عبد النبي فرج - رامة والتنين.. قصة

(*) إهداء إلى روح إدوار الخراط.................
(1)
تناثر الدم في الكون والشمس اختفت خلف الحقول،. والفلاحون حملوا الفؤوس وعادوا إلى بيوتهم. جثة شمندي قد بردت وتسللت الحشرات إلى فمه، وبدا جلد جسده هشًّا، خرج المعلم نجيب من السرايا وقد تهيأ وحمل الكوريك وسار تاركًا دميانة تناغي عوض وترفعه إلى السماء. ونزل إلى الحقول وهو يلتفت بحرص حتى وصل إلى مكان قد روي، وأخذ يحفر بالكوريك في صبر وتأن حتى حفر عمق رجل.
ذهب إلى النوالة (مكان يوضع فيها تقاوي البطاطس من عام إلى آخر) وربط الحبل في سرج المهرة عايدة وأخذ يسير به في طرق متعرجة، حتى وصل بها عند الحفرة ففك مقوده وأخذ يدحرجه حتى أسقطه في الحفرة، وداراه بالرمل، وأدار الماكينة في الحوال حتى اختفي كل شيء إلا ذبابة زرقاء بدت تحوم حول الحفرة،.
هل برح مخيلته طوال الليالي الفاتنة؟ هل ندم؟ عاد إلى السرايا ودخل غرفة الأفعي وأشعل الشموع المطفأة ورمي شلتة على السجاد الإيراني، أحضر الكأس والنبيذ وأخذ يشرب بهدوء. اندهش عندما رأى القديس مارجرجس وبيده الحربة يحارب التنين وكأنه لم يره من قبل. ولم ير صلابة القديس، وهو ينظر إلى عينيه القويتين وهى تطارده، وأخذ يزحف تاركًا المكان، دخل غرفته فوجد الست دميانة تأخذ عوض بين أحضانها.
نظر إلى المرأة فوجد وجهها صغيرًا وطيبًا وبريئًا وخائفًا، وجسده الضئيل وحياته التي مرت وهو يضع قناعًا زائفًا ملعونًا غطى على روحه واعتقلها، يجب أن أفعل ما أريد أن أفعله لن يخرج من نسلي مسلم أبدًا،. أخذ يبحث في السندرة حتى وجد حبلًا من الكتان، أخذ يلفه بين يديه ثم غمسه في الزيت وصعد مع شرائح الضوء الخفيف درج السلم المؤدي إلى القبو الذي ترقد فيه عايدة حتى انتهى إلى السطح، اصطدم بالبخار الرطب الذي يغلف الكون، أخرج المعلم المفاتيح الصدئة وأخذ يفك القفل في هدوء وبدنه يرتعش وصوت تنفسه يتعالي.
توقف وفكر أن يعود. قدمه ثبتت في الأرض، وهو يحث نفسه على الدخول،. لن تقاوم. سيلتف الحبل حول رقبتها لمدة ثوانٍ، وتموت ويلقي الجيفة في المستنقع، أزاح الباب الذي زيق تزييقًا حادًّا مزق روحه سار يتحسس البلاط، فوجد عايدة تنظر إلى كوة صغيرة نحو السماء، وقد ضمر جسدها وعيناها اخذتا تتسعان اتساعًا غريبًا وكأنها مخبولة، اقترب منها كانت مضيئة حتى كادت أن تشع تمامًا وهي تتحول أمام ناظريه الي كائن أخر تماما "فصرخ وجري مسرعًا وكأن غولاً يتبعه رافعًا حربة الموت ويطلقها في إثره.
كان يسمع صوت الحربة تتبعه حتى سقط يتدحرج من على السلم ، وصل للدور الارضي وقد خمد غائبا عن الوعي ورأى نفسه يسير في الملكوت ويرى يسوع ابن الرب بجواره الساروفين وهو ينادي بأعلى صوته ابن الرب الذي أشاح بوجهه حتى اختفي، نظر حواليه، خرائب تحيط به ونبت في الأرض شوك، قنفذ، عرس ابن آوى بجسمه الطري يقف في مواجهته، ضفادع وحشية تتقافز وتطلق صوتًا مزعجًا يكاد يصيبه والأفعى تقف وقد نبتت لها رأس سوداء. يحيطون به ويزحفون نحوه وهو واقف بلا حراك ينظر إلى البعيد ولا يري سوى الوحشة دون معين أو زاد وحيد في هذا الكون، استسلم مادا ذراعه إلى الأفعى التي غرست مخالبها في ذراعه، والضفادع وابن آوي والحشرات السامة يبركون فوقه.
...................
(2)
استيقظت الست دميانة على صوت صراخه المؤلم. جرت، وجدته مكومًا على درج السلم وقد بال على نفسه حاولت أن تحمله لم تستطع فجلست تبكي إلى جواره، وتذكرت رحلة العمر الطويلة التي عاشت فيه معه منذ أن تزوجته قبل الحرب ألكبري بأربع سنوات وهي معه في كفاح، تقطير متواصل، كفاح بلا آخر، لم تتذكر يومًا أنه كان هناك ترفيه أو لهو، وكأننا مكتوب علينا أن نعمل ليعيش الآخر والآخر يعمل ليعيش آخر وهكذا دواليك وكأنني سلسلة من الأضاحي لم يتغير شي منذ دخلت هذا المكان ونسير على خط مستقيم وكأننا آلات، لمن نترك كل هذا المال، كل هذه الخصوبة التي لا ينتفع بها أحد. مرارة لم تنقطع منذ أزالت الرحم، موت الابن، الزوج، مأساة عايدة.
تنادي حتى أتت عايدة، حملت جدها وأراحته على السرير ثم عادت وأدارت قرص التليفون عدة مرات حتى حضر الدكتور عادل ابن عمتها وعندما دخل الغرفة التى بدت عطنة ورائحتها كتمت على روحه خرج مسرعًا
لم يشأ أن يقول لهم: إن الضربة في الرأس كانت قوية جدَّا ولن ينطق أو يسير مرة أخرى: أبدًا أملنا في الرب كبير.
قام وفتح الشباك: الضوء صحيّ وكلنا محتاجين الشمس
قامت عايدة ونزعت الستائر الكابية ودفعت الشبابيك فتسلل قرص الشمس.
كان على دميانة أن تحمل هموم المنزل المقبل على التفسخ أخذت أولا تشيع بين الفلاحين غياب شمندي المتكرر وأرسلت تسأل عند أقرباء من بعيد وأصدقاء: الواد قاطع فينا
- اِنت عملت اللي عليكِ كده، واسم الله المعلم كان يعامله مثل ولده، وأتريس كلها تشهد على ذلك.
- الغيبة طولت ولا حس ولا خبر
- الرك على الأصل، ابعثي والنبي شوية مش يا ست دميانة
- عينيا، بص، فوت على بيت الواد سعد ابن الست لويزة مِرات المعلم وهبة وقله المعلم عايزك
- حاضر من عينيا يا أم سامي
سعد ولد غلبان مثل البنت الحيية، خجول منذ أتى إلى المعلم ليتوسط له للعمل بعد أن تخرج في دبلوم التجارة وقد توسط له المعلم لكي يشتغل في البريد ولكن ماذا تقول له؟
تركت الفلاحين في الحقل وذهبت إلى السرايا وجدت المعلم ينظر إلى قرص الشمس وقد بال على نفسه: تاني يا معلم، رفعته من على السرير بمساعدة عايدة ونظفته بالماء والصابون وغيرت ملاءة السرير وأراحته على السرير وجلست بجواره على السرير بعد أن غمرته بالملاءة.
طوال عمرنا ظللنا نكد بحثا عن الأمان وخوف من الآتي، خوف من الجار خوف من الله. معلم هل خُلقنا لكي نخاف؟ لكي نعيش في حالة رعب نكبح خلالها رغباتنا وأشواقنا، هل ما عشنا من أجله وهم، شرانق وخنادق وممرات سفلية كان وهمًا، وهل نحن قادرون الآن فعلاً على التغيير وصناعة مصيرنا بأيدينا أم أن العمر فات وخرجنا من المباراة خاسرين. نحن خاسرون، هذا الاعتراف الوحيد هو الذي يمثل لنا الشرف الوحيد حتى لو كان بيننا وبين وأنفسنا .
...................
(3)
عايدة منزوية في غرفتها تنظر إلى الفراغات وتعيش مع شمندي في أحلام لا تنتهي، ترى نفسها بجوار شمندي والزهور والرياحين من كل صنف تحيط بهم وبرك الماء العذب تترقرق أنهارًا وجداولَ صغيرة، وقد غمر الكون ضوء القمر ليضوي الزروع الريانة وتسمع ضحكة شمندي غريبة ولكنها جميلة ثم يحملها على ذراعه وهي تنظر إليه في فرح وعشق أبدي ولا يقطع صوت نهر الفرح إلا صوت في الخارج. تزدرد لقيمات لكي ينمو ابن شمندي.
الجدة مستغرقة في التفكير في عزلة، والمعلم ينام قبالتها على السرير حتى دخل سعد وقبل يديها، انفطر وتراجع عندما رأى الحية: تعال يا سعد دي ميتة، اقعد. ناولته كأس نبيذ وأخذت تروي له كيف تسلل الثعلب اللعين شمندي واغتصب الطاهرة وفر هاربًا عندما حاول المعلم أن يقبض عليه، وكاد أن يقتل المعلم وعايدة اليتيمة أعصابها انهارت وتصرخ طوال الليل وهياجها لا ينتهي، وسعد ينصت وقد تهدج صوتها، وهي تلون في صوتها وتنشج في بطء حتى تحول صوتها إلى عويل فبكى سعد، ولم يخرج إلا بعد أن اتفق على الفرح.
وقفت عايدة أمام القس ورددت قسم الزواج وأنها راضية تمامًا وإلى الأبد، تردد وهي تقاوم الانهيار، وعندما عادت من الكنيسة ودخلت السرايا مع عريسها أخرجت الجدة المعازيم بسرعة وعذرها أن المعلم في غاية التعب، ويكره الضجيج وعندما خرجوا أغلقت الباب وأطفأت الأنوار وتركته في البهو حائرًا.
وفي الصباحات التالية كان يدور في السرايا خجلاً يحس أنه غريب وأنه يمثل دورًا ليس له، سرعان ما خرج من القصر، كان تعسًا وهو يدور في القصر ورائحة عرقه قد فاحت حتى عرفت الجدة فدخلت عليها الغرفة وكبست عليها:
ـ واسم الله إن لم تتركيه يدخل عليكِ لأكون مخلّصة عليك أنتِ وهو مرة واحدة.
وحددت مكان الطفل في بطنها، ولم تتركها إلا بعد أن امتثلت وقد غمرها العرق وتناثر شعرها على عينيها والحيرة تسيطر عليها حتى دخل عليها وعيناها تنظران إلى البعيد عبر الشباك.
جلس جوارها وأخذ يتكلم في هدوء، وهي غير منصتة، عن مشيئة الرب وكيف يجب أن يمتثل العبد لأوامره وهي تنظر إلى السُحب التي تحولت إلى اللون القاتم في شكل تنانين تملأ السماء وقد توجهت إليها وبدت أنيابها الحادة مخيفة، تقترب وتكاد تتدخل من شبابيك وتنقض عليها فصرخت وراحت في غيبوبة، وقفز سعد خارج الغرفة.
في الأيام التالية كان الزمن يمر ببطء، يتقاطر في روحها بسأم ثقيل فوق روحها حتى أتى الخريف، وسرى في الكون هواء رقيق وصفا الجو، وانزلق القمر في ساعة صحو داخل رحمها فغمرها العرق وانزلق منها، الوليد.
عيناه سوداوان وملامح شمندي مطبوعة على وجه الطفل وسعد سعيد بالطفل ويناغيه ويظل يُدلّلهُ طوال النهار وفي يوم التعميد أتت الست دميانة وقالت لعايدة: حضري نفسك بكرة التعميد.
- حاضر
وتذكرت شمندي ونزلت من على الفراش والليل يفترش الكون بغبار أبيض رقيق.
- ماذا أفعل؟
سارت في الحقول تغوص في الحشائش حتى وصلت إلى شجرة المانجو واستندت عليها وسمعت صهيل الفرس يرج الكون وعينها تجوس في المكان باحثة عن شمندي، سارت على الدرب، واجتازت المنحنيات ثم وقفت أمام الغابة وبدا بدنها الرقيق يرتعش وقدمها تغوص في ماء الغابة الراكد، أزاحت الريم الراقد الذي يغطي على سطح الماء والغاب يصطدم برقبتها ويجرحها فتتسلخ قدماها من الغاب النابت حتى انتهت إلى الصحراء، نظرت حولها خلعت بلوزتها وفرشتها ونامت عارية، ثديها وبدنها يضويان، ناظرة إلى بركة الماء المعلقة في السماء حتى غفت، ورأت نفسها تقف أمام الكنيسة وصوت يناديها باسمها، نظرت فوجدت شمندي وكأنه يوم القتل، وقد ظهر صوته جلياً، عايدة، ابني يا عايدة، يده وصوته المجروح يكادان يزلزلانها والجدة تجرّ منها الوليد والشمامسة والقسس يقفون لكي يتم تعميد الوليد الذي يصرخ ويكاد يتمزق بينها وبين الجدة، صرخت وقامت تنظر إلى الفراغ، كان القمر قد غاب، خطت نحو السرايا وفتحت غرفتها وحملت الوليد بين ذراعيها وخرجت من السرايا تجاه البوابة
فتحتها
سارت!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى