مصطفى الحاج حسين - العم سمعو.. قصة قصيرة

كان ( سمعو ) جارنا في الزّقاق ، صديق أبي يناهز الأربعين ، وهو يعرف القراءة والكتابة ، لذلك عرضت عليه أن يعلّمني كتابة اسمي بعد أن غدت صداقتي مع ابن عمي ( سامح ) مستحيلة ، بسبب ماجرى من قتل أبيه بسببي ، وزواج أبي من أمّه ( أم عص ) كما تسمّيها أمي. وكان( سمعو ) هذا عازفاً عن الزّواج مذ كان يافعاً ، وهو كثير الشتم للنساء ، يعدّهن مخلوقات تافهات لايستحقن سوى عود ثقاب ، ولم نكن نحن الصبية نعرف سبب كرهه الشّديد لهنّ .

وكان أهالينا يحذرونا من التّوقف مع ( سمعو ) ، فهو كما يزعمون ، وسخ ونذل ، ولم نكن ندري أي نذالة بقصدون ، حتى أبي صديقه وشريكه في تعاطي الكحول والحشيش ، ضربني بشدّة عندما أبصرني ذات مرّة أقف معه ، وأمرني ألّا أعود للوقوف والحديث مع هذا الحقير .

وكثيراً ما كنت أتسأل لماذا يكثر والدي إذن من زيارته مادام يراه كذلك ؟! .. ومع كلّ هذا ، ومن شدّة لهفتي للتعلّم ، طلبت منه أن يعلّمني القراءة والكتابة سرّاً ودون أن يعلم أبي ، فوافق ( سمعو ) في الحال ، وطلب منّي أن أتسلّل بعد العشاء إلى داره ، حتى يباشر تعليمي ، وكنت أستطيع ذلك طبعاً ، خاصة بعد زواج أبي من ( فطينة ) زوجة عمّي القتيل ، أمّ ( سامح ) ، فأبي ينام في دارها ، وليس هناك غير تهديدات أمي ، وعدم احتمالها لتصرفاتي .. وهذا أمر سهل .

في المساء لم أطرق باب ( سمعو ) كان موارباً ، دفعته وخطوت نحو العتبة ، وكان يقف بانتظاري مرحباً بي :

- أهلاً ( رضوان ) ، كنت أعلم أنّه أنت .. تفضّل .

خطوت في باحة الدٌار التّرابية الواسعة ، بينما كان ( سمعو ) يقفل الباب خلفي ، تسلّل شعور بالوحشة والخوف إلى قلبي ، فهذه الدّار الكبيرة ليس فيها أي دليل على الحياة ، فلا شجرة ولا نبتة صغيرة فيها .

وساقني إلى غرفته ، كانت واسعة مصقولة الأرضيّة بالاسمنت الأسود، جلست على حافة العتبة المرتفعة ، لكنّه طلب أن أخلع حذائي وأدخل إلى الصدر لأجلس على اللبّاد .

جلس إلى جواري ، بعد أن أحضر أوراقاً وقلماً أزرق من الخزانة ، فقلت :

- هيّا نبتدي .

ابتسم ( سمعو ) فبانت أسنانه السّوداء المنخورة ، وقال :

- ليس قبل أن نشرب قدحاً من الشّاي العجمي ، وسيكارة على مزاجك .

قلتُ وأنا أحسُّ بالإنقباض والنّدم ، لأنّي أجالس هذا الرّجل الكريه :

- لا داعي لذلك .. أنا على عجلة فأمّي تنتظرني .

مدّ يده إلى جيبه ، أخرج علبة تبغه المعدنية ، فتحها بأظافره وأخرج سيكارتين ثخينتين ، وقال :

- طيّب ... خذ اشرب هذه ومن بعدها نبدأ .

- لا .. لا أريد .. أريد فقط أن تعلّمني .

- جرّب ودخّن هذه ، أنا أعرف أنّك تدخّن .

تناولت السّيكارة منه ، فكشّر ضاحكاً :

- فرخ البط عوّام ، أبوك لا يحبّ إلّا سكائري هذه .

- لا .. لن أشربها إذاً .. هذه السّيكارة فيها حشيش .. وقذفتها أمامه . فقال :

- طيّب جرّب .. ولن تندم .

- مستحيل .. مستحيل .

- حسناً كما تريد لا تغضب سأدخن وحدي .

أشعل السّيكارة فظهرت عيناه تلمع مرعبتين ، وبعد أن سحب نفساً عميقاً ، قدّم إليّ السّيكارة :

- خذ على الأقل نفثة واحدة .. هيَّا لا تخجّلني .

ولأنّي أردتُ أن أنهي هذه القصة ، لنبدأ بما جئت من أجله ، إقتربت من يده ، ووضعت فمي على السّيكارة ، غير أنّه وفي نفس اللحظة خطف قبلة من خدّي ، فصعقتني المفاجأة ، وشممتُ أنفاسه الكريهة:

- ماذا تفعل ياعم ( سمعو ) ؟؟!!.

وهممتُ بالنّهوض ، ولكنه لم يتركني ، دفعني بعنف فارتميت على قفايّ ، وهجم كالثور الهائج فوقي .. ألقى بثقله فوق صدري ، ماسكاً يديّ ، في حين أحنى رأسه وبدأ يقبّلني بجنون كالمحموم :

- دعني يا عم ( سمعو ) أرجوك ... أستحلفك بالله ... أتركني .. أمّي تنتظرني .

وكان يدمدم وهو منهمك في تقبيلي ، وأنفاسه المقزٌزة تثقب أنفي :

- لن أتركك تخرج من عندي ياروح أمّك ، قبل أن أنال مرادي منك .

حاولت جاهداً أن أتملّص منه ، رجلاي تضربان ظهره ، ويدايَ تحاولان الفكاك من يديه .. فأحرّك رأسي يمنة ويسرة ، كيلا بتمكّن من تقبيلي ... ولمّا وجد عنادي إلى هذا الحد ، نهض إلى الخزانة بسرعة ، وأخرج سكيناً لامعة ، قبل أن أتمكّنَ من النّهوض ، لأتّجه إلى باب الغرفة الموصد ، ولكنه سدَّ عليّ الطّريق ، وأمسكني :

- اخلع ملابسك وإلّا قتلتك .

تراجعت .. الذّعر سيطر على قلبي ، وعيناه تقدحان شرراً ، والسّكين في يده حادّة فظيعة :

- اتركني .. أرجوك .. أنا في عرضك .

- قلت لك تعرَّى .. وإلاّ ...

- يا عم ( سمعو ) أبوس رجليك .

وانقضّ على شعري ، يشدّه بعنف وبلا رحمة ، لفَّ عنقي نحوه ، ثمَّ وضع السّكين حوله ، وصرخ :

- هل ستتعرَّى .. أم أذبحك ؟! .

كانت عيناي تراقبان السّكين ، من خلال الدّموع ، إنّها قريبة من عنقي ، بل هي تلامسه .. فقلت باستيلام مرير :

- اتركني .. سأفعل ماتريد .

تركت يده المتوحّشة شعري، لكنّه ظلَّ ممسكاً بي ، وهو يزعق :

- اخلع بنطالك

خلعت بنطالي وأنا بين يديه مثل فرخ دجاج ، سقط البنطال على الأرض ، وأخذ ( سمعو ) يجسَّ لحم ساقي بقوّة ... تملّكني شعور عارم بالخجل ، فأنا عار من الأسفل تماماً ، طوال عمري لم أتعرَّ أمام أحد ، أمّي تعجز بي أن تدخل الحمام عليَّ حتّى تفرك لي ظهري ، وأنا أرفض ... تذكٌرت ( سامح ) ابن عمي ، وماحدث له في ( مقطع الزّاغ ) مع المجرم ( جمعة الكبّاج ) ورفاقه يوم هرّبته من المدرسة ، وكيف تعرّض للإغتصاب ، وكاد أن يموت ، لولا محاولة إنقاذه ، التي كانت متأخرة .. ولكن هنا أنا من سيخلّصني وينقذني من هذا المجرم المتوحٌش ؟! .. كيف سأواجه أبي وأهلي ، وأولاد الحارة ، الذين يسخرون من ( سامح ) حتى اليوم .

دفعني نحو الفراش ، فامتثلت خانعاً ، وأمرني أن أخلع سترتي :

- ياعم ( سمعو ) أبوس ( قندرتك ) اتركني .

- اخلع سترتك وإلاّ ذبحتك ، ورميت جثّتك في بئر الدّار .

وجدت نفسي عارياً تماماً ، أرتجف وأبكي ، عاجزاً عن فعل أيّ شيء ... ألقى بالسكين من يده ، وأخذ على عجل يخلع عنه ( كلابيته ) ، وحين تغطّي رأسه ، ولم يعد يبصرني ، وجدتها فرصة .. وانقضضت ولا أدري من أين جاءتني الجرأة وأخذت السّكين ، وبسرعة ، وقبل أن تظهر عينا ( سمعو ) ، كانت السّكين قد انغرزت في بطنه ، فصرخ يجأر كالذئب :

- آه ياكلب .. قتلتني .

عاودت طعنه من جديد ، مرّة ، ومرّتين ، و .. لا أدري كيف كنت أفعل ذلك ؟!.. كان كلّ ما أراه هو الدّم .. الدّم متدفّقاً من بطنه وصدره ، يتخلّل شعر صدره الغزير ، وأنا أنهال عليه بالطعنات بلا توقف ، أو رحمة .. وهو يتراجع أمامي .. ثمّ هربت إلى باحة الدار ، توجّهتُ إلى الباب ، ولكنّ الباب لا يفتح .. إنّه .. إنّه مقفل ، والمفتاح مع ( سمعو ) ، نظرت إلى باب الغرفة ، فهالني منظر ( سمعو ) واقفاً بدمائه ، يريد أن يمسكني بيده اليسرى ، بينما كانت يمناه تدفع أحشاءه المتدلّية إلى بطنه ، ركضت في باحة الدّار مبتعداً عنه وأنا أصرخ ، وكان يلاحقني ... وعدتُ إليه من جديد وطعنته ، فاستطاع أن يمسكني ، بلّلني بدمه ، فصرختُ بقوّة ، كانت عزيمته قد خارت ، فحاولت التّملص من بين يديه ، نزعت نفسي وجريت .. تناهت أصوات النّاس خارج الدّار ، يطرقون الباب علينا ، وصراخي لا ينقطع ، والباب مقفل لا يفتح ، والباحة التّرابية امتلأت بقعاً حمراء من الدّم الدّاكن ، و( سمعو ) لم يشأ أن يسقط ميّتاً ، ظلّ يطاردني ، وها أنا أعود لطعنه من جديد ، بسبب خوفي ورعبي ، وعيوني تراقب الباب وهو يدفع بقوة و ... وإنكسر الباب أخيراً . وتدفق من خلفه الرّجال والأطفال ، هرعت نحوهم وأنا أصرخ .. ناسياً عري .. كل ما أذكره أنّهم هرّبوني عارياً إلى بيت عمي المرحوم ، والد ( سامح ) الذي تزوج والدي أمّه ، حيث كان البيت قريبا من دار ( سمعو ) ، وكان أبي هناك .. جميعهم استقبلوني بفزع ودهشة .. أرتميت أمامهم عارياً والسّكين بيدي تقطر دم العم ( سمعو ) .

مصطفى الحاج حسين .
حلب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى