يوسف إدريس - لحظة قمر

فجأة، رأيت القمر ..
وليست هناك خدعة ما في التعبير، فصحيح أن الإنسان أبدا لا يري القمر فجأة، فالقمر لا يظهر فجأة،
والشمس لاتشرق فجأة، إذ المفاجأة دائما في العمل غير المنتظر، وشروق القمر وغياب الشمس أعمال
لامفاجأة فيها ولا جديد. ولكنك بالتأكيد ستحس بصدمتي وأنا أري القمر فجأة في شريحة من شرائح القاهرة، شريحة تسمح لك برؤية السماء، رأيت القمر عجيبا جدا .
الشريحة السماوية التي تبدي منها. كانت مسافة بين عمارتين عاليتين من عمائر القاهرة، عاليتان إلي درجة تكاد تحجب عنك رؤية السماء كلها. ولولا المسافة الكائنة بينهما ما سمحت لهذه الفرجة السماوية أن تظهر.
وقد كان حريا بظهورها ألا يثير أدني دهشة أو ابتئاس لولا أن تلك الشريحة السماوية كانت تحوي، في هذا الوقت بالذات القمر، القمر في محاقه الأخير، القمر حين يبدو الجزء المضيء منه مخنوقا بعض الشيء. من لون البدر يتناول تدريجيا فاقدا لمعة فضيته، ثم بياضه مكتسبا بعض الصفرة، بعض العتمة، حين يكاد نوره يصبح وكأنه نور قادم من عمود نور البلدية، أو هو بالضبط كما بدا لي من خلال فرجة السماء هذه القائمة بين عمارتين، شققهما العليا مفجرة الأضواء والضجيج، بدا لي وكأنه النور القادم من شقة ثالثة مفروشة ومؤجرة للسياح ومن الباطن، حتي لوكان هذا الباطن علي تلك الدرجة الشاهقة من العلو، فالمهم أن نور القمر المخنوق اختلط بأنوار الكهرباء الباذلة جهدها كي تلعلع وتبرق ومع ذلك فهي بالكاد تصل إلي مستوي نور القمر المخنوق هذا .
فجأة، رأيت القمر .
ويبدو أيضا أن المفاجأة كانت كاملة وكان من المستغرب تماما في ظروف القاهرة تلك، ظروف الخروج من المعركة والاستعداد الكامل المطلق لأي معركة مقبلة، أن يكون هناك قمر .
ربما نحن نسيناه تماما .نسينا الكون الأكبر المحيط بنا، ضعنا تماما في اختناقاتنا اليومية الصغيرة المستمرة المتكثرة التي نغرق فيها وتغرقنا، ومع هذا فمفروض ونحن غرقي هكذا أن نفكر في انقاذ أنفسنا بل ونقوم بهذا الانقاذ فعلا، ويخيل لنا أن كل شيء قد انتهي إلي لاشيء مرة، ومرة أخري أدهي يخيل إلينا كما لو كان أي شيء قد استحال إلي شيء . ومابين اللاشيء وكل شيء رحنا نرقص. رقصا لا ضابط له ولا نغم، نحن فيه علي وجه الدقة كرة ( بنج بونج) مضروبة مضروبة، لكي تقتحم أرض الخصم، لكي تدافع مضروبة، من اليمين التي نزاولها بمنتهي عدم الدهشة وبمنتهي الجدية والخطورة، رقصة التفتت والتحلل إلي اللاشيئية لتصبح الكل شيئية.. أنستنا هذه الرقصة المحمومة، ليس فقط أننا نرقص أوأننا أحياء، ولكن يبدو وكأنها أنستنا أيضا أننا جزء من كون هائل الضخامة كبير، عوالم أخري، شموس وأفلاك ومجرات، حركة تاريخ ضاربة إلي أسحق بعد من الماضي وواضح أيضا إلي أسحق بعد في المستقبل ..
أجل.. نسينا هذا كله. كل مراكز عقولنا محملة فوق طاقتها بأكوام من الأرقام والحسابات والديون والمطالب والاحتمالات وخراب البيوتات، المركز الواحد أمامه طابور أفكار برمته ولا طابور الجمعية.
نسينا القمر ..
وفجأة، رأيت القمر .
مخنوقا لا يهم، محمر الضوء كالحه لا يهم، شقة مفروشة بتليفون وحمامين وأنوار والعة مولعة ومجهزة إلي حد الصاجات لإحياء ليالي ألف ليلة بعشرات من الشهرزادات المنتظرات، فقط، تليفون، وإذا الكل علي واحدة ونص انضبط، مع كل واحد، يتخلخل تماما ويتفكك مع كل نص في ومضه يعود إلي الانضباط. شقة مفروشة باهرة الأضواء بين عمارتين لزوم السادة السياح، ما عليك فقط إلا أن تشير، مجرد تشير، أو تفكر، مجرد تفكر، وإذا بجميع ما تحلم به يتحقق حتي لو الشقة في القمر، ولوالقمر بين عمارتين تتلألأ شققهما بأنوار .
فجأة، رأيت القمر ..
إذن فأنت القمر. تراك أين كنت أيها العربيد. ماذا ضيعك منا أو بالأصح ماذا ضيعنا منك؟ أخيرا هللت، وظهرت، ورأيناك؟ !
صحيح لم تكن مفاجأة، ولكنها كانت في حد ذاتها حدثا .
لا أعرف ماذا حدث لي بالضبط حين رأيت ذلك المخنوق بالوهج القمري، ولكن الشيء المؤكد هو أنني أحسست بارتباح طاغ .
القيامة إذن لم تكن قد قامت .
والطريق الذي قطعناه طويل هذا صحيح .
متعبين، مثخنين بالجراح والأنواء، نحن .
ولكن ...
ها هو القمر .
ها هو وجهه يذكرك بإنسانيتك، بأنك أنت مما كنت، ومهما كانت أوضاعك فأنت هو الإنسان، أنت العظيم وسط هذا الكون الهائل الفراغ والظلام .
ذلك أن هذا النظام نفسه يؤكد أنك سيد هذا الكون، أنك الوحيد بين مكوناته القادر أن تتحرك بإرادتك المستقلة وبحريتك في أي اتجاه تختاره، إنك السيد، وكل ما تفعله عظمة الكون كلما عن لها أن تؤكد نفسها فإنها في نفس الوقت تؤكد عظمتك، أنت عظمة السيد .
فجأة، رأيت القمر ..
لا أعرف لماذا كانت بعض الديانات القبلية في أمريكا الجنوبية وأفريقيا تخصص أياما محددة من العام تجتمع فيها القبيلة كلها ومن كافة الأنحاء، في مكان محدد عند هضبة جبلية، هناك حيث يعسكر أهل القبيلة، ويقضون الوقت في تأمل صامت للشمس وهي تشرق وتميل ثم تغيب، والقمر وهو يعتلي قبة السماء ويتغير شكله وطبيعة نوره لا أعرف، ولكن الدارسين لهذه العبادات والقبائل يؤكدون علي أن الغرض من هذا كان عمل نوع من الاتصال بين الإنسان والكون، بحيث يبقي للإنسان ذلك الاتصال الكوني الروحي الذي يزوده بزاد يكفيه حتي حلول العام القادم .
لا أحد يعرف إذن ماذا يعنيه هذا الاتصال بين الإنسان والكون أو بالضبط ماذا يحدث للنفس البشرية إذا أجبرت علي الابتعاد عن الظواهر الكونية أو إذا عاشت واختلطت بتلك الظواهر. لا أحد بالضبط يعرف ماذا يحدث للإنسان ولكن الذي لا شك فيه أن الإنسان ( الكوني) أقوي بكثير من الإنسان بلا بعد كوني، فالإنسان ذو البعد الكوني إنسان أقرب إلي حقيقته الإنسانية وطبعه البشري، أقرب إلي فطرته وأصالته، أقرب إلي تفرده وتسيده من ذلك الذي غشي عليه فلم يعد يري أمسه من غده، أو ليله من نهاره .
فجأة، رأيت القمر ..
رفرفت في صدري أجنحة عصفور زقزق في قلبي كالزغرودة وهفهف بجناحيه مرحبا، وكأن الأمر عيد يهش له .
وبدا كما لو كنت أستعيد حياتي كلها في شريط سريع أمام القمر أو بالضبط أمام لحظة القمر .
لا أعرف، ولكن، لأمر ما، كل شيء يأخذ حجمه الطبيعي، بل بدأت أنا نفسي آخذ عند نفسي حجمها الطبيعي، أو ذلك الذي أبدو فيه أكبر من كل مشاكلي. تلك الصورة التقليدية التي يبدو فيها الإنسان، ومهما كان التحدي القابع أمامه، منتصرا، أو علي وجهه علامات الانتصار الأكيد..
فجأة، رأيت القمر ..
في فجوة سماوية بين عمارتين.. شقة مفروشة.. كون هائل فارغ ومظلم ومنظم.. عصفور يزقزق في قلبي طربا .
لحظة ..
وفجأة أيضا، ضاع القمر ..
سدت السماء أدوارالعمارات العالية .
أصبح لا معني أن تنظر للسماء إذ لا سماء هناك .
عليك، لكي تخطو، فقط لكي تخطو، أن تنظر إلي الأرض .
وإلي الأرض تظل تنظر، حتي لاتسقط، تنظر حتي لاتسقط فما أكثر الحفر في شوارعنا هذه الأيام .
فجأة، رأيت القمر ..
ولحظة واحدة عشتها معه .
وفجأة، ضاع القمر بين عمارتين، وضاع بصري بحثا عن موطيء قدم .
ولكن قلبي لا يزال يرفرف بالسعادة، إذ يكفي أني، بعيني، رأيت القمرالذي لا اراه

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى