شعيب مقنونيف - النسق النقدي الحداثي في مصطلحي النظم والشعرية عند الجرجاني

إنه من الصعوبة بمكان أن يشيد الدارس بالمنزلة المتميزة والقيمة الفريدة لناقد ألمعي كالإمام عبد القاهر الجرجاني (400 - 471هـ)(1). دونما أية إشارة إلى ما وصلت إليه حركة النقد الأدبي عند العرب في القرن الخامس الهجري.
1- حالة النقد في القرن الخامس الهجري باقتضاب :

..ولما كانت طبيعة هذه الدراسة لا تسمح بتفصيل القول عن حركة النقد، فإنني أكتفي بعرض الخطوط العريضة لها تاركا تفصيلات بعض منها لدى الحديث عن منهج عبد القاهر الذي ردّ وناقش الكثير منها. فلقد وصلت جهود النقاد وإسهاماتهم، عبر التاريخ الأدبي للعرب، إلى عصر عبد القاهر وهي مثقلة بالكثير مما لا يدخل باب النقد إلا اعتسافا وابتسارا، فاللّغويّون أحالوا النقد معرضا لعلوم اللّغة وفقهها، والنّحويون انصرفوا إلى شواهدهم الأثيرة..أما البلاغيون فقلبوا النقد تابعا ضئيلا لتفريعات علوم البلاغة ومصطلحاتها الدقيقة، بينما كان رواة الدواوين وشرّاحها ينقدون بطريقة قاموسية لا تتعدى معاني الكلمات أو مناسبات القصائد في أحسن الأحوال..ذلك أن السواد الأعظم من نقادنا كانوا علماء لغة وبلاغة وهم يسحبون قضايا علومهم وتطبيقاتها على النقد..وحتى المفسرون لم يفتهم أن يكون النقد بعض بضاعتهم يبحثون من خلاله إعجاز القرآن : أَمن جهة ألفاظه أم معانيه؟ فأورثوا النقد خلافا مستحكما حول مسألة تفتت النص الشعري وتهمل تلازم مضامينه وأشكاله، تلك هي مسألة « اللّفظ والمعنى » وأيهما له الأهمية والرتبة في الكلام..

وفي قضايا نقدية أخرى هيمن رأي نقدي عام مؤداه تقديس القديم دون تفهم وتمعن والإستخفاف بكل حديث مولد مما أنشأ مباحث نقدية بددت جهود النقاد كقضية « السرقات الأدبية » التي لا يخلو منها مُؤلف، ولم ينج من كمائنها شاعر مهما بلغ تقدمه في فنه..إذ راح النقاد، تحت وهم قدسية القديم وضعف المولد، يرجعون كل معنى مبتكر إلى ما يحسبون أنه مأخوذ عنه في أشعار المتقدمين، وبذلك أعفوا أنفسهم من مهمة تشخيص التأثر المشروع الذي لا بد منه والتفريق بينه وبين الأخذ البيّن الذي هو سرقة ونهب.
2- عبد القاهر المنظر :

إزاء تلك المعطيات في الفكر النقدي..وقف عبد القاهرفكانت له نظريته النقدية التي أحاول هنا التعرف إلى أبرز سماتها كما رُصدت في كتابه الهام "دلائل الإعجاز"..الذي يكون إلى جانب كتابه الأسبق "أسرار البلاغة" جماع نظريته وخلاصة آرائه.


إن عبد القاهر يتفرد عن معاصريه، وسابقيه، من العلماء المهتمين بالتنظير للأدب بكونه بزّهم بالإحساس بما لم يحسّوه فراح يتلمس أفكارا أغفلها المتقدمون ولم يتبينها المتأخرون لعلّة التقليد التي استحكمت في النفوس ومنعتها من رؤية الحقيقة..لهذا كانت آراء عبد القاهر في مجمل القضايا النقدية المطروحة في عصره، تعتمد على فهم جدلية التطور وحتمية تجاوز المفاهيم القديمة وتغيير القناعات الموروثة انطلاقا من رؤية منهجية حداثية من جهة ومدروسة من جهة ثانية، فلا عجب أن نجد كثيرا من مسائل الحداثة(2) في أفكاره وبعبارة متشابهة تتكرر في كتابيه مما يدل على اتساق منهجه وتطوره.

وفي المقدمة التي وضعها للكتاب نجده يلخص طموحه في أن تكون لآرائه الفاعلية التي تلغي ما ساد من أفكار خاطئة، آملا أن يكون المطّلع عليه <<ينظر منه في مرآة تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد التقت له حتى رآها في مكان واحد، ويرى بها مشئما قد ضُمّ إلى مُعرق ومُغرّبا قد أخذ بيد مُشرّق..>>(3).

وفي هذا النص تتجلى بوضوح رغبة الجرجاني في أن يصدم قراءه بحقائق تقلب ما ساد من مفاهيم، وتمكن في النّفوس من قناعات، كما يكشف هذا النص من جانب آخر إيمانه بوجود علاقة خفية بين النقائض والأضداد لم يكن معاصروه بمستطعين إدراكها لما وضع اعتباطا من حدود فاصلة تقنن العمل الأدبي بفتور وتحدده بسنتيمترية جامدة..علما بأن فكرة التأليف بين النقائض والأضداد قد وجدت هوى في نفس عبد القاهر فقرر، عند كلامه عن فكرة التمثيل بالمشاهدة، أن ذلك <<ينطق لك الأخرس ويعطيك البيان من الأعجم ويريك الحياة في الجماد ويريك التئام عين الأضداد فيأتيك بالحياة والموت مجموعين والماء والنار مجتمعين>>(4).وتلك الفكرة كانت عماد رده على منكري الغموض في الشعر الذي يتطلب الكد وإعمال الفكر والغوص في الأعماق لاستجلاء المعنى وإصابة الشبه الخفي..

فالفهم المتأني من إعمال الفكر حال، يصفها ناقد كصاحب الوساطة بأنها <<لا تهمش فيها النفس للاستمتاع بحسن أو الالتذاذ بمستظرف>>(5).

والرأي الأخير يتفق تماما مع النظرة السلفية لتذوق الشعر..الأمر الذي أكده « هوراس » في وقت مبكر حين قرر أن للشاعر حرية الابتكار شريطة أن <<لا تبلغ المدى الذي يأتلف فيه الوحش وتتآلف فيه الأفاعي والطيور والخراف والنمور>>(6).

وإذا كان هز القناعات الموروثة ورج المسلمات المقررة طموحا في توجه عبد القاهر فإن غرضه من تأليف الكتاب هو مراجعة مسألة إعجاز القرآن بوجهيها الديني والبلاغي، وعبد القاهر مؤهل لهذه المراجعة بالإعتبارين السابقين ومن ثمّ كان غرضه الإجابة عن تساؤل أورده في المقدمة مُفاده <<ما هذا الذي تجدّد بالقرآن من عظيم المزيّة...حتى أعجز الخلق؟>>(7).
3- بين مصطلحي "النظم" و "الشعرية" :

وفي سياق الإجابة بث عبد القاهر أسس "نظرية النظم" التي عرف بها والتي قادته إلى كشوفات رائعة في النظرة الجمالية للشعر وتقويم التجربة الشعرية بشكل فذ سبق فيه الكثير من نقاد الغرب الجماليين حتى إننا نستطيع أن نلتمس في مقولاتهم أصداء من عبد القاهر كما يتضح ذلك جليا حين نطلع على آراء "بنديتوكروتشه" على سبيل المثال(8).

بل الأكثر من ذلك نجد هذه النظرية ماثلة بشيء من الاختلاف الشكلي، في أحد المصطلحات النقدية الحداثية وأعني بها "الشعرية".

ومسبقا فإن تحديد هذا المصطلح على مستوى الاستعمال المعجمي لا يشفي الغليل، شأنه في ذلك شأن مؤلفات القدماء، مشارقة كانوا أم مغاربة، في البلاغة والنقد والموروثة عنهم، اللّهم إذا استثنت الدراسة من هذا التعميم حازما القرطاجني، الذي أتاح له اتصاله "بأرسطو" أن يتعامل مع المصطلح على نحو قريب من التعامل المحدَث(9)، كما أن اتصال بعض الفلاسفة بالنظر الأرسطي في الشعر، أتاح لهم ترديد المصطلح، كذلك، على النحو السابق(10).

ويقصد بمصطلح "الشعرية" هنا، استخدامه كمصدر صناعي، وإلا فإن التعامل معه على صيغة النسب قد تردّد بكثرة في المؤلفات القديمة اللّغوية والنحوية والأدبية والنقدية والبلاغية، وذلك كقولهم : <<المعاني الشعرية..، والأبيات الشعرية>>(11).

ولكن الملاحظ أن كثرة "النسب" على هذا النحو، تتحول إلى نُدرة إذا جاءت وصفا للصياغة، كما نجد عند "ابن وهب" وهو بصدد الحديث عن جواز الكذب في الشعر عند أرسطاطاليس : <<وقد ذكر أرسطاطاليس الشعر فوصفه بأن الكذب فيه أكثر من الصّدق، ويذكر أن ذلك جائز في الصّياغة الشعرية>>(12).

ولا يعني افتقاد تردّد المصطلح في المعجم أو المؤلفات القديمة عدم تردّد مدلوله بشكل أو بآخر، ولعل أكثر المصطلحات قربا، بل دقّة، هو مصطلح "النظم" الذي وصل به عبد القاهر إلى قمة النضج والاكتمال والشمول وجعل منه <<حركة واعية داخل الصياغة الأدبية>>(13) ليس إلاّ.

و "نظرية النظم" ليست منفصلة عن فكر عبد القاهر النقدي بل هي متلازمة في تسلسل منطقي بديع مع آرائه الباقية في شتى القضايا النقدية التي طرحت في عصره بل إن استنتاجاته النظرية حول "النظم"لم تولد إلا من خلال تصديه لقضية "اللفظ والمعنى" التي اتخذ فيها موقفا تجديديا يستحق الإعجاب والتنويه فهو بعد أن يرد على الرأي السائد بأولوية الألفاظ وتقدمها في تصور النفس وحصول المزية بها قبل المعاني، يؤكد أن استحسان النص لا يتم إلا بسبب ذلك التلازم الدقيق بين ألفاظه ومعانيه..في الوقت الذي كان معاصروه وسابقوهم يتصورون المعاني <<مطروحة في الطريق يعرفها العجمي والعربي والبدوي والقروي والمدني>>(14) ولا يعني انكاره لأولوية اللفظ انتصاره للمعنى مطلقا

بل إقامته لميزان جديد يحتكم إليه في المفاضلة هو "الصورة" فالمفردة لا تعني شيئا إذا سلخت من جسد القصيدة ومن ثمة فإن إرجاع المزية إليها خطأ كبير فالألفاظ، لا تراد لأنفسها وإنما تراد لتجعل أدلة على المعاني(15).

ولنستمع إليه في موضع آخر وهو يؤكد حتمية التلازم بين الألفاظ والمعاني، يقول : <<..وليت شعري، هل كانت الألفاظ إلاّ من أجل المعاني؟ وهل هي إلاّ خدم لها ومصرّفة على حكمها؟ أو ليست هي سمات لها..وأوضاعا قد وضعت لتدلّ عليها؟ فكيف يتصوّر أن تسبق المعاني وأن تتقدّمها في تصوّر النفس؟ إن جاز ذلك، جاز أن تكون أسامي الأشياء قد وضعت قبل أن عرفت الأشياء وقبل أن كانت>>(16) ويضرب لذلك مثلا بالنقش فكما <<لا تكون الفضة أو الذهب خاتما أو سوارا أو غيرهما من أصناف الحلي بأنفسهما ولكن بما يحدث فيهما من الصورة، كذلك لا تكون الكلمُ المفردة التي هي أسماء وأفعال وحروف كلاما وشعرا من غير أن يحدث فيها النظم>>(17).

إن "الألفاظ خدم للمعاني"، وتلك فكرة يكررها، على سبيل التأكيد، في كتابيه(18) وهي لا يمكن أن تحاكم، أي الألفاظ، منفردة أو مقتطعة ليقال عنها لفظ جزل أو لفظ معقد أو <<يدخل في الأذن بلا إذن>>(19) مما اعتاد نقاد عصره أن يكرروه بشكل تقليدي لقي من عبد القاهر هجوما عنيفا وراح يعلل دوافعه ويحلل أسباب الركون إليه فوجدها تكمن في متابعة الخلف للسلف وعدم النظر في الآراء التي تصل الآخر عن الأول مما يطبع طرائق تناولهم للأدب بالاتباع والتقليد..
4- القيمة المنهجية لنظرية النظم :

ومن هذه النقطة بالذات تأتي القيمة المنهجية لنظرية النظم فهي محاولة مخلصة لاجتراح نظرة جديدة تحرر العقل العربي في مجال تلقي الشعر(20) من ضروب الإتباع التي سار عليها زمنا طويلا..

والنظم في تعريف عبد القاهر ليس سوى <<تعليق الكلم بعضها ببعض وجعل بعضها بسبب من بعض>>(21)، وهذا ينسجم تماما مع اهتمامه بالتركيب لا بالمفردة التي لا تعني شيئا خارج البناء الشعري بل إنها نفسها قد تؤنس في موضع بينما تستوحش في آخر ويضرب لذلك مثالا بلفظة "الشيء" في قول عمر بن أبي ربيعة :

ومن مالئ عينيه من شيء غيره


v


إذا راح نحو الجمرة البيض كالدّمى

ومجيئها في بيت للمتنبي :

لو الفلك الدّوار أبغضت سعيه



v


لعوّقه شيء عن الدّوران (22)

فالنظم ليس ضم الشيء إلى الشيء كيف جاء واتفق(23) وإنما الوقوف على حقيقة إرادة المعبر في تصوير المعاني التي يرومها ومن هنا يكون جنس المزية وتفاضل درجات النظم التي هي في رأيه من حيز المعاني لا الألفاظ إذ مهما بدا اللفظ ذا رنين جذاب فهو لا يعدو أن يكون صدى للمعنى الذي حمله إياه الناظم ولذا فعبد القاهر ينفي أولا أن تكون المزية للّفظ بل إن >>حصول المزية والحسن فيما ليس بمعنى محال<<(24) وينبني على ذلك ثانيا أن يكون للمتلقي فكر وذوق وفهم ليستجلي سبب الإستحسان والإمتياز ولن تجدهما إلا بسبب التأليف الحسن والنظم الدقيق..أو باختصار بسبب مدلول العبارات لا بالعبارات نفسها..ويشير الشيخ عبد القاهر إلى أن اللّفظ يكون خصيصا من أجل مزية تقع في معناه، لا من أجل جرسه وضداه(25)، وهكذا يلغي كل الأحكام المتسرعة التي تطلق على النصوص وتحكم عليها بالرفض والقبول لمجرد السماع فالحكم عليها لا يتم، كما يقترح عبد القاهر، إلا حين تنظر بقلبك وتستعين بفكرك وتعمل رويتك وتراجع عقلك وتستنجد في الجملة فهمك(26)، وبنصه السالف يضع بديلا لمرحلة مبكرة سادت في النقد العربي منذ نشأته وقوامها الإستحسان دون تعليل وإطلاق الأحكام دون مبررات.

يقول الجرجاني << ولا بد لكل كلام تستحسنه ولفظ تستجيده من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومة وعلة معقولة>>(27) وهنا ألاحظ بوادر تأسيس منهج نقدي جديد يقوم على معرفة "العلة" التي أدّت بنا إلى استحسان ما نستحسن من ألفاظ..وما دام قد قرر مسبّقا أن تلك الألفاظ، في ذاتها، لا تتفاضل فلا بد من البحث عن الظلال التي تركتها في وعينا والمعاني التي رسمتها نظما وتأليفا في تلقينا..

وحين أحاول التعرف إلى مفردات هذا المنهج النقدي المتطور، اصطدم مذهولا بإشاراته المبكرة إلى وجوب التزام الشاعر بقضية مافي مايقول من شعر إذ هو يسفه رأي المزدرين بأنماط الشعر ممن يقصرونه على الأغراض الكلاسيكية من"مدح" و"هجاء" و"رثاء"...وما يصاحب ذلك من إسراف وابتذال وإسفاف وينعى عليهم قصورهم في إدراك إمكانية مساهمة الشعر في التغيير وكأنه << ليس بشيئ تمس الحاجة إليه في صلاح دين أو دنيا>>(28). وهذه المقولة تنبه بوضوح إلى دور الشعر في صلاح الحياة وتقويم الخلق.

وفي باب الأحكام النقدية أجده يحذر من تكرار عبارات مستهلكة أشرت إلى بعضها، آنفا، ومثلها أيضا تقنين العلوم بعبارات مسجوعة طنانة تبهظ فوائدها النقدية وتسلبها الفاعلية المتوخاة في إصدار الاحكام فينتقد قولهم عن النحو <<إنه في الكلام كالملح في الطعام>>(29) أو قولهم <<ما ترك الأول للآخر شيئا>>(30).
5- الصورة ومفهومها عند عبد القاهر:

وإذا كان التعليل والبعد عن التقليد سمتين بارزتين في هذا المنهج فإن اجتراح البدائل الجمالية والمصطلحات النقدية الجديدة عنصر بارز آخر في رؤية عبد القاهر النقدية وليس أدل على ذلك إشاراته إلى "التمثيل بالمشاهدة" وهو ما يقابل في الوقت الراهن "التعبير بالصور" بل إن استخدامه لمصطلح "الصورة" يوجب منّي وقفة أخرى..فالصورة في تعريفه <<تمثيل وقياس لما نعلمه بعقولنا على الذي نراه بأبصارنا>>(31) ومهمة الناظم بعد ذلك أن يضيئ للمتلقي سبل تلك المشاهدة والقياس وهنا تتفاوت درجات النظم، فمن الشعراء من يستطيع أن يأخذ بيد قارئه لاكتشاف تلك الصور وتجسيدها في فكره بمساعدة التأليف الجيد الذي ضُمت فيه الكلمات إلى بعضها بشكل يؤكد الصورة ويسرع في استحضارها..وهنا تتباين الأساليب التي لم تفت على عبد القاهر مسألة تفصيله فهو يعرف الأسلوب بأنه <<الضرب من النظم والطريقة فيه>>(32) وعبارات الناقد تلك بوضوحها وإيجازها تعطي فهما للأسلوب يخترق جدار عصره ليخلد عبر عصور عديدة..وليست مفاهيم "التمثيل بالمشاهدة" و "الصورة" و"الأسلوب" وحدها مما اجترح عبد القاهر في نظريته بل هو أدخل ضمن الأبواب النقدية التقليدية نفسها زوايا نظر جديدة فحين يعرض لقضية السرقات، مثلا، لا يوافق النقد السائد في عصره بتقسيماته المأثورة عن الأخذ والنهب والسلخ..لأنه في حال موافقته لمفاهيمهم تلك، يكون قد آمن بنظرية اللّفظ التي على أساسها بيّن النقاد قضية السرقات متابعين بكثير من التمحك استخدام لفظه وأخرى أو نظم فكرة ما..إلا أن عبد القاهر بعد أن طرح النظم بديلا لامتياز اللّفظ وجد أن السرقة قد تتخفى في نقل صورة عن أخرى ويقترح مستوى جديدا لتلمس السرقة هو نقل المعنى من "صورة إلى صورة" كما يتحدث عن "الاحتذاء" الذي أراد من خلاله أن ينبّه معاصريه إلى الفرق الدقيق بين تمثل المعنى والتأثر به وبين سرقته أو سلخه ويمثل للاحتذاء بمن <<يقطع من أديمه نعلا على مثال نعل قد قطعها صاحبها>>(33).
6- شمولية منهج عبد القاهر :

ويمكنني الآن أن أنبّه إلى ميزة أخرى في منهج علاّمتنا هي "شموليته" فلقد عودنا كثير من نقاد أدبنا أن تكون لهم آراء متباينة غير منسجمة وقد لا ينجو من هذا التشخيص ناقد فذ كعبد الرحمن بن خلدون الّذي أستطيع ومن خلال قراءة أدبية لمقدمته أن أقف على مناصرته للّفظ ومهاجمته لوحدة القصيدة وتعويله على كتب نقدية سطحية وذلك لا ينسجم مع أصول نقده التاريخي الذي هدّم من خلاله الرؤية السلفية التي تتمسك بالروايات دون تمحيص(34).

أما لدى عبد القاهر تراني أقف تجاه نظرة شاملة متكاملة ومنسجمة فهو حين يرجع المزية للنظم لا للّفظ يستند، مدعما ذلك الرأي، إلى العلوم والمعارف التي تشكل في حصيلتها ثقافة الناقد حينذاك فينفي أولوية اللّفظ في مباحث الفصاحة والبلاغة والنقد كلها..فالفصاحة يرى أنها تكون في المعنى أي أن المزية التي من أجلها استحق اللّفظ الوصف بأنه فصيح عائدة في الحقيقة إلى معناه ودليله على ذلك تفاوت فصاحة الكلمة من موضع لآخر ومن شاعر لآخر.. والأمر كذلك في مباحث البلاغة جميعا سواء ما اتصل منها بالبيان أو البديع فالإستعارة عنده ليست نقل إسم شيء إلى شيئ ولكنها <<ادّعاء معنى الإسم للشيء>>(35) وبذلك يخالف علماء النقد والبلاغة كابن سنان الخفاجي وصاحب "الوساطة"، وأبو هلال العسكري وسواهم..

أما في المجاز فهو ينكر أولا ما طرحه سابقوه من أن المجاز إزالة اللّفظ عن موضعه واستعماله في غير ما وضع له(36) بل إنه التجوز في معنى اللّفظ وحسب، لأنك إن تحققت في لفظة "أسد" التي يراد بها الشجاع تجد أنها استعملت على القطع والبت في غير ما وضعت لها..ذاك أنه لم يجعل في معنى "شجاع" على الإطلاق ولكن جعل الرجل شجاعته أسدا فالمجاز حاصل في أنك <<ادّعيت للرجل أنه في معنى الأسد وأنه كأنه هو في قوّة قلبه>>(37).

والكناية التي يفهمها علماء البلاغة علاقة بين عبارة وأخرى في ظاهر اللّفظ أجد عبد القاهر يلاحق مفهومها بنظرته الجديدة مقررا أن <<محصولَ أمرها أنّها إثباتٌ لمعنًى أنت تعرفه من طريق المعقول دون طريق اللّفظ>>(38).

ويمثل بقولهم "كثير رماد القدر" كناية عن كثرة الضيافة التي من لوازمها إيقاد النار لغرض طبخ الطعام للضيوف وما تتركه من رماد فأنت لا تعرف ذلك من اللّفظ ولكنك تعرفه برجوعك إلى نفسك(39) وتأمل النظم في تلك العبارة وما يستدعيه من المعاني.

وإذا كان البديع فرعا مخصصا في البلاغة لإدراك العلاقة بين لفظة وأخرى من الخارج، فإن عبد القاهر يأبى إلاّ أن يشمله بمنهجه إذ لا بد في التجنيس المستحسن في رأيه أن يقع موقع المعنى اللّفظتين من العقل موقعا حميدا(40) ومن ثمّ، فإن الإسفاف في استخدام المحسنات البديعية يقابل بالنقد والرفض من قبله فذلك السجع المتكلف والتجنيس المبتذل لا يزيد على أسماعك حروفا مكررة لا تجد لها فائدة(41).

وكحصيلة، فإن النقد نفسه سيكون وفق النظم..وما استحسان اللّفظ إلا تابع للمعنى المراد توصيله وهذا الأمر منوط بإعمال الفكر وإرهاف الذوق.

وللذوق جانب مهم في منهج عبد القاهر فهو يصرح أنك لا تقيم الشعر في نفس مَن لا ذوق له ممثلا لذلك بالتكرار الذي يوجب اللطف في بعض المواضع مستشهدا بقول النابغة :

نفسُ عصام سوّدت عصامَا



v


وعلّمتهُ الكرَّ والإقدامَا(42)

إذ لا يخفى على من له ذوق حسن، يقول عبد القاهر، <<أن له موقعا في النفس لا يكون إذا قيل : نفس عصام سودته، شيء منه البتة>>(43).

لقد حاول بعض دارسي عبد القاهر أن يستنتجوا من مهاجمته لمناصري المعنى على اللّفظ مطلقا ما يمكن أن يلغي كثيرا من أسس التفوق والتفرد اللّذين تريد هذه الدراسة اثباتهما لمنهجه النقدي المتطور، لكنني أرى خلاف ذلك أن ما ورد في كتاباته من نعي على مناصري المعنى مطلقا إنما يضيف كثيرا إلى احترامي وإكباري لمنهج الرجل فهو لا يختار بسهولة الجانب الآخر من القضية بل يطرح عبر "نظرية النظم" وجوانبها الجمالية بديلا متكاملا للنظرات المطروحة في عصره.

إلا أنني أسجل بعض الملاحظات هنا وهناك، كانتقاده لغموض شعر أبي تمام مثلا، ميلا إلى مجاملة رأي نقدي عام شكّل في عصر عبد القاهر قوة كبيرة هي نفسها التي لم تدع لمنهجه المتطور هذا أن يأخذ مداه الأوسع فيطبق على الشعر العربي أو يدخل باب المسلمات الموروثة ومن ثم حدّت من فاعليته وانتشاره.

ومثل ذلك ما ألاحظه من حياد والتماس للعذر المفتعل نجده حين يتعرض الناقد لمسألة القديم والجديد التي لم يحسم فيها رأياً وأكسبها مرونة حين جعلها قابلة للتفاوت(44) بينما كان أشد قسوة على زملائه النقاد فذكر بشجاعة وجرأة سبب جمودهم وتقليدهم(45) ونبّه إلى سهو بعضهم(46) وخطّأ تعاريفهم البلاغية(47).

ولا أحسبني أخيرا قد وفيت عبد القاهر العالم الناقد بعض حقه غير أنني أعدّ مساهمتي هذه محاولة في إضاءة جوانب متقدمة من تراثنا آن لنا أن نعيرها الاهتمام ضمن التوجه الثقافي الجديد لإغناء الحاضر بروافد الماضي وإزالة الشوائب التي لحقت الموروث النقديّ والبلاغي عبر عصور طويلة.
الإحالات :

(1) أو سنة 474هـ (انظر : عبد القاهر الجرجاني : كتاب أسرار البلاغة، قرأه وعلّق عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة ودار المدني بجدة، ط1، 1991، ص1.

- كتاب دلائل الإعجاز، قرأه وعلّق عليه محمود محمد شاكر، مطبعة المدني بالقاهرة ودار المدني بجدة، ط3 1992، ص1).

(2) إن العناية بكل حديث، جديد، في حقيقتها عناية بالقديم، ولذا فرصد ظواهر الحداثة لا يمكن تحديده بدقة إلاّ إذا كان هناك تصور صحيح للقديم، ورصد لظواهره، وتحديد لخطوطه النظرية والتطبيقية، وهو ما اصطلح على تسميته "بإحياء التراث". (انظر : د.محمد عبد المطلب : قضايا الحداثة عند عبد القاهر الجرجاني، الشركة المصرية العالمية للنشر لونجمان، 1995، ط1، ص1.

(3) دلائل الإعجاز..، ص3.

(4) أسرار البلاغة..، ص132.

(5) القاضي عبد العزيز الجرجاني : الواسطة بين المتنبي وخصومه، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم وعلي محمد البجاوي، مطبعة عيسى الحلبي : القاهرة، 1966، ص19.

(6) هوراس : فن الشعر، ترجمة د.لويس عوض، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر القاهرة، 1970، ص108.

(7) دلائل الإعجاز..، ص9.

(8) انظر: - د.محمد مندور : النقد المنهجي عند العرب ومنهج البحث في الأدب واللّغة، مترجم عن الأستاذين لانسون وماييه، دار نهضة مصر للطبع والنشر الفجالة ص ص 32-34، وص ص 37، 38.

- د.محمد غنيمي هلال، النقد الأدبي الحديث، دار العودة، بيروت، ط1، 1982، ص293.

(9) انظر : حازم القرطاجني : منهاج البلغاء وسراج الأدباء، تحقيق : محمد الحبيب بن خوجة، دار الكتب الشرقية : تونس، 1966، ص 119.

(10) انظر : ابن سينا : الشعر، تحقيق عبد الرحمن بدوي، الدار المصرية للتأليف،

1966، ص ص 37، 38.

- ابن رشد : تلخيص كتاب أرسطوطاليس في الشعر، تحقيق محمد سليم سالم، 1971، ص75.

- الفارابي : كتاب الحروف، تحقيق محسن مهدي، دار المشرق للنشر : بيروت، 1969، ص 141.

(11) قدامة بن جعفر : نقد الشعر، تحقيق كمال مصطفى، مطبعة الخانجي القاهرة، ط3، 1978، ص 130.

(12) ابن وهب : البرهان في وجوه البيان، تحقيق حفني محمد شرف، مكتبة الشباب : القاهرة، 1969، ص 147.

(13) قضايا الحداثة..، ص 90.

(14) الجاحظ (أبو عثمان عمر وبن بحر) : الحيوان، ج2، تحقيق وشرح عبد السلام هارون، دار الكتاب العربي : بيروت، ط3، 1969، ص 131.

(15) انظر : دلائل الإعجاز..، ص 407، و ص 483.

(16) نفسه، ص 417 –

(17) نفسه، ص 488.

(18) انظر : أسرار البلاغة..، ص 8، ودلائل الإعجاز..، ص 417.

(19) نفسه، ص 267.

(20) على أن معظم من يعرض "لنظرية النظم" من الدارسين، يعرض لها على النحو الموسّع الذي غطّى مساحة كتابي عبد القاهر "دلائل الإعجاز" و "أسرار البلاغة"، مع أن التأمل في العرض السابق يدل على أن إرادة الرجل التأليفية كانت منوطة بقضية الإعجاز، ولولاها لربّما وجّهه طاقته الفاعلة إلى منطقة النّظم الشّعري، التي جعل من مجالها منطقة حركته الرئيسة، ثم تحرّك منها إلى منطقة النشر، ثم من النشر إلى الصياغة القرآنية. (انظر : قضايا الحداثة..، ص 91).

الهوامش من (21 إلى 33) من "دلائل الإعجاز" والصفحات على التوالي هي : 370، 47 و48، 95، 349، 385، 108، 85، 118، 8، 676، 442، 418، 418.

(34) للمزيد من التفاصيل حول هذه المسألة، ينظر على سبيل المثال المراجع التالية:

- د.محمد طاهر درويش : في النقد الأدبي عند العرب إلى نهاية القرن الثالث الهجري، دار المعارف المصرية، 1979، ص ص 199، 200.

- د.طه حسين : حديث الأربعاء، ج2، دار المعارف : مصر، ط12، ص 65.

- د.يوسف نور عوض : الرؤية الحضارية والنقدية في أدب طه حسين، دار القلم : بيروت، د.ت.، د.ط.، ص ص 10-14.

الهوامش من (35 إلى 43) من دلائل الإعجاز والصفحات على التوالي هي: 437، 67 و368، 367، 431، 431، 456، 457، 557، 557.

(44) في ذلك يقول <<..إما لأن متأخرا قصر عن متقدم، وإما لأن هديَ متأخر لشيء لم يهتد إليه المتقدم>>. (دلائل الإعجاز..، ص 504).

(45) في عدّة مواضع من "دلائل الإعجاز" ينبّه الشيخ إلى آفة التقليد وترك النظر، فالمقلدون آثروا ما عندهم <<ظنا منهم أن الرأي لم يشع ولم يتّسع ولم يروه خلف عن سلف وآخر عن أول إلا لأن له أصلا صحيحا وأنه أخذ من معدن صدق>> (نفسه، ص 338).

(46 و 47) نبّه الشيخ إلى سهو الآمدي صاحب "الموازنة بين الطائيين" في فهم بيت لأبي تمّام، (انظر : دلائل الإعجاز..، ص 553).

كما ردّ آراء القاضي عبد العزيز الجرجاني وغيره، خاصة في تعريف الإستعـارة (نفســه، ص434).




* د. شعيب مقنونيف
جامعة تلمسان ( الجزائر )

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى