كمال لطيف سالم - المنتريس.. قصة قصيرة

شيء ضبابي أحاطني تحلق من حولي، المكان الذي لم أعد أتبين منه سوى كرسي برجل واحدة وشبح آدمي بلا رأس، أخذت الجدران تقترب من بعضها والمسافة بين نقطة وقوفي أصبحت تمس حوافها من الرصاص الجمري.
لم أكن لأقوى على مغادرة نفسي إذ أن ساقي التحمتا بالارض الغرينية.. وهناك هلام مسك كفي.. أريد الخروج فلم أعد أطيق رعشة هذا العالم المخيف. كل ما أعرفه أنني حملت خارج مستطيل الخوف، ووجدت نفسي في الشارع كان الطريق الصخري يزدحم بأشجار شتى ترسم ظلالاً متحركة عبر سواقي المياه الآسنة. تفجرت في داخلي رغبة السفر أو السير لمسافات طويلة.
- إلى أين هذه المرة؟
قلبت في ذاكرتي المتعبة خارطة الأمكنة التي شهدت جزءاً من فعاليات حياتي الخاسرة.
أهو مهم.. لا يدري، حاول عدم التفكير بأهميته ولكنه أيقن من أنه كان هامشياً حتى هذه اللحظة. توردت الفكرة من جديد في رأسي وبرز اسم- بهرز- كان الارتياح قد تأثر في سريرتي بهرز مرتع صباي ولكن اليوم لا أحد يعرفني هناك. مات أكثرهم وتغيرت ملامح الأمكنة. كان الطريق يمتد ويمتد وهو غريب بيوت حديثة واشجار غريبة. أين التوتة والمعبر الخشبي. أين الظلال الرطبة والهواء المنعش شعر يلفح سام يهاجم جسده فتعرق بشكل قبيح شعر أن رائحته أصبحت مزعجة. تلفت نحو الراكب الذي كان يجلس بقربه. ملامحه أصبحت قاسية.
- متى نصل بهرز؟
- ها هي بهرز أمامك.
غادرت السيارة ووقفت لبرهة متأملاً البوابة الوهمية التي عرفتها ذات يوم، كان الحائط الطيني يبرز من بين زحام الأغصان الشوكية والحلفاء التي لفحها الأوام وتجمرت رؤوسها ومع ذلك توزعت الزهور بيضاء رقيقة على امتداد الجدار الذي يتصل بنهر خريسان حيث خط سكك الحديد الذ يسقف النهر لتستظل به عيدان القصب القائم وبقايا جثث حيوانات نافقة. خريسان عرف جسده الصغير وكاد يغرق في أعماقه المتواضعة جرفه التيار السريع بأتجاه نهر تمسكه من ثوبه وتسحبه إلى سطح النهر. كان ذلك الوجه حنطياً جميلاً طرز بقطرات المطر. ابتسمت بوجهه وكشفت عن صف من الأسنان اللؤلؤية.
- كدت تغرق؟
لم يكن يعرف الحب، ولكنه جربه وصارت تلك الذكرى بعيدة. شيء صدمه بعنف وكاد يسقطه.
- أين أنت بحق السماء ألا تنتبه. لقد اختفى الجدار الطيني وحلت محله بناية أنيقة ولم يجد من سكة الحديد غير أثر الخشب المتشقق مد بصره ليشاهد محطة القطار التي بدت شاحبة مقفرة ومع ذلك سمع صفير القطار وهدير العجلات المتناطحة التي كانت تخيفه.
- أريد الذهاب إلى بهرز؟
رمقه السائق بنظرة حائرة وشعر برغبة في معرفته
- هل أنت غريب؟
- صرت غريباً.
- هل أنت من المنطقة؟
- طفولتي تركتها في بهرز ورحلت.
- اصعد أهلاً وسهلاً بالعائد إلى جنته!
مضت السيارة في الطريق ذاته الذي عرفه حاول أن يقف أمام قبة سيد أدريس. يذكر القبة كانت تشيد وسرعان ما تنهار لذا أطلقوا عليه سيد دريس المفرع، شعر بالاختناق لكون ذلك الجمال الحزين قد خبا واضمحل.. لقد أصبح البناء حجر ميت أين تلك اللمسة الطرية؟
شعر السائق بلوعة الإحساس الذي يكابده راكبه كان يلتمس ويريد أن يعرف ما يدور بخلده
- هل يذكرك سيد ادريس بشيء؟
ليس سوى الصمت وكانت السيارة وحدها تخترق البساتين والجدران الطينية رائحة العنب والعنجاص ورائحة الدفلى. حاول أن يصرخ وسأل، أين قبر أبو محمد أين الشاني أين المنتريس؟
حزن دفين كبس على صدره وروحه وأصبح عاجزاً عن البكاء سأل في ذات نفسه
- أين مقهى خليل ام الجام اين خليل لاشجي وعزيز الأعرج وكشاش. ألا يزال المنتريس في مكانه يفضي إلى نهر ديالى.
- تلفت السائق وقال مستغرباً
- إنك تتحدث مع نفسك لماذا كل هذه الاسئلة لقد تغير الزمن فأنت تتحدث عن أشياء كانت قبل نصف قرن.
حدق بالسائق وقال بحزن
- عد بي إلى نقطة البداية كي أغادر المكان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى