البشرية؟ بل بالأحرى، ما الاحتمالات للبشرية في العالم الذي أصبح شرَكاً؟
خلال الفترة نفسها التي كان فيها مارسيل بروست وجيمس جويس يصلان إلى الحدود القصوى للتضلع في الاستبطان والتحكم فيه، يأتي هذا التصريح، كفى سيكولوجيا، الذي عبّر عنه في براغ كافكا وهاسيك، ليميّز اتجاهاً فنياً آخر للرواية.
الدوافع الباطنية لا تعود تعني الكثير في عالم حيث القوى الخارجية تكتسب المزيد والمزيد من السلطة على الإنسان.

6
في 1963، نظّم المثقفون التشيك مؤتمراً دولياً في أحد قصور بوهيميا حيث تم رد الاعتبار إلى كافكا.. هذا الكاتب المحظور. الأيديولوجيون الروس سوف لن ينسوا أبداً مثل هذا العصيان. في الوثائق الروسية الرسمية، التي كانت تستخدم لتبرير غزو تشيكوسلوفاكيا في 1968، لوحظ في حينه أن الإشارة الأولى للثورة المضادة كانت في رد الاعتبار لكافكا.
المصدر: مجلة Granta 17
- خريف 1985.
شيء عن كافكا
1883: ولد فرانز كافكا في مدينة براغ.
1896: دخل إلى الجامعة لدراسة علم الكيمياء، ولكنه سرعان ما غير موضوع دراسته لكي يصبح علم القانون.
1902: التقى ماكس برود الذي سيصبح ناشر كتبه بعد موته.
1906: أنهى دراسته في الجامعة الألمانية بمدينة براغ، وأصبح موظفاً في مكتب للمحامين، وقد تنقل بعدئذ من وظيفة إلى أخرى، وفي الوقت ذاته كان يمارس عملية الكتابة، ولكن من دون نشر.
1912: كتب روايتين شهيرتين بعنوان: التحولات، والمحاكمة.
1922: ألف كافكا رائعته: القلعة.
1924: مات الكاتب الكبير بمرض السل.
كتاب: كافكا
تأليف: رايتشي روبرتسون
وصايا منتهكة
يقول كافكا في إحدى رسائله إلى والده:
أنت سبب معاناتي كلها، أنت خلف كل كتاباتي، لقد قلت فيها ما لا أستطيع أن أقوله وأنا على صدرك.
كان علينا أن نحترس من عدم سقوط الطعام على الأرض، لكن تحتك كانت معظم البقايا على المائدة، ولا يجوز الانشغال بغير الطعام، لكن أنت كنت تنظف وتقطع أظافرك، تبري أقلام الرصاص وتنظف أذنيك بنكاشة الأسنان. كان من شأن هذه الأمور أن تكون بحد ذاتها تفاصيل لا أهمية لها على الإطلاق، ولم تثقل على نفسي إلا لكونك أنت الإنسان القدوة بالنسبة لي، لم تكن نفسك لتحافظ على الوصايا التي فرضتها عليّ.
الرسائل، الجزء الأول
رسالة إلى الوالد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى