ميسلون هادي - شرشف لنفر واحد

انتبه لنفسه الجديدة أول مرة عندما ارتدى نظارته الطبية، ورأى الصورة التي التقطها له جاره الحقير همام في باب الدار قبل قليل.. أخذ الموبايل من يده، وبحلق فيها جيداً، فبينت له بدون لبس، كم صارت عيناه متعبتين، وكم غاصت رقبته تحت علو واضح يشبه السنام.. وكم دارت عقارب الساعة بين سموم الصيف وهموم الربيع، فجعلته يبدو عجوزاً طاعناً في الزمان.. كاد أن يفقد صوابه.. وشعر بالضيق خلال الكونسرت، حتى إنه التفت إلى الرجل، الذي ناوله منهاج الحفل من المقعد الخلفي، وسأله:
- هل يدك نظيفة؟
استغرب المسكين وقال:
- نعم.
- هل أنت متأكد؟
- لماذا؟
- تعرف نحن الرجال لا نغسل أيدينا بعد استعمال الحمام.
أدرك حمزة في تلك اللحظة أنه أخطأ، وأنه ما كان ينبغي أن يتحدث بهذه الطريقة مع الرجل الغريب الجالس خلفه.. فقد وجّه له سؤالاً فظاً عن نظافة يده دون أن يقصد.. أو يدرك غرابة هذا الفعل الذي لم يقدم عليه من قبل.. ويبدو أن الرجل الجالس خلفه لم يهتم، أو ينزعج لتعليقه الفظ، بل تبرع، بعد انتهاء الاستراحة، أن ينزل له طبقة (الكُشن) التحتية العنيدة من المقعد الجلدي، ولما حان وقت الخروج سلم عليه وضحك معه، معتبراً ان ماحدث ليس إلا مزحة من رجل ظريف.
حمزة لم يعتبر الأمر مزحة، بل دليلاً دامغاً آخر على إدراكه أرذل العمر. واستخفاف الناس بما يفعله أو يبدر منه.. زعزعته الصورة التي التقطها همام الحقير، وجعلته ينظر إلى مرآة السيارة ممعناً في تعذيب نفسه بهذه الصورة الجديدة: خفيف الشعر مزموم الحاجبين، ويشبه والده المسن في آواخر أيامه.. ظل طوال الطريق إلى البيت، يحاول أن يمنطق تفسيراً للطريقة التي تحدث بها إلى الرجل الجالس خلفه في المسرح. حمزة لا يجد تفسيراً.. وجملته لا تكف عن التقلب خلفه مثل ذيل القطة:
- هل يدك نظيفة؟ وهل غسلت يدك بعد أن تبولت في الحمام؟
السؤال الأول لا يمكن أن يوجهه إلا معلم نقناقي لتلميذه العائد من المرحاض، والسؤال الثاني لا يمكن أن يتفوه به إلا أب دقداقي لإبنه الصغير، فكيف سوّلت له نفسه أن يفعل ذلك مع شخص يراه للمرة الأولى... وما باله ينجذب إلى أنواع من حلوى الجلاتين وبعض المثلجات التي يحبها صغار العمر..
كاد أن يصدم سيارته من الميمنة والميسرة، وداس الكابح أكثر من مرة، بل وفتح زجاجات السيارة الخلفية بدلاً من الأمامية طلباً للهواء. وعندما وجهت له زوجته انتقادات حادة لاقتحامه كل طسات الشارع بدون استثناء، لم يأبه لأفأفتها، أو يبالي بعقعقتها بسبب عدم انتباهه للأسئلة التي توجهها إليه. وفي الليل ظل يطقطق ويبحلق معترضاً، دون أن ينطق بكلمة واحدة، على فتحها شباك الهواء البارد. قائلة إنها تعاني من هبات ساخنة، وإنها ستغرق في عرقها طوال الليل، إذا ما ظلت تنام في هذا الحر الخانق.
بعد يومين جاء صديقه الحقير همام، الذي أظهر له السنام، وطلب منه أن يرافقه في مشاية الرجال التي ستنطلق بعد يومين إلى مدينة النصر والسلام. لم يردد حمزة اسماً صحيحاً واحداً من أسماء الأصدقاء القدامى الذين التقى بهم.. فيكون الاسم على طرف لسانه، ولكن الذاكرة تغدر به، فلا يدري كيف تنتهي الكلمات، وتطير إلى الطوابق العليا مع البالونات والأوراق. وفي البيت قالت له زوجته:
- لقد تأخرت.
- لم أتأخر.
- ألا ترى انها العاشرة؟
- لا زالت العاشرة منذ أيام. الساعة غلط، وتحتاج الى تبديل للبطاريات.
في الصباح كانت الساعة المربعة مضبوطة، دون الحاجة الى استعمال السلم لتبديل البطاريات.. الساعة عالية جداً، ولا يوجد في البيت من يبدل بطارياتها إلا إثنين، أنا أو العقعق، فكيف صارت مضبوطة في الصباح، وهي التي كانت خاطئة في النهار عندما عندما عاد من الحلاق، وفي الليل عندما عاد من مشاية الرجال مع همام الحقير الذي أصبح شؤماً عليه، ويتخندق في الشؤم مع الساعة الجدارية الصحيحة، والتي قالت زوجته، إنها متطابقة مع ساعة يده منذ عقد القران، وحتى الآن.
صعد حمزة إلى السطح، وبعد زمن قصير نزل منه.
قال لمن حوله في القاعة بأن المسرح كالمعبد إلا تستمعون؟ فصمت بعضهم، وعاد البعض للثرثرة بعد دقائق متسائلين عن جيجي عازف التشيلو، وساخرين من سابستيان عازف البيانو.. هاجمت الخرفان كل مكان حتى حفلات الموسيقى آخر ما تبقى له في هذا الزمان.. استطاعت التقدم مثل فرقة عسكرية تمردت على قائدها الراعي، يس يم يس يم يس يم، ثم جاءت وانقضت على ما تبقى من النبات المتدلي والمتسلق.
- أخرج من هنا.. أخرج.
- هذا بيتي.
وجد نفسه يقطن في قاعة كبيرة مليئة بالكراسي، ولكنها خالية من الناس، إنها قاعة سينما تعرض أفلاماً متواصلة. وهو نائم فيها.. لا يعرف كيف يحدث هذا، يبدو أنه تدبير آخر من التدابير الغريبة التي أحاطت به منذ أن التقط له جاره همام الصورة.. أستيق إلى هذا المكان بعد أن وقف الزمن على صورة السنام العالي.. ومر زمن آخر لم يعرف ما صار فيه بالضبط سوى أنه رجل كاد أن يختنق في صباه بعد أن شد الوثاق العتيق تحت النخلة. يتذكر الحبل الذي منع عنه أنفاسه، ولا يتذكر من أعاد إليه الدرج... قه قه قه.. هه. هه. هه.. قهقهات طارت هي الأخرى إلى أعلى العذوق مع الكلمات.
كيف طلبتُ هذا الطلب الغريب من الرجل الجالس خلفي في حفل البطاريق. وكيف نفذَه لي برحابة صدر، بل راح يضحك.. طبعاً فأنا رجل مسن.. كل الناس يلاحظون ذلك، وأنا وحدي الذي لا ألاحظ.. وحتى عندما أتضايق لا يريدون نجدة الصديق وقت الضيق.. ووووووما هو السبب.. إنها الصورة.. صورة الشعر الخفيف والسنام العالي. اللعنة على همام الذي اشترى الموبايل.. اللعنة على رجل شرير اخترعه، وقد يكون هو الذي اخترع أيضاً قصة الذئب الذي أكل جدة ليلى مع هاتفها الأرضي. هههههه.. تا تا تا.. كا كا كا.. لولا الضيق ماكان الصديق... ولا مد الإنسان يده فنبتت له المضائق بين الأصابع. أو حمل الموبايل فظهرت صورته أم المواجع.. ما أغرب ذلك وحق اللات والعزى.
طلبي الأخير من جاري همام (أبو المصايب).. كان نفاخة أنفخها لأوسع ما يمكن قبل أن أتكور على نفسي بين نتوءات تشبه خيوط منشفة بالية.. ثمّة نتوء على بطنه اسمه الصرة، ونتوء في وجهه اسمه الأنف، ونتواءان في رأسه أسمهما الأذنان، ونتوءات كثيرة بين فخذيه لها أسماء مختلفة. إنها شجرة ثمارها الأوساخ في أغلب الوقت.. وفي كل نتوء هناك علامة تعجب يجب أن تربط بالصرف الصحي..
حمزة وفى بوعده فأعطى لهذه الشجرة اسماً، ولكن ذلك لم يجعلها تطرح سوى الحشائش التي خرجت من بذورها، ويجب أن لا يدوس عليها أحد. قال إنها شجرة حفاظات وقناني رضاعة ودفاتر امتحانات وأقلام رصاص ومحايات بلونين... المفروض أن الجهة الزرقاء من الممحاة هي لمحو الحبر. تتشقق الورقة، ولا ينمسح الحبر. أما قلم الرصاص فهو لتحويل الجملة المثبتة إلى استفهامية بعد وضع علامة استفهام. وهناك نقطتان وشارحة قبل بدء الحوار، ودوائر ومثلثات ومربعات وفوارز وأرقام.. وفي موبايل همام اللعين، المقاوم للماء والصدمات، هناك زنابق وقواقع، وأشداق للتعبير عن الغضب أو البكاء أو الصراخ. وإذا أدخل موت زوجته في الصورة، لاحتاج الأمر إلى وجوه تعبر عن النهايات السعيدة..
- طفّوا التلفزيون.
نزلت تلك العبارة على رأسي أقسى من كل الصراخ الذي كان يملأ المنزل. لم يكن موت زوجتي قد أفزعني بقدر إطفاء التلفزيون أثناء مشاهدة الكارتون، وكنت أشاهد الفلم الياباني للمرة العاشرة على التوالي.. أين نحن؟ في بيت عمتي الحنون هاربين من الحرب، ونتفرج على النيران المتصاعدة من القصف.. سنوات مكثنا فوق السطح؟ في النهار رأينا البساتين. وفي الليل رأينا الصواريخ.. هيا انزل يا حمزة.. علينا النزول تحت الأرض. لا أريد أن أنزل قبل التقاط الصورة.... وهذه الصورة مختلفة عن صورة همام.. لأن الفرق كبير بين إثنين من سكان الأرض. واحد يوقوق، والآخر يغرق..
الفاصل ابتدأ بسبب آذان العشاء.. فهيا يا صفا ويا مروة.... الكبار سيصّلون، ثم يأكلون الكباب بالسماق... ونحن سنشرب الكوكاكولا. ونشاهد أفلام الكارتون.. وأشتعل أبوكم يابو اللي خلفكم... لماذا تتراكضون إلى الخنادق؟ الجميع يتراكضون، أبوه وأخوه وجده شعلان.. وسبعة كولجية من أصدقاء الدراجات الهوائية والساحات الترابية.. لا يفهم لماذا عليه إطفاء التلفزيون، أو النزول تحت الأرض، فهو يريد أن يبقى في الزورق، ليشاهد سلاحف الننجا، وأن لا يذهب إلى أي مكان.. لا إلى النخلة ولا إلى الكونسرت ولا إلى حي النصر والسلام.. هبت من الأرض إلى أنفه رائحة غريبة هي خليط من المسك والقرنفل والكافور.. أطال السجود، وطابت نفسه برائحة السجادة.. ونسي عدد الركعات التي صلاها، وفكر بحارس المدرسة أثناء الصلاة.. جواريبه مزروفة على الدوام.. وأخيراً قرفص فوق الأرض، وبعد أن سلم على الملائكة، قال لأبيه:
- تاتي تواتي..
فرد عليه أبوه، وقال:
- يلة نروح لباباتي.



* عن المدى

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى