أدب مغربي قديم بلقاسم خروبي - النزعة البيانية عند النقاد والبلاغيين المغاربة والبذور الأرسطية.. "رصدٌ قرائي لمسارات الحركة المغاربية اتباعا وتفردا"

إنّ التَّقعيدَ الفَلسفي والمَنطِقي الذي ارتَكزَت عليه البلاغةُ العربيةُ القَديمةُ، جَعلَ مِن أَحكامِها النقديَةِ سابقةً على الإِبداعِ وفارِضَةً عليه شَيئًا مِن النَّمَطيَةِ المُعَقلنَةِ،والتي عَمِلَت بدورِها على فَرضِ القُيودِ الإِبداعيَةِ على الظاهرةِ الشعريةِ في شَكلٍ سابقٍ وقَبليٍّ، الأَمرُ الذي يستَتبِعُ مَعه نمَطيَةً مِعياريةً أخرى في التَّلقي. كلُّ هذا:« يُذكِّرُنا بما شاعَ في الأدبِ الأوربي إبَّانَ العَصرِ الموسومِ بالكلاسيكيةِ أو الاتّباعي، فقد أفادَ الأُدباءُ والنقادُ جميعاً وَقتذاكَ من القاعدةِ المشهورةِ التي قال بها أرسطو والتي نَستطيع أن نُلخِّصَها في، أنّ الشعرَ كَالفلسفَةِ العَقلُ أَساسُه وضابِطُه.»([1])[2]

ولا غَروَ والحالُ كذلك، أن نَجد فَضاءاتٍ مِن الفِكرِ الأَرسطي مَبثوثَةً في كُتبِ النقدِ العربي القَديمِ هُنا وهُناك، فَما نَهَلهُ العَربُ قديمًا مِن تُراثِ اليونانِ يَجعَلُ الحُكمَ بَديهيًا، وتَتَقبَّلُه الذِّهنيَةُ العَربيَةُ بِكُلِّ يُسرٍ وانفِتاحٍ. فَقصْدُ البَحثِ عَن بُؤَرِ التَّلاقي بَين الفِكرَينِ العَربي واليوناني، لا يَعدُو كَثيرًا قَصْدَ "أبي نصر الفارابي"([3]) حين قال:« قَصدُنَا في هذا القولِ إِثباتُ أَقاويلَ، وذِكرُ مَعانٍ تُفضي بِمَن عَرَفها إلى الوقوفِ على ما أَثبَتَه الحكيمُ في صِناعَةِ الشِّعرِ.»([4]) وأُولى تِلكَ الأَقاويلِ، ما قد أَقَرَّهُ "أرسطو" في كِتابِه "فن الشعر" مِن إِقرارٍ مُطلَقٍ بِالقاعدَةِ وتَحكيمٍ صارِخٍ للعَقلِ، إلى جانبِ مُحاكاةِ الواقِعِ وتَقديسِ المَنطقِ والقِياسِ:« فَالأُمورُ التي تَبدو مُتَناقضَةً يَجِبُ أن تُبحثَ بالقواعدِ نَفسِها التي تُتبَع في المُناقضاتِ الجَدليةِ، فَيُنظرَ آلشيءُ المَعنيُّ واحِدٌ؟ أ مَنسوبٌ هو إلى شَيءٍ واحِدٍ؟ أ كَيفِيَةُ النسبَةِ واحِدةٌ؟ فَيَنبَغي إذًا أن نَحُلَّ المُشكلَ بِالرجوعِ إلى ما يَقوله الشاعرُ نَفسُه، أو إلى ما تَواضعَ عليه العقلاء.» ([5])

فالشعرُ عند "أرسطو" مَيدانٌ عَقليٌ لابُدَّ أن يُبحَثَ في حَقلِه بِآلياتٍ مِن جِنسِ المَاهِيَةِ؛ أَي مِن جِنسِ تِكوينِه العَقلي، فَيُصبِحُ بذلك أَمرًا مُبَرَّرًا العَودَةُ إلى القاعدةِ وحُدودِ المَنطِقِ لِكَشفِ مُتَناقضاتِ النَصِّ الشِّعري؛ مادامَت بِنيَةً تُثيرُ جَدلاً لا يَختَلِفُ في ذلك عن جَدلِ الواقعِ من منظورِ "المحاكاةِ الأرسطية"، و:« المُهِمُّ أن نُشيرَ إلى أنّ مُعالجَةَ أرسطو لِمَسائلِ الصِّياغَةِ في الأَفكارِ والجُملِ والعباراتِ وتَنظيمِ أَجزاءِ القولِ - وهي التي شَغلت جُزءًا كبيرًا من كتابِه - قد أثَّرت تَأثيرًا بالغًا في النَّقدِ العَربي القديم وفي البلاغةِ العَربيةِ.»([6])

ولعلَّ هذا ما كان ذائعًا في تُراثِنا النقدي وبشكلٍ مُستَفيضٍ وبالغٍ، إلى درجةٍ أثار فيها اهتمامَ وتساؤلَ كثيرٍ مِن الباحثينَ في هذا الميدانِ، وليس غريبًا أن تتَّسِعَ دائرةُ الفكرِ اليوناني في نَقدِنا القديمِ، وهو ينهل جُلَّ مادتِه من البلاغةِ التي لم تكن بَريئةً هي الأخرى من هذا الإرثِ اليوناني. فَمَقولاتُها التَّقعيديَةُ وأَحكامُها المنطقية القريبةُ مِن القياسِ([7]) والبَرهنَةِ جعل منها نُسخَةً مُنقَّحةً لذلك التُّراثِ الأجنبي، دون أن ننسى في ذلك أَمرَ "المحاكاةِ" التي بُنِيَ عليها الاتَّجاهُ النقدي([8]) الفَلسَفي عِند العربِ؛ الذي نَهَلَ رُوَّادُه جُلَّ مَفاهيمِه وَقتذاكَ مِمَّا خَلَّفَه "أرسطو"،وتأتي في مقدمةِ ذلك الجَهدِ الفلسفي "المحاكاةُ" باعتبارِها معيارا نقديا جديدا يمكن أن تُقاسَ به كثافةُ الصورةِ الشعريةِ:« فما كانَ من الأقاويلِ القِياسيَةِ مَبنيًا على تَخيِّيلٍ وموجودًا فيه المحاكاةُ فهو يُعَدُّ قولاً شعريًا، سواءٌ كانت مُقدِّماتُه بُرهانيةً أو جدليَةً، أو خِطابِيَةً يَقينيَةً، أو مُشتَهِرَةً، أو مَظنونةً.»([9])

وهذا المَوقِفُ قد صَاغَ- وِفقَ المَنظورِ الفَلسَفِي - بِنيَةً جَديدةً يَنبَنِي عَليها "عَمودُ الشِّعرِ" ألا وهي "المحاكاةُ"؛ بِكلِّ ما يعنيهِ هذا المُصطلحُ الفَلسَفي مِن تبنٍّ صارخٍ للواقعِ الحرفي، مع شيءٍ مِن التَّطهيرِ وإِكمال النَّقصِ الذي خَلَّفَتهُ الطبيعةُ. أمّا ما سِوى ذلك فإنّ الصورةَ الشِّعريَةَ تَغدو لَصيقَةً بِالواقعِ وجُزءًا لا يتجزَّأُ من بِنيَتِه في وُضوحِها وجَلائِها الحرفي:« فَالإِرثُ اليوناني له فضلٌ كبيرٌ في تَوجيهِ العُلومِ والفُنونِ تَوجيهًا فَلسفيًا ومَنطِقيًا ونَقدِيًا، وفي صَوغِه لِنَظريَةِ المحاكاةِ التي شَهدَ لها التاريخُ بِقيمَتِها، فكان لها تَأثيرٌ وهَيمَنةٌ على التَّفكيرِ الإِنساني حتّى أَواسِطِ القرنِ الثّامنِ عشر.»([10]) وأَوقعَ الشِّعرَ العَربي مِن قِمّةِ سمُوِّهِ الرُّوحِي إلى الواقعِ وحَضيضِه الدَّنِسِ، ومِن عَالَمِ الخَيالِ المُتَحرِّرِ إلى عالَمِ القُيودِ والتَّكَلُّسِ.

فَالصُّورَةُ البَيانِيَةُ في ظِلِّ هذا الإِرثِ، لا تَعدو أن تَكونَ وَجْهَ مُقارَنةٍ بَين صورةٍ في الذِّهنِ وصورَةٍ أخرى لَها في الواقعِ؛ أي في عَالَمِ الحَقيقَةِ حَيثُ يَنتَفِي الخَيالُ المُرادِفُ لِلكَذبِ والبَاطِلِ، فـ:« لَيس للشاعرِ أن يُحاكِيَ ويَتَخيَّل في الشَّيءِ ما لَيسَ مَوجودًا أَصلاً، لأنّه إذا فَعلَ ذلك لم يَكُن مُحاكِيًا بل يَكونَ مُختَرِعًا،([11]) فَيَركَبَ الكَذِبُ في قولِه فَتَبطُل المحاكاةُ لِكَذبِها، وهي مَوضوعُ الشِّعرِ.»([12]) وأَداتُه الأَوحَدُ. ومَادامَت كذلك، فإنّ المُطابقَةَ بَين الصُّورَةِ المَحكِيَةِ والواقعِ شَرطٌ أَساسٌ لِتَحقيقِ الجَودَةِ الشِّعريَةِ؛ والتي عَبَّر عنها النقادُ بِالبَيانِ والإِفصاحِ وإِخراجِ الأَغمَضِ إلى الأَوضَحِ، والإصابَةِ والقُربِ في التَّشبيهِ... وقد تُجمَلُ أَحيانًا في "حُسنِ البَيانِ".([13])

ومَادامَ مَضمونُ الشِّعرِ في ظل هذه النظرة، لايَفتَأُ أن يكونَ عِلمًا مِن العُلومِ أو شَيئًا مِن النَّفائسِ، فإنَّه يَجذِبُ الشِّعرَ إلى حِسِّيَةِ الواقعِ، فَتَغدو الصًّورَةُ البَيانِيَةُ مَحاكاةً له وجُزءًا مِن بِنيَتِه:«فالشاعرُ من حيث هو فَنّانٌ يَنبَغِي أن يكونَ محُاكِيًا، وتَأتِيه هذه الصِّفَةُ مِن قُدرَتِه على إِعادَةِ تَشكيلِ الواقعِ تَشكيلاً تَخيُّليًا، ولِذلك يَجبُ ألاّ يَغيبَ عَنِ الذِّهنِ أنّ الاستِعارةَ والتّشبيهَ والمجازَ كُلَّه يُثيرُ التَأمُّلَ في معنى المُحاكاةِ الأرسطية.»([14]) وهِي تَسعَى لِربطِ بِنـيَةِ([15]) الشِّعرِ الفَنِّيَةِ بِـبِنيَةِ الواقعِ الحرفيَةِ وكأنَّهُما شيئانِ مُتلازمان ومِن جِنسٍ واحدٍ، رغم التَّبايُنِ الشَّديدِ بينَ َمفهومِ الصُّورَةِ البَيانيَةِ كَعالَمٍ لِلرُّوحِ والسُّمُوِّ المُتعاليَينِ في مفهومِها المثالي، وبينَ الواقعِ كَعالَمِ لِلحِسِّيَةِ والوَضاعَةِ...

فَكيفَ تَشكَّلَ إذن مَفهومُ البَيانِ العَربي تحتَ تأثيرِ هذه النَّظرةِ الواقِعيَةِ، والتي شَكَّلَتها إلى الوجودِ فِكرَةُ "المحاكاةِ الأَرسطيَةِ" ؟

البيـان:([16])

يَبدُو أنّ هذا المُستَوى مِن البلاغَةِ قد تَأثَّر إلى حَدٍّ كَبيرٍ بِمَفهومِ "المحاكاةِ الأرسطيَةِ"، في جُنوحِها المُسْرِفِ إلى الواقعِ ودَعوتِها المُلِحَّةِ إلى محاُكاتِه، وفي بِناءِ الصًّوَرِ التَّخيِّيليَةِ مِن مُكَوِّناتِه الحَرفِيَةِ. فَالوَهمُ والخَيالُ المُجرَّدُ والإِغراقُ في المَاورَاء حيثُ الَّلاواقعٌ والّلاوجودُ العيني للأشياءِ، كلُّها تُبطِلُ آليةَ المحاكاةِ وتُحيلُ جُزئياتِ الصُّورَةِ مِن عالَمِ الصِّدقِ والحَقيقَةِ إلى عالَمِ الكَذِبِ والزَّيفِ:« فَإذا أَخبَر الإِنسانُ بما لم يُدرِكهُ أو حَدَّثَ بما لم يُشاهِده، وكان غَريبًا عِندَه، طَلبَ له مِثالاً مِن الحِسِّ، فإذا أُعطِيَ ذلك أنِسَ به وسَكن إِليه لإلفِه له.»([17]) من منطلَقِ أنّ الغريبَ في الواقعِ غَريبٌ في النَّفسِ، وغَريبٌ أيضًا في الصُّورَةِ المُحاكاتِيَةِ.([18])

الاستعـارة ومبدأ الإفادة/ التطهير:([19])

غَيرَ أنّ الرأيَ الغَالِبَ والموقفَ السّائدَ عند سائرِ النُقَّادِ والبلاغِيّينَ، أنهّم تَركوا قائِمةَ "الإِفادَةِ" مَفتوحَةً، فَشَمِلَت بذلك الإطارَ الداخِلي والخارجي لِلبِنيَةِ معًا. ويَبدو أنّ مُصطَلحَ "الإِفادَةِ" -في مَفهومِه الشَّاملِ - لَيس بَريئًا من الإرثِ اليوناني، فهو الآخر "أرسطيٌ" يَميلُ إلى "المُحاكاةِ"، وما اشتَرطته هذه الأخيرةُ على الأُدباءِ من "تَطهيرٍ للمُجتمعِ وتوجيهٍ للخُلُقِ العامِ". يقول "أرسطو" في هذا الجانبِ :« ولكنَّ أَعظمَ هذه الأَساليبِ حقًّا هو أُسلوبُ الاستعارَةِ، فإنّ هذا الأُسلوبَ وحدَه هو الذي يُمكِنُ أن يَستفيدَ المَرءُ مِن غَيرِه.»([20]) ولعل هذا ما ذَهب إليه جلُّ نقادِ وبلاغيِّي العربِ القُدامى، وهم يَسعون إلى تَثبيتِ مبدأِ الإفادةِ والتَّواصلِ المَنفعي بين الباثِّ والمتلقي في بِنيةِ الاستعارةِ. فقد كَرَّسوا المُحاكاةَ، وسَعوا جَاهدينَ إلى تَكريسِ القاعدَةِ وعَقلَنَةِ الإِحساسِ الشِّعري، تمامًا على غِرَارِ ما كان سائدًا عند اليونانِيّينَ، على رُغمِ البَونِ والاختِلافِ الكَبيرينِ بين شِعرٍ يَقتَربُ في طَبيعَتِه المَوضوعيَةِ إلى النَّثرِ، وشِعرٍ غِنائِيٍّ أَساسُه الوِجدانُ والانفِعالُ الذّاتي...

هذا عَنِ النُقَّادِ والبَلاغِيّينَ العَربِ وكَيفَ نَظروا إلى الاستِعارَةِ مِن مَنظورٍ جمَاعيٍّ يَنهلُ مَخزونَه المَعرفِيَ مِن حَضارَةِ اليُونانِ؛ بِكلِّ ما تَعنيهِ هذه الأَخيرةٌ مِن تَوقٍ إلى العَقلِ والمَنطقِ والقِياس...فَراحوا – وتحتَ مَدِّ هذا الفِكرِ - يَحكُمونَ حَركةَ الاستِعارَةِ مِن مَوقفِ أنهّا بِنيَةٌ تَشبيهيَةٌ ويُوجِّهونَها تَوجيهًا عَقليًا وجامِدًا لا تَتَعدَّى فيهِ وَظيفَتَها الإِفهامِيَةَ والتَواصُلِيَةَ، شَأنُها في ذلك شَأنُ أَيِّ بِنيَةٍ لُغويَةٍ، ورَبطوها بـ "الإِفادَةِ" فلا تكونُ – كذلك - أيُّ استِعارَةٍ إلاّ إذا أَفادَت شَيئًا ما.

الـمجاز/ وحركةٌ اللغة المحذورة:([21])

ونحنُ نَدخلُ آخِرَ قِسْمٍ مِن البَيانِ العربي، نُقِرُّ حَقيقَةً كان على النَّقدِ القديمِ أن يُقِرَّها دون جدلٍ ومِن قُرونٍ خَلَت، وهو يَبذُلُ جُهودًا مُثقَلةً بِالتَّعبِ والعَياءِ مِن أَجلِ حَدِّ الحَركةِ الجَموحِ لِلُّغةِ، وهي تُعارِكُ القُيودَ والحُدودَ التِي حاول عُلماءُ اللُّغةِ والبلاغةِ فَرضهَا بِشَكلٍ قَسريٍّ علىجَسَدِيتِها البريئةِ، المُطاوِعَةِ عفويًا لِكلِّ نُمُوٍّ وحَركَةٍ يَشهَدُها العالَمُ أو الذِّهنُ البَشرِي. هَذه الحَقيقَةُ اختَزنَتها اللغةُ الإبداعيَةُ في ثَناياها قُرونًا ذَواتِ العَددِ؛ حِفاظًا على دَيمومَتِها ووُجودِها الإبداعي، بَينما حاول العلماءُ أن يَتَناسَوها عَمدًا أو استِثقالاً، أَلاَ وَهِي ظاهرةُ "المجَازِ".

إنّ هذه الأخيرَةَ (أي ظاهرةَ المجاز) مَثَّلَت بِكُلِّ صِدقٍ طَابعَ اللغةِ المُتََغيِّرَ وحَركتَها الدائبَةَ في التحَرُّرِ والتَّحركِ والنُمُوِّ. والمَجازُ كان الظاهِرةَ البَيانِيةَ الوَحيدةَ التي خَرجَت عن كلِّ مُواضَعاتِ اللغَةِ، وعن كلِّ حَصرٍ تَقعيدِي فُرِضَ على النَّمَطينِ الأَوَّلَينِ، فـ:« مُنذ وَقتٍ طَويلٍ وعُلماءُ كُلٍّ مِن اللُّغةِ والبَلاغَةِ يحاوِلونَ إخضاعَ هذه التَغيُّراتِ المَعنَويةِ لِشَيءٍ مِن التَّنظيرِ والتَّقعيدِ، وكانت جُهودُهم - لِفَترَةٍ طَويلَةٍ مِن الزَّمَنِ - في تَصنيفِ أَلوانِ المجاز أو ما يُعرفُ بِأنماطِ انتِقال المَعنى.»([22]) وهذا كلُّه ناتِجٌ عَنِ الحَركةِ الحُرَّة والمَرِنَةِ التي كان يَنسابُ فيها "المجازُ" بَين المُواضَعاتِ اللُغَويةِ والقُيودِ التَّقعيديَةِ، مِمَّا دَفعَ بهم إلى مُحاوَلةِ رَصدِ حَركتِه وتَصنيفِ أَنماطِ انتِقالِها، دون أن يَفرِضُوا في ذلك أَنماطَ انتِقالٍ مُسبَقةٍ قد تَجُرُّ بهم إلى الخَيبَةِ والانكِسارِ، فاكتَفَوا بِالرَّصدِ البَعيدِ، وعَرَّفُوه بِاعتبارِ الخُروجِ والانزِياح اللغوي الذي أَحدَثَهُ المجازُ في بِنيَةِ اللغةِ المألوفةِ. وعلى هذا الأساسِ عرَّفَ "ابنُ الأثير"([23]) المجازَ بِقَولِه :« وأمّا المجازُ فهو ما أُريد بِه غَيرُ المَعنى المَوضوعِ له في أَصلِ اللغةِ. »([24])أما "عبد القاهر الجرجاني" - صَاحبُ نَظريَةِ النَظمِ - فَقد عَرِّفَه بِحُكمِ المُواضَعَةِ والخُروجِ عَنها أيضًا، ومِن مُنطَلقِ ما تَعارَفَ الناسُ عليه حَولَ قَضيةِ المجازِ وطَبيعَتِه الانتِقاليَةِ:« فَقد عَوَّلَ الناسُ في حَدِّه على حَديثِ النَّقلِ، وأنّ كلَّ لَفظٍ نُقِلَ عن مَوضوعِه فهو مجاز.»([25]) فَكِلاَ التَّعريفَينِ يَتَّفِقانِ حولَ فاعِليَةِ الحَركةِ أو الانتِقَالِ الدِلالي الذي يُحدِثُه المجازُ في بِنيَةِ الدِلالَةِ الأَصليَةِ؛ ذَاتِ الأَصلِ الوَضعي أو المُتَّفَقِ عليه.

المعيارية الإبداعية/ ومخلَّفاتُ الإرث اليوناني:

فَكلُّ إِبداعٍ شِعري - في ظِلِّ هَذهِ النَظرةِ الاتِّباعيَةِ لكل ما هو يونانيٌ - إلاَّ وعَليهِ أن يكونَ أَرضِيةً، تَرْتَعُ في جَنَبَاتِها وسُهولهِا الفَيحاءِ طَوابِيرُ القُيودِ النقدية والمُستَفَّةِ جِيلِيًا مِن الماضي إلى الرَّاهِنِ/الحَاضرِ الإِبداعي... فَإلى أَيِّ حَدٍّ - يا تُرى - سَارت فيهِ قُيودُ المِعياريَةِ مَع المَظانِ الشِّعريَةِ الجَديدةِ، والمُتأخِّرَةِ زمانيَا عَنِ النَّموذَجِ الإِبداعي السَّالفِ؟ أي كيفَ واجَهَت سُلطَةُ القاعدَةِ النَّماذِجَ الشِّعريَةَ الجديدَةَ مِن خِلالِ نَظرَتِها المُقدِّسَةِ لِلنَمُوذَجِ المَاضَوي؟... وكَيف تَحوَّلَ فيها نِظامُ البَيانِ العَربِي إلى نِظامٍ مِعيَارِي، يُكرِّرُ فيه أَنماطَ التلقي القَديمةَ على نمَاذِجَ شِعريَةٍ حَديثَةٍ ؟... وكيفَ كان مَوقِفُ "ابنِ رشيق" النَقدي مِن مِعياريَةِ الحُكمِ البَلاغِي... ؟؟

البيان ومعيارية الحكم البلاغي:

إنّ تَثبيتَ نِظامِ القاعدَةِ البلاغيةِ يَجعلُ مِن الأَحكامِ النَقديَةِ جاهِزَةً ولها وُجودٌ سابقٌ على النصوصِ المَقروءَةِ. فَالنصُّ الشِعري - ضِمنَ المِعيارِيَةِ البَلاغيَةِ - مَقروءٌ مُسبَقًا؛ ذلك أنّ المِعيَاريَةَ لا يَسَعُها أن تَمُرَّ إليه مُباشَرةً؛ إنّها مُحمَّلةٌ بِأحكامٍ وقَوالِبَ نُصوصٍ سابِقَةٍ. والنَصُّ الوَاقِعُ طَورَ القِراءَةِ المِعياريَةِ ما هو إلاّ مَحطَّةٌ قِرائيَةٌ جديدة،ٌ تنسابُ فيها بَعضُ أَثقالِ تِلكَ الحُمولَةِ النصِّيَةِ السابِقَةِ. فَالمِعيارِيَةُ ذَاتُ بُعدٍ شمُولِي يَكتَنِزُ في مَقروئيَتِه نمَاذِجَ وأَوصَافَ مِن نُصوصٍ خَلَت، ومِن أجلِ هذه العُمومِيَةِ في الحُكمِ:« وَجبَ في عِلمِ البَيانِ مِن قَبلِ عُمومِ نَظَرِه للخَطابَةِ والشِعرِ، إذا كان نَظَرُه في العبارَةِ البلاغيَةِ إِعطاءَ القَوانينِ العامَّةِ... إلاّ بَعد القولِ فيما يَعُمُّ مِنها أَكثَرَ مِن صِنفٍ وَاحدٍ.»([26]) فَتَحقيقُ المِعيارِيَةِ هُنا مَشروطٌ بِمَدى احتِوائِها لِنُصوصٍ عِدَّة مِن نَفسِ الجِنسِ؛ حتّى يَحصُلَ لها التَّعميمُ والشُّمولِيَةُ في الحُكمِ. إنّه لا يُمكِنُها أن تَخُطَّ نمَطًا إِبداعِيًا أو فِعلاً قِرائيًا، إلاّ مِن خِلالِ قُدرَتِها على اكتِنَازِ أَكبَرَ عَددٍ مِن النَّماذِجِ المُصادِقَةِ فِعليًا على أَبعادِ القاعدَةِ النَظريَةِ. فَالمِعيارُ وَجهٌ آخَر تُكَرِّسُ القاعدَةُ من خِلالِه وُجودَها الفِعلي، وتُبقِي لِلجَماعَةِ أو البُعدِ الجَماعِي تكريسَ الذَّوقِ المُشاعِ أو المُشتَرَكِ. إنّ المِعياريةَ - بهذا المفهومِ - قِراءةٌ تسبِقُ القِراءةَ الآنيةَ، وإبداعٌ ونموذَجُ إِبداعٍ يَسبِقُ لَحظَةَ الإِبداعِ الفِعليَةَ، فيغدو فيها هذا الأَخيرُ (أي الإبداعَ) تَخطِيطًا مُسبَقًا يَمنَحُه المُبدِعُ شَيئًا مِن قَابِليَةِ التَّكرارِ لَيسَ إلاّ، فَفِي المِعيارِيَةِ:« يَنبَغي للشاعرِ، سَواءٌ أكان المَوضوعُ الذي يَتَناوَلُه قَديمًا أم مُبتَدَعًا، أن يَبدأَ بِتَخطيطٍ عَامٍّ له ثم يُفصِّلُ قِطعَه ويَمُدُّ أَطرافَه.»([27])

معيـارية الإبداع:

إنهّا (أي المِعيارِيَةَ) حَركَةٌ لَولَبِيَّةٌ طَاغِيَةٌ تَقتَحِمُ الظواهرَ الشعريةَ والنقديةَ وتَنتَزِعُها مِن أُصولِها الذاتيةِ المُمتدَّةِ؛ لِتَحتَويهَا حَركَتُها الدَّائريَةُ مِن جَديدٍ، فَتُسَيِّرَها ذاتَ مَنحىً دَائرِيٍ مِحوَرُ حَركَتِها القاعدَةُ والمَاضي، كَما تُصَيِّرُ الإِبداعَ مِن تَعبيرٍ عَن الذَّاتِ إلى تَعبيرٍ عَن الجَماعَةِ، وعَن الغَيرِيَةِ كَكُلٍّ بما في ذلك "المِعيارُ"؛ باعتبارِه تَكريسًا للقاعدَةِ والجماعةِ:« فَالكاتِبُ كان عَليهِ أن "يُعيدَ" إبداعَ أَدبِه؛ إذ مِنَ الأَضمَنِ والأَوفَقِ له أن يَلجَأَ إلى النَّماذِجِ الكُبرَى لِيُحاكِيها، ومِن هُنا تُصبِحُ التَّصوراتُ البلاغيَةُ المُنبَثِقَةُ مِن مَصادرِها الأَصليَةِ، بِفَهمٍ واستِيعابٍ كامِلَينِ، أَشَدَّ سَطوَةً وأَكثَرَ وأَقوَى إِلزامًا للجَميعِ.»([28]) بِما في ذلك مُبدِعُ الأَدَبِ؛ باعتِبارِه طَرفًا آخَرَ - ومُهِمًّا أيضًا - يَعمَلُ على تَكريسِ مَاضَوِيَةِ الإِبداعِ الشِعري. إنَّه يَقومُ أَثناءَ كلِّ عَمَليَةِ إبداعٍ بِاستِحضَارٍ لا إِرادِيٍ لنَماذِجَ إِبداعِيَةٍ وقَوالبَ تَصويرِيَةٍ، يَستَحضِرُها مِن النِتاجِ السَّالِفِ الذي خَلَّفَهُ الشُّعراءُ القُدامى لمن تَخَلَّفَ عَن رَكبِهم مِن الشُّعراءِ. فَهي مِنحَةٌ مَنَحَها الأَباءُ الأَوَّلونَ حتّى يَتَسنَّى

للمُتَأخِّرينَ تَشكيلُ نَماذِجِهم الإِبداعيَةِ الحاضِرَةِ، ولا يكون ذلك إلاّ مِن خِلالِ احتِواءِ نُصوصِ السَّابِقَينَ، بِتَصَوُّراتِها الفَنِّيَةِ العامةِ وتَشَكُّلاتِها الأُسلوبِيَةِ والجَمالِيَةِ المُنبَثِقَةِ مِن واقِعِهم الزمني الخاص؛ قَصدَ تَعميمِ هذا الأخيرِ ومَنحِه نَوعًا مِن الاتِّساعِ والشُّمولِ والاستِمراريَةِ، وهنا بالذّاتِ يتحقق هَدفُ المعيارِ المَنشُودُ، حيث:« يَجبُ على الشَّاعِر أن يَلزَمَ في تَخَيُّلاتِه ومُحاكِياتِه الأَشياءَ التي جَرَتِ العَادةُ بِاستِعمَالِها في التَّشبيهِ، وألاّ يَتَعدّى في ذلك طَريقَةَ الشِعرِ.»([29]) التي دَرجَ الشُّعراءُ الأَوّلونَ على تَكريسِها.

ولعل أهمَّ ما نَخلُصُ إليه في خاتمَةِ هذا العنصرِ من البحث، هم أنّ البلاغةَ والنَّقدَ العَربِيَّينِ - وفي ظِلِّ تَأثُّرِهما المُطلَقِ بِالنَّزعَةِ الفَلسَفيَّةِ الأَرسطيةِ، وما حمَلَتهُ هذه الأَخيرةُ إلى الثَّقافَةِ العربيَةِ مِن تمَجيدِ للعَقلِ والقاعدةِ والواقعِ المُشَيَّئِ - قد وَجَّهَا الخِطابَ الشِّعري تَوجيهًا أُحادِيًا وقَسرِيًا إلى حيث يَرتَعُ العَقلُ والقاعدَةُ والواقِعُ، فتَجَمَّدَت بِذلكَ صُوَرُه البَيانيَةُ وتَكَلَّسَت خَيالاتُه ضِمنَ أَنظِمَةٍ ومَعاييرَ قَولِيَةٍ؛ تُمَيِّزُها المحدودِيَةُ والثَّباتُ الإِبداعي، وشمُولِيَةُ الإِدراكِ القِرائي وأُحاديَتُه، وكأَنّ:« تَعَدُّدَ الاهتماماتِ انصَهرَ في وِحدَةِ الفِكرِ النَّقدي الذي صاغَ رؤيتَه للعَمليَةِ البَيانيَةِ مِن مَنظورٍ مُوحَّدٍ، فَأثَّرَ تأثيرًا مُباشرًا على شروطِ إنتاجِ الخطابِ.»([30]) أي أنّه، وعلى رُغمِ مِن تَعدُّدِ المَشارِبِ الفِكريَةِ والمَناهلِ الفَلسَفيَّةِ - التي أَثْرَت مَناحِي الحَياةِ الذِّهنيَةَ والنَّفسيَةَ وأَسهَمَت بِقسطٍ كَبيرٍ على إِضرامِ ذلك الجَدلِ الفِكري والعَقائدي؛ الذي سادَ الأُمَّةَ في أَزهَى عصورِها وأَرقَى مَراحلِها الحضاريَةِ - فَعلى رُغمِ كلِّ ذلك إلاّ أنّ الدَّرسَ البَلاغي والنقدي كان بِمَثابَةِ البَوتَقَةِ التي انصَهَرت فيها تلك الاختلافاتُ، فعَمِلَت على بَثِّ وِحدَةِ الرَّأيِ مِن مَنظورٍ مُوحَّدٍ يَسودُه التَّقعيدُ والتَّقنِينُ...

هل إلى هذا الحَدِّ اكتَفَى فيه مَسارُ "ابنِ رشيق" القِرائي...؟ أم أنّ لَه رُؤىً ومَواقِفَ نَقديَةً كانت بَين الحِينِ والحِينِ تَنقُلُه مِن الاتّباعِ إلى التَّفَرُّدِ، ومِن أُحاديَةِ الرَّأي القَاعِدي إلى مَشروعِيَةِ الرَّأيِ المُتَعَدِّدِ... ؟

أي: مِن الرَّأي ( الثَّابتِ؛ الذي تُكَرِّسُه القاعدَةُ ) إلى الرَّأيِ الآخَرِ ( المُتَغَيِّرِ؛ الذي تَعمَلُ الذّاتُ "الرَّشيقيَةُ" على تَأكيدِه )...؟

إن إبداءَ الرأي واختيارَ الموقفِ النقدي المتفرِّدِ، لا يَخلو بأيَّةِ حالٍ من الأحوالِ من جنوحٍ إلى الذاتيةِ أو توظيفٍ للأهواءِ والميولِ النفسيةِ؛ لذا كان لابُدَّلـ"ابنِ رشيق" أن يرتكزَ في ما يَذهب إليه من مواقفَ وأحكامٍ على أسسٍ وقوانينَ تَضمن لحركةِ الاختلافِ والتعدُّدِ مصداقيةَ الوجودِ واستمراريةَ إبداءِ الرأي المُخالِفِ. فالخروجُ برأيٍ عن رأي آخرَ، لا يعني بالضرورةِ الخروجَ عن الأُطُرِ والمفاهيمِ العامةِ التي سَنَّتها الجماعةُ أو الأغلبيةُ من المجتمعِ كقواعدَ نحتكِمُ إليها أثناءَ الاختلافِ والتَّبايُنِ في المواقفِ والرؤى، دون أن يعني ذلك الانعتاقَ الكلِّي والإباحي عن هذه الأخيرةِ؛ تَنظيما وتَوجيها لفاعليةِ الاختلاف...

والحسُّ الجمالي والاعتبارُ الذاتي غيرُ كافٍ للحُكمِ بالإيجابِ أو السَّلبِ على الظاهرةِ الإبداعية، لذا كان وجوبُ تحكيمِ هذا الإحساسِ الجمالي والانفعالِ الذاتي إلى القاعدةِ النقديةِ البلاغيةِ أَمرا ضروريا ولا مفرَّ منه؛ سعيا إلى إحداثِ نوعٍ من التَّمازجِ الثنائي بين ما هو موضوعي صِرف وذاتيٌ خالصٌ. فالناقدُ لا يمكنه الخلوصُ مباشرةً إلى الظاهرةِ الإبداعيةِ إلا من خلالِ تَخَلُّلِ القاعدةِ النقديةِ والمرورِ عبرَها إلى النصِّ المقروء؛ ذلك أن:« القواعدَ لا تلغي الذوقَ، والذوقَ لا يستطيع أن يعيشَ بمعزلٍ عنها، وعند تَطبيقِ القواعدِ فإن عملَ الذوقِ يَظهر في كيفيةِ استخدامِها، وعند استخدامِ الذوقِ فإن الناقدَ يخلق قواعدَ جديدةً تُضاف إلى الرَّصيدِ النقدي.»([31])

فالذوقُ حركةٌ ذاتيةٌ وفاعليةٌ نقديةٌ متحرِّرةٌ تَفتَقِر إلى التَّوازنِ والانضباطِ والتَّعاملِ المحكَمِ والمنظَّمِ مع الظاهرةِ الإبداعيةِ. دون أن يعني ذلك أنها دعوةٌ مطلقةٌ لتحكيمِ القاعدةِ والمعيارِ في كلِّ دَبيبٍ أو حركةٍ تَشقُّها الذاتُ بمفردِها؛ ذلك:«... أن محاصرةَ الإبداعِ بهذه المحاذيرِ فيه حَجرٌ على القدرةِ الإبداعيةِ، لكن في الوقت نفسِه لا بد أن تكون الحركةُ الاختياريةُ حركةً مَحسُوبةً، على معنى أنه إذا لم يكن من المُمكنِ قبولُ المواصفاتِ البلاغيةِ جملةً، فليس من المَقبولِ إهمالُها جملةً أيضا. »([32])

وسَيرُ "ابنِ رشيق" النقدي داخلَ القاعدةِ البلاغيةِ -البيانية كان ضِمن هذا المَسلكِ الاختياري، الذي رَفض فيه الانصياعَ المطلقَ للقاعدةِ، كما رَفض الخروجَ غيرَ المُلتزِمِ، الذي من شأنِه أن يُسيءَ إلى القاعدةِ وإلى التذوقِ الجمالي المعتَدِلِ المحكومِ بأُطرٍ فَنية وجماليةٍ؛ التي من شأنِها أن تردَعَ الذاتيةَ المفرَطةَ في التحررِ وتُبقي على الموضوعيةِ المعتدِلةِ، حيث لا غلوٌ ولا مغالاةٌ في جانبَيها الاتباعي والتَّفردي معا، وإن كان:« اللسانُ البليغ والشعرُ الجيدُ لا يجتمعانِ إلا قليلا، وأَحسنُ من ذلك أن تجتمعَ بلاغةُ العلمِ وبلاغةُ الشعرِ.»([33]) وهنا مَكمَنُ التفاعلِ الجَدلِي ونموذَجُ التذوقِ السَّليمِ والقراءةِ الفنيةِ السَّاميةِ والمتفرِّدةِ في الآن ذاتِه؛ ذلك أن الموقفَ الاختياري المعتدلَ هو بؤرةُ الانبثاقِ الجمالي للقراءةِ البلاغيةِ -البيانية التي بإمكانها أن تجمعَ بين الساكنِ والمتحركِ وبين الثابتِ والمُتغيِّرِ.

ولعلَّهذا الموقفَ الاختياري هو ذاتُه الوَسطيَّةُ أو الاعتداليَةُ التي تمكَّنَ "ابنُ رشيق" من سلاكِها في تَلقِّيه البياني للشعرِ العربي القديم، حيث كان:« حرصُ صاحبِ العمدةِ على الاجتهادِ في التَّشبيهِ والتَّصَنُّعِ في إيرادِه لا يجعله يتجاوز حدَّ الاعتدالِ، فيسقُطَ في الغلوِّ والمبالغةِ ويخرجَ عن المعقولِ، بل إنه يَجعل له حدودا يَقفُ عندها ولا يتجاوزُها، وأوَّلُها أن لا يخرجَ به صاحبُه عن نطاقِ المحسوساتِ ويصلَ به إلى التَّجريدِ فيَصعُب فهمُه أو يستحيل .»([34]) إن "بنَ رشيق" قد سعى جاهدا إلى تحقيقِ نوعٍ من التجديدِ في بنيةِ التشبيهِ، وإلى تحقيقِ نوعٍ من التَّحررِ والانعتاقِ في قراءةِ الظاهرةِ البيانية، دون أن يعني ذلك طَمسَ ودَحضَ أبعادِ التَّشبيهِ

الواقعيةِ إلى الدرجةِ التي تَصير فيها الصورةُ التشبيهية ذاتَ مَنحى تجريديٍ يَصعُب فهمُه أو يَستحيلُ استيعابُه...

إنه (أي ابنَ رشيق) يَضعُ التشبيهَ في منطقةِ وَسطٍ أشبهَ بالبَرزَخيةِ، حيث يكون مجالُ وجودِه منطقةَ تَوتُّرٍ وتفاعلٍ في الآن ذاتِه بين المعقولِ واللامعقول، والواقعِ وما وراء الواقعِ، وبين القراءةِ المُقيَّدَةِ والقراءةِ المتحرِّرةِ... إن التَّشبيهَ نوعٌ من الالتزامِ بين المحدودِ العقلي واللامحدودِ الذَّاتِي، وهكذا هي الاستعارةُ أيضا:« يمكننا القولُ إن الشَّططَ في الخيالِ الذي لا يُبنَى على أرضِ الواقعِ ولا يَسير في ضوءِ التجربةِ الشعوريةِ محكومٌ عليه بالإخفاقِ، كما أن قَتلَ الخيالِ أو سجنَه في دوائرِ المنطقِ العقلي مرفوضٌ.»([35]) ولا يُعتَدُّ به في ميدانِ الأدب؛ ذلك أن الخيالَ وسيلةٌ فعَّالةٌ وآليةٌ إبداعيةٌ هامَّةٌ يَلجأُ إليها المبدِعُ لخلقِ عوالمَ وآفاقٍ جديدة تُلائم موقفَه الوجودي للأشياءِ، وتَتماشى ونظرتَه الفكريةَ وإحساساتِه الوجدانيةَ اتجاهَ هذا الوجودِ.

غير أن الجموحَ في الخيالِ والإغراقَ فيه بَعيدا عن أرضيةِ الواقعِ ومعالمِه المُشيَّأة ومُدركاتِه الحسِّيةِ، يَخلق في نظرِ"ابنِ رشيق" نَوعا من المُفارَقةِ الشعوريةِ بين ما هو كائنٌ في الواقعِ وبين ما ينبغي أن يكونَ من وجهةِ نظرِ المبدعِ. وإذا كان الأمرُ كذلك من جهةِ الخيالِ المُفرَطِ في السديميةِ والتَّجريدِ الوهمي، فإن "ابنَ رشيق" رأى أن الجنوحَ المفرَطَ إلى العقلِ ومَنطَقةِ الأحاسيسِ وتَشْيِّيءِ الصورِ الأدبية وتَضييقِ مجالِها الإيحائي يُعدُّ قَتلا للأدبيةِ، ومن أجلِ ذلك كلِّه كان:« لا يجب للشاعرِ أن يُبعدَ الاستعارةَ جدا حتى يُنافِرَ ولا أن يُعرِّيها كثيرا حتى يحققَ، ولكن خيرُ الأمورِ أوسطُها...»([36])

هكذا هو منهجُ "ابنِ رشيق" النقدي، يَسعى إلى الوسطيةِ والاعتدالِ في كلِّ شيءٍ، في الصورةِ البيانيةِ حين تَتشكَّلُ وفي عمليةِ التلقِّي حين تَستَنطقُ هذا التَّشكيلَ، وهكذا كانت:«... حالةُ البيانِ... هي نتاجُ العقلِ حين يَنزع نحو الوحدةِ والتنظيمِ، وهي نتاجُ الوجدانِ حين يَجعل لهذه الوحدةِ لونًا وذوقا وجمالا. »([37]) يؤهِّلُ القاعدةَ البيانيةَ -وفقَ ما رهَّصَ لها "ابنُ رشيق" - إلى حالةٍ من التَّوازنِ بين ما تُبطِنُه من روحٍ جمالية وإبداعيةٍ فيها، وبين ما تُصرِّح به وتُنبِئُ عنه عَلنًا من قيودٍ وقوانينَ قسريةٍ تُفرَض على الإبداعِ والتلقي معا. فهي بذلك فيضٌ وجداني في قوالبَ وأشكالٍ عقليةٍ. إنها الجانبُ المَرئيُ الذي يمكن جَسُّه ولَمسُه عن كَثَبٍ حين تكون قوالبَ مُمَنطَقةً، كما أنها ذلك الجانبُ اللاّمرئي، حين تَستحيلُ روحًا وجدانيةً تتملَّصُ من قَبضةِ المَنطقِ وقيودِه المتكلِّسةِ إلى روحِ الإبداع وعالَمِه الذَّوقي الفَسيحِ.

إنها عالَمٌ يحمل التَّناقضَ والجدلَ في جوفِه لا يُسبَر غورُه إلا بقراءةٍ نَقيضةٍ هي الأخرى؛ تجمع بين القريحةِ والخاطرِ في تَدفُّقِهما المُنهَمِرِ وبين الرِّوايةِ والخبرِ في تَوجيهِهما المُنتظَمِ، يقول "ابنُ رشيق" مُصرِّحا بذلك:« وعَوَّلتُ في أكثرِه على قريحةِ نفسي ونَتيجةِ خاطري، خوفَ التكرارِ ورجاءَ الاختصارِ، إلا ما تعلَّقَ بالخبرِ وضَبطتهُ الروايةُ، فإنه لا سبيلَ إلى تَغييرِ شيءٍ من لفظِه ولا معناه ليؤتى الأمرُ على وجهِه.»([38]) فكان منهجُه النقدي بذلك وسطا بين الرأي الذاتي المُتحررِ وبين التأصيل القاعدي الملتزِمِ.

لقد شكَّل "ابنُ رشيق" بحقٍّ مَنهجا نَقديًا أكثرَ ما مَيَّزَهُ، ذلك الاعتدالُ المحكَمُ - وإن بَدا في وَهلتِه الأولى مُتناقضا - بين ما يجب فيه الاتباعُ للموروثِ النقدي وبين ما يجب التفرُّدُ فيه، بعينٍ ناقدةٍ وقَلبِ ذَوَّاقٍ يميِّزانِ غثَّ وسمينَ كلِّ من الاتجاهينِ. فكان الموروثُ وفقَ نظرتِه الخاصةِ كَمًّا مَعرفِيًا ورَصيدا حضاريا لا بُدَّ من العودةِ إليه والنَّهلِ من مَعينِه الثَّـرِّ، كما مثَّلَ الحاضرُ الإبداعي والنقدي بالنسبةِ إليه مجالا خِصبًا تَستثمِرُ فيه الذَّاتُ مَخزونَها المعرفي بعد أن مَنحَتهُ وجودًا ذاتِيًا ومتَفرِّدا:« نعم لقد استَفاد ابنُ رشيق - كأيِّ ناقد كان - مما قاله النقادُ الأوائلُ... غير أننا لا نستطيع أن نظلمَ ابنَ رشيق ونَدَّعي أنه كرَّرَ أقوالَهم وآراءَهم ولم يأتِ بشيءٍ جديد... فلقد كان لِزاما عليه أن يَستعرِضَ أقوالَ من سبقه من النقادِ كما يَقتضي المنهجُ العلمي، ثم يَختِمُ برأيه هو.»([39]) إنه يؤصِّلُ الموقفَ ثم يُبدي الرأيَ، ويعود إلى الوراءِ النقدي من أجلِ خطوةٍ نقدية إلى الأمامِ؛ لذا يمكن أن نقولَ أن سُكونَه كان حركةً، وتوقُّفَه كان تَأمُّلا، وعودتَه إلى الوراءِ كانت انطلاقةً مُلتَزِمةً إلى الأمامِ... إنه بَقدرِ ما يَبتعِدُ فيه عن القَيدِ والجمودِ المُطلقَينِ بقدرِ ما يَرفض التَّحررَ والحركةَ المُمَيَّعتَينِ بالإباحيةِ المطلقة...

ومن هذه المُزاوَجةِ النقديةِ والقائمةِ على التَّفاعُلِ المُوجَبِ، تَتَبدَّى لنا نموذجيةُ القراءةِ البيانيةِ عند "ابنِ رشيق" في تلك الوَسطيَّةِ الغريبةِ والاعتدالِ المُدهِشِ والتَّوازنِ المُحكَمِ بين ثنائيةِ الاتباعِ والتفردِ. فلا هو مُتَّبِعٌ اتباعا مُطلقا لما أَقرَّه البلاغيون وسَنَّه النقادُ السابقون، ولا هو متفردٌ تَفرُّدًا مطلقا مفادُه في ذلك الثورةُ والتَّمردُ على الموروثِ ليس إلا،فيَدفعَ به إلى الإباحيةِ والعبثِ. وإنما تَلقِّيه النقدي للظاهرةِ البيانيةِ كان وَسطا بين التَّقعيدِ البلاغي والتأمُّلِ الذاتي، تُوجِّهُه في ذلك الضرورةُ النقديةُ وطبيعةُ المادةِ المدروسةِ وطريقةُ النقودِ السَّابقةِ، ويحكُمُ كلَّ ذلك السياقُ الموضوعي والظرفُ الحضاري العامُّ الذي ينتمي إليه الناقدُ (ابنُ رشيق ).

وباختصارٍ، إن تَلقِّيه البياني كان يَسير وفقَ سياقٍ نَقدي يُجيز له التفردَ حينا والاتباعَ حينا آخرَ؛ حِفاظا على النصِّ المنقودِ وفَتحًا للتفردِ الملتَزِمِ، ومن هنا تَأسَّست نموذجيةُ التلقِّي عند "ابنِ رشيق" وجماليتُها. ناهيك عن تلك المحاوراتِ المَرنةِ والوديعةِ بينَه وبين النصوصِ الشعرية والتي رافَقت مسارَه النَّقدي من الاتباعِ إلى التفردِ، فكان بحقٍّ نقدًا بيانيا صادرًا من ذاتٍ تتذوَّقُ الصورةَ الشعريةَ وتُعايش الجمالَ الذي فيها، إلى دَرجةِ الاندماجِ في جَسديتِها والتَّفاعلِ مع عوالمِها... فكان بذلك نقدًا نموذجيًا وفريدًا من نوعِه.



الهوامش والإحالات:

[1]- د.عبد الحميد يونس: الأسس الفنية للنقد الأدبي، دار المعرفة، القاهرة، مصر، الطبعة: الثانية، ( 1966م ). ص: 55.


[3]- وُلدَ أبو النَّصر محمد ابنُ محمد ابن طرخان ابن أوزلغ في مدينة فاراب في إقليم خُراسان التركي...أكبَّ على الدَّرسِ في بَلدَتِه وكان يُجيدُ الفارسيةَ والتُّركيةَ والكُرديةَ، وأَتقَنَ العربيةَ في بغداد، وتتلمذ على أبي بشر متَّى ( المتوفى عام 328ه)، ودَرس عنه المنطقَ...فكان أكبرَ الفلاسفةِ على الإطلاق... وأَخذَ عنه ابنُ سينا وابنُ رشد وغيرُهما من فلاسفَةِ العرب. مؤلفاته:"مابعد الطبيعة." " الجمع بين رأي الحكمين " و" قوانين في صناعة الشعراء"... تُوفي الفارابي سنة 339 ه. ينظر: ( ابن خلكان: وَفيات الأعيان، تحقيق د. إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، 1972م، 2/100 ).

[4]- أبو نصر الفارابي: رسالة في قوانين صناعة الشعر، ضمن كتاب فن الشعر لأرسطو تحقيق عبد الرحمان بدوي، النهضة المصرية، القاهرة، مصر، ( 1953م ). ص: 149.

[5]- أرسطو طاليس: فن الشعر، تحقيق شكر عياد، دار الكتاب العربي للطباعة والنشر، القاهرة، مصر، ( 1967م). ص: 150.

[6]- د. محمد عبد المطلب: جدلية الإفراد والتركيب في النقد العربي القديم، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر - لونجمان - القاهرة،الطبعة الأولى، 1995م، ص:18.

[7]- قَاسَ الشَّيءَ يَقيسُه قَيسًا وقِياسًا، واقتاسَهُ وقَيَّسَهُ: إذا قَدِرَ على مِثالِه، وتَقايَسَ القَومُ: ذَكروا مآرِبَهم، وقَايسَهُم إِليه: قَايَسَهُم بِه، وقَايَسَهُ إلى كذا: سابَقَهُ. [ ابن منظور: لسان العرب، لسان العرب، دار صادر، بيروت، لبنان، د.ت. ( مادة: قيس)].

[8]- مَثَّلَ هذا الاتَّجاهَ: "حازم القرطاجي" و"ابن البناء المراكشي" و" السجلماني" وغيرُهم مِمَّن نَهَل مِن الفَلسفَةِ مَعارِفَه .

[9]- حازم القرطاجي: منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق: محمد الحبيب بن الخوجة، دار الغرب الإسلامي، بيروت، لبنان، الطبعة: الثالثة، ( 1986م ). ص: 67.

[10]- محمد كراكبي: مفهوم الخطاب الشعري في التراث النقدي العربي القديم، مجلة التواصل، تصدرها جامعة عنابة، العدد الرابع، ( 1999م ). ص: 24.

[11]- الاختِراعُ مِن اختَرعَ الشَّيءَ أي ارتجَلَهُ، والخَرَعُ بِالتَّحريكِ والخَراعَةُ: الرَّخاوَةُ في الشَّيءِ، ومِنه قِيلَ لِهذه الشَّجرَةِ الخِروَع لِرَخاوَتِه، وقِيلَ الخِروَعُ: كلَّ نَباتٍ قَصيفٍ رَيَّانٍ مِن شَجرٍ أو عُشبٍ، وكلُّ ضَعيفٍ: رَخوٌ وخِرعٌ وخَريعٌ. [ اللسان ( مادة: خرع )].

[12]- ابن البناء المراكشي، أبو العباس أحمد ابن محمد ابن عثمان: الروض المريغ في صناعة البديع، تحقيق رضوان بن شقرون، دار النشر المغربية، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى، 1985م. ص: 103- 104.

[13]- حُسنُ البَيانِ هو المَنطِقُ الفَصيحُ المُعرِبُ عَمَّا في الضَّميرِ، وإنَّما سُمِّي هذا النَّوعُ بِحَسنِ البَيانِ لأنّه عِبارَةٌ عن الإِفصاحِ عمَّا في النَّفسِ بِأَلفاظٍ سَهلَةٍ بَليغَةٍ وبَعيدَةٍ عن اللَّبسِ مِن غَيرِ حَشوٍ مُستَغنى عَنه يكاد يَستَرَ وَجهَ حُسنِ البَيانِ وبَغًطِّي وَاضِحَ البَيانِ. ينظر:( العلوي، يحي ابن حمزة: الطراز المتضمن لأسرار البلاغة و علوم حقائق الإعجاز، مطبعة المقتطف، القاهرة، مصر، 1914م. 3/ 99).

[14]- د. تامر سلوم: نظرية اللغة والجمال في النقد الأدبي، دار الحوار للنشر والتوزيع سوريا، الطبعة الأولى، 1983م. ص: 206 -207.

[15]- البَنْيُ: نَقيضُ الَهدمِ، وبَناهُ بِنيَةً وبِنايَةً. والبِناءُ: المَبْنِيُ، والجمعُ أبنيةُ. والبُِنيةُ - بِكسرِ البَاء وضَمِّها – ما بنيتُه: وهو البُِـنى – بكسـرِ الباءِ وضمِّها - . والبِنيَةُ: الهَيئَةُ التي بُنِيَ عليها. [ اللسان (مادة: بني)].

[16]- البَيانُ ما يَبِينُ به الشَيءُ مِن الدلالَةِ وغَيرِها. وبَانَ الشَّيءُ: اتَّضحَ فَهو بَيِّنٌ، واستَبانَ الشَّيءُ: ظَهَر. والبَيانُ: الفَصاحَةُ والَّلسَنُ. كَلامٌ بَيِّنٌ: فَصيحٌ. والبَيانُ: الإفصاحُ مع ذكاءٍ. والبَيِّنُ من الرجالِ: الفصيحُ والسَّمحُ الِّلسانِ. وفُلانٌ أَبيَنُ مِن فَلانٍ أي أَفصَحُ منه وأضَحُ كلاما. والبَيانُ: إِظهارُ المَقصودِ بِأبلَغِ لَفظٍ وهو من حُسنِ الفَهمِ وذَكاءِ القَلبِ مع اللّسَن، وأصلُه الكَشفُ والظهورُ. [ اللسان (مادة: بين)].

[17]- ابن رشد: تلخيص الخطابة، تحقيق محمد سليم سالم، المجلس الأعلى للشؤون الإسلامية، القاهرة، مصر، 1967م. ص: 538.

[18]- وعلى هذا الأساسِ قَرن "ابنُ رشد" الإدراكَ الحِسِّي بالتَّصديقِ وجَعله أساسَ الفضيلةِ، فـ:« قد يَدلُّ على أن الفضيلةَ لها تأثيرٌ في التَّصديقِ أن الصالحينَ الفاضلينَ يَصدقون سربعا دون قولٍ يَتكلَّفونه في الشيءِ وإنما يكون ذلك في الأمورِ الظاهرةِ للحسِّ التي يَزعمون أنهم أَحسُّوها... فأما إخبارُهم عن الأمورِ الخفيةِعند الحِسِّ... فليس يَصدقون في الأشياءِ التي يَدعونها في أمثالِ هذه الأشياءِ دون أن يَستعملوا في تَثبيتِ ذلك الشيءِ.» ينظر: (بن رشد: المصدرُ نفسه. ص:31 ).

[19]- الاستِعارَةُ مَأخوذَةٌ مِن العَارِيَةِ أَي نَقلَ الشَّيءِ مِن شَخصٍ إلى آخَرٍ، تُصبحُ تلِك العارِيَةُ مِن خَصائصِ المُعارِ إليه. والعَارِيَةُ والعارَةُ مَا تَداوَلَهُ بَينَهم. وقد أَعارَهُ الشَّيءَ وأَعارَه مِنه وعاوَرَهُ إِيَّاه، والمُعاوَرَةُ والتَّعاوُرُ: شِبهُ المُداوَلَةِ، والتَّداولُ يكون بين اثنين. وتَعوَّرَ واستَعار: طَلبَ العاريةَ.واستَعارَ الشَّيءَ واستَعارَه مِنه: طَلبَ مِنه أن يُعيرَه إيَّاه. ينظر: ( المدني، علي صدر الدين بن معصوم: أنوار الربيع في أنواع البديع، تحقيق شاكر هادي شاكر، النجف الأشرف، العراق، 1968م، 1/ 228 ).

[20]- أرسطو طاليس: فن الشعر، تحقيق شكري محمد عياد. ص: 128.

[21]- جُزتُ الطَريقَ، وجَاز المَوضِعَ جَوازًا، وجَازَ بِه وجَاوَزَهُ، وأَجازه غَيرُه، وجَازَه: سَارَ فيه وسَلكَهُ، وجاوَزتُ المَوضِعَ جَوازاً: بمعنى جُزتُه . والمجازُ والمُجاوَزةُ: الموضع." ينظر: [ اللسان ( مادة: جَوَزَ)].

والمَجاز مَفْعِل: مِن جاز الشَّيءَ إذا تعدَّاه، وإذا عَدَل باللفظ ِعمَّا يُوجِبُه أصلُ اللغةِ وُصِف بأنَّه مجاز؛ على مَعنى أنّهم جازُوا به مَوضِعَه الأَصلي أو جاز هو مكانَه الذي وُضِع فيه أوَّلا. ينظر: ( عبد القاهر الجرجاني: أسرار البلاغة، تحقيق الشيخ محمد رشيد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، ( 1988م ). ص:342 ). وينظر أيضا: ( الرازي، عز الدين محمد ابن عمر: نهاية الإيجاز في دراية الإعجاز، مطبعة الآداب والمؤيد، القاهرة، مصر. 1317ه. ص: 36).

[22]- د. عبد الواحد حسن الشيخ: العلاقات الدلالية والتراث البلاغي العربي، دراسة تطبيقية، مكتبة الإشعاع للطباعةِ والنشر والتوزيع، مصر، الطبعة الأولى، 1999م. ص: 28.

[23]- هو أبو الفتح نصر الله ضياء الدين بن أبي الكرم، محمد بن محمد بن عبد الكريم بن عبد الواحد الشيباني؛ المعروف بابن الأثير، الجزري، الموصلي. ولد يوم الخميس، العشرين من شعبان، عام ثمان وخمسين وخمسمائة؛ بجزيرة ابن عمر، بالقرب من نهر دجلة. ثم انتقل مع والدِه إلى الموصل، وبها اشتغل بحفظِ القرآن الكريم وتَحصيلِ العلوم. وكان آثرَ الناسِ عند الملك أبي المظفر صلاح الدين، ثم انتهى بخدمةِ ولدِه نور الدين؛ وهو يومئذ شابٌ لم يَكمل العقدُ الثالثُ من عمرِه، فاستَوزره الملكُ الأفضل، وحَسنت حالتُه عنده. وبعدها اتَّصل بخدمةِ الملك الظاهر غازي صاحبِ حلب. وقد كان ضياء الدين سَيِّئَ السيرةِ في وزارتِه مع رجالِ الدولةِ. من مؤلفاتِه: "المثل السائر"، "الوشي المرقوم"، "المعاني المخترعة"، "ديوان الترسل"، "الجامع الكبير". ينظر: ( ابن خلكان: وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان، تحقيق الدكتور إحسان عباس، دار الثقافة، بيروت، لبنان، ( 1972م ). 3/ 65 – 66 ).

[24]- ابن الأثير:المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية للطباعة والنشر، بيروت، لبنان، ( 1990م ).. 1/58.

[25]- الإمام عبد القاهر الجرجاني: دلائل الإعجاز، تحقيق الشيخ محمد رضا، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، دت. ص: 53.

[26]- السجلماسي: المنزع البديع في تجنيس أساليب البديع، تحقيق علال الغازي، مكتبة المعارف، الرباط، المغرب، الطبعة الأولى، ( 1980 ).. ص: 218-219.

[27]- أرسطو طاليس: فن الشعر، ترجمة وتحقيق شكري محمد عياد. ص: 98-99.

[28]- د. صلاح فضل: علم الأسلوب، مبادئه وإجراءاته، دار الشروق، القاهرة، مصر، الطبعة: الأولى، 1998م. ص: 174.

[29]- ابن رشد، أبو الوليد: تلخيص كتاب أرسطو طاليس في الشعر، ضمن كتاب فن الشعر، تحقيق عبد الرحمان بدوي، النهضة المصرية، القاهرة، مصر، 1953م، ص: 222.

[30]- د.محمد المبارك: استقبال النص عند العرب، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، المركز الرئيسي، بيروت، لبنان، الطبعة: الأولى، 1999م. ص: 211.

[31]-د.مصطفى أبو كريشة: أصول النقد الأدبي، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر -لونجمان، بيروت، لبنان، ( 1996م ). ص: 71-72.

[32]- د.محمد عبد المطلب: البلاغة العربية، قراءة أخرى، مكتبة لبنان ناشرون، الشركة المصرية العالمية للنشر -لونجمان، بيروت، لبنان، الطبعة الأولى، ( 1997م ). ص: 75.

[33]- النهشلي عبد الكريم: اختيار من كتاب الممتع في علم الشعر وعمله، تقديم وتحقيق الدكتور منجي الكعبي، الدار العربية للكتاب، ليبيا - تونس، ( 1978م ). ص: 171-172.

[34]- محمد عبد العظيم: في ماهية النص الشعري، إطلالة أسلوبية من نافذة التراث النقدي، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان، ( 1994م ). ص: 92.

[35]- د.عدنان حسين قاسم: التصوير الشعري، رؤية نقدية لبلاغتنا العربية، الدار العربية للنشر والتوزيع، مدينة نصر، مصر، ( 2000م ). ص:147.

[36]- ابن رشيق: العمدة في محاسن الشعر وآدابه، تحقيق محمد محي الدين عبد الحميد، دار الجيل للنشر والتوزيع والطباعة، بيروت، لبنان، الطبعة الخامسة، ( 1981م ). 1/269-270.

[37]- د.محمد مبارك: استقبال النص عند العرب. ص: 13.

[38]- ابن رشيق: المصدر السابق. 1/17.

[39]- د.بشير خلدون: الحركة النقدية على أيام بن رشيق المسيلي، الشكة الوطنية للنشر والتوزيع، الجزائر، ( 1981م ). ص:136.



- د. بلقاسم خروبي
جامعة ورقلة ( الجزائر )


* نقلا عن مجلة جامعة ورقلة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى