صلاح عبد السيد - طائر الحلم

وهكذا وقع الولد في هوي المكان‏.‏ وهكذا جاء الولد مع زوج أخته الكبيرة فاطمة ـ وهو طفل دون العاشرة ـ الي ذلك المصيف‏.‏

وهكذا دار به ـ زوج أخته الكبيرة فاطمة ـ في شوارعه المستقيمة ـ أني نظرت رأيت الشوارع مستقيمة ـ وبين عششه البوصية وهكذا عرج به ـ زوج أخته الكبيرة فاطمة ـ الي اللسان الحجري: ملتقي البحرين ـ بينهما برزخ لا يبغيان.
والموج الثائر يضرب اللسان الحجري.. فيرشه رذاذ البحرين: عذبه ومالحه.
يغسل جسده وروحه.. فيصطك جسده الطفولي الصغير..
يموج..
وغيمة المسك تضوع في المكان.
والشمس رغيفه البيتي.. الوردي.. الكبير.. معلق أمامه.. ساخنا يفوح.
وطيور الجنة البيضاء ولها مناقير حمراء ترف فوق رأسه..
تتجمع..
تتفرق..
تهبط..
تصعد..
وتعود وتتجمع..
تتفرق.
تلعب.
طيور الجنة البيضاء ولها مناقير حمراء
تلعب.
وهو الطفل دون العاشرة يحب اللعب.
يعشقه..
يموت فيه.
وطيور الجنة البيضاء تلامس رأسه..
تدعوه ـ صراحة ـ لأن يطير
ألم يحلم وهو الطفل ليالي وليالي أنه يطير؟.
ألم يسبح في فضاء حجرته خارجا من شباكها الضيق الي المدي الفسيح؟.
ألم..؟
وطيور الجنة البيضاء تستحلفه باسمه.. واسم أمه حبيبة أن يحزم أمره للتو وأن يطير
ويجده ـ جسده الطفولي الصغير ـ يصطك.. ويجده ينتفض..
ويجده يفيض.
ويراه ـ طائره الأبيض وله منقار أحمرـ
يرف خارجا من جسده الطفولي الي الفضاء.
زاعقا..
يلحق يطيور الجنة البيضاء.
يتجمع معها..
يتفرق..
يهبط..
يصعد..
يلعب..
و..
ويفيق علي نداءات زوج أخته الكبيرة فاطمة.. وعلي يده تهزه.. ليجده مرتكنا علي صخرة فوق اللسان الحجري.. حالما وسابحا بعينيه في الفضاء.. يرف بهما خلف الطيور البيضاء.. مصطكا.. ودامعا.
ويقوده زوج أخته الكبيرة فاطمة خارجا به من شوارع ذلك المصيف.. وعائدا به الي قريته.. والي داره.
وطائر الحلم ينقر رأسه:
أن يكون له ـ حين يكبر ـ عشا في ذلك المصيف.
ولابد أنه قال: يارب.. لأنه صحا من حلمه بعد ألف عام.. علي خطاب من إدارة المصيف تخبره أن القرعة اختارته ليتملك مسكنا أرضيا في ذلك التجمع السكني علي أطراف المصيف.
ياألله!.
أصبح للطائر عش يئوب إليه بعد انتهاء عمله الحكومي الروتيني الممل في المدينة المجاورة.
ينطلق منه ـ قبل الغروف ـ الي اللسان الحجري.
يسلم جسده وروحه اي رذاذ البحرين:
عذبه ومالحه.
يسبح في غيمة المسك..
ويقضم من رغيفه البيتي.. الوردي..
الكبير.. الساخن.. الفواح.
ويصطك..
ويفيض..
ويرف طائره الأبيض خارجا من جسده الي الفضاء.
يلحق بطيور الجنة البيضاء
يتجمع معها..
يتفرق..
يهبط..
يصعد..
يتمرغ فوق عتبات أبواب السماء.
و..
والشموس تتساقط تحت قدميه.
والآماد.
و..
ويفيق من حلمه الي اللسان الحجري وقد تحول.
أصبح مزارا سياحيا.
طريقا اسفلتيا ناعما تحيط به الأضواء من الناحيتين.
ومن خلفه البنايات القميئة تسد عنه الهواء.
والبحر مكمم.. في فمه الأحجار
وغيمة المسك فرت..
ورغيفه البيتي..
وطيور الجنة البيضاء..
و..
لم يعد اللسان الحجري مرتقاه
ومعراجه الي السماء
ويفر عائدا الي عشه.. ليجده ـ عشه ـ هو الآخر ـ وقد تحول.
أصبح جدارنا مشققة.
وأبوابا ملتوية..
ونوافذ محطمة.
والأرض.. بلاطات مخلعات.. نبشت من أسفلها جيوش النمل الأسود الكبير.. بأرجلها المناشير.. وأخرجت الرمال فتداعت بلاطات الشقة كلها..
وانطلقت من أسفلها ـ من شقوق الأرض ـ جيوش النمل الأسود الكبير وتسلقت الجدران والأسرة والدواليب ودخلت الي الأغطية والملابس.. ونشرت بأرجلها المناشير في الكتب والأوراق.
ووقف يتأمل جيوش النمل الأسود الكبير:
أين كان طيلة كل تلك الآلاف من الأعوام؟.
وكيف تغافل عن تلك الجيوش من النمال..
تنخر تحت الأرض.. في الأساس؟
وجيوش النمل الأسود الكبير تتدافع خارجة من شقوق الأرض وتنتشر في الشقة كلها.
تشفي بها الشقة كلها.. ويرتفع أزيزها..
يرتفع عاليا.. كأنما يعلنه ـ الأزيز ـ
أن عش الأحلام ـ شقته ـ لم تعد له..
وعليه الرحيل.
واندفع الي الماء يغمر به الشقة كلها.
ليس غيره الماء هو الذي يدفع عن شقته
جيوش النمل الأسود الكبير.
حتي عامت الشقة كلها في الماء.
أصبحت بركة من الماء والطين والرمال. ورأي خنافس سوداء تخرج من شقوق الأرض.. وتعوم فوق سطح الماء والطين والرمال..
تبعتها فئران سوداء كبيرة تخفق رءوسها في الماء والطين والرمال.
وسحالي صفراء تقلبت فوق الماء والطين والرمال.
عادت الشقة الي سيرتها الأولي.. حين كانت ـ قبل البناء ـ أرضا رخوة.. تعوم في بركة من مياه الصرف المنتنة السوداء..
تحيط بها أعواد البوص والأشواك
و..
وأطل ثعبان أقرع من شق في الأرض..
وفح.. وأرسل شعبتيه يتلاعب بهما..
أمام عينيه.. في الهواء.
وأسرع الي مقشته المهترئة يدفع بها جيوش القوارض والكائنات
يدفع.. يدفع.. حتي لهث وأصابه الإعياء..
وغامت الدنيا أمام عينيه.
ورآه ـ في الغيم ـ طائره الأبيض ـ يرف وسط بركة الصرف المنتنة السوداء.. وقد تسلقته القوارض والكائنات.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى