محمد عبدالكريم الزيود - في انتظار عودة بهيجة.. قصة قصيرة

كفراشة تسرح بين مروج القرية الذهبية، تتنقل بين الأزهار المشرئبة وتحلق بعيدا حيث الفضاءات الخضراء ، تنطلق بفرح سرمدي كحصان جامح بري تمرد على الترويض وباحثا عن الحرية والانعتاق، بهيجة تأسر الناظر إلى عينيها الواسعتين كسماء القرية الصافية …
لم تكن بهيجة كأي طفلة من أطفال القرية التي فاضت بهم الأزقة والحواري، هذا ما أجمع عليه الناس، ليس لأنها الوحيدة والمدللة لأهلها… ربما لذاك التوهج الذي يسكن عينيها …
قيل أنهم أسموها بهيجة لأنها تحمل البهجة والفرح حيث حلت…
قالت أمي : لم تنم القرية سبع ليال من الفرح عندما قدمت بهيجة للدنيا بعد طول انتظار واقتراب خريف العمر سريعا .. ارتفعت حناجر الرجال بالغناء … وزغردت نسوة القرية وعلى صوت الرصاص … التهم الأطفال أصابع الحلوى وغطى الفرح المساحات الرتيبة في وجه القرية الحزين كموسم من مواسم الحصاد الدافئة.
شيء من الحنين يشدني لبهيجة دون فتيات القرية من أترابها… ومع ازدحام السنين التعبة كبرنا معا … تجمعنا ساحات اللعب ,,, بهيجة فتاة صغيرة لكنها تخالط الصبية وترغمهم على ملاطفتها وقبولها معهم دون ممانعة … أي قوة تخفي بهيجة حتى تمتلك قلوب الرجال والصبية…ذاك هو البريق الدافئ في عينيها الذي تسرب إليّ وحدي أنا …
عندما سقطت بهيجة من فوق الشجرة وهي تلعب ، لم تنم القرية حتى اطمأن الجميع عليها ..ليلتها قالت أمي : كان النوم لا يبارح القرية حتى يذهب إلى بهيجة أولا …
تداعت الأيام وخرجنا من المدرسة نحو المدينة قاصدين دروب العلم .. ظلت بهيجة تسكن دفاتري .. مثلما لم تخرج من بيت أبيها لأنها: كبرت وتنتظر النصيب…!
أيام الفراق تتسع والشوق يمد يديه إليها وأعود ثانية إلى قريتنا … أبحث عن بهيجة وشعرها كالليل طال سواده… والوجه قمري زينته عينان واسعتان وشفتان مبتلتان… الجسم ممتلىء واكتملت استدارة النهدين فزعا من الخصر الممشوق … أصبحت بهيجة قبلة العشاق دون بقية نساء القرية …
قالت أمي عندما ذهبنا لزيارة بهيجة : ما شاءالله بهيجة صارت عروس … الله يحفظها من العين
وهجم الخجل عليها وعلي حد الذوبان
ما زال الوهج يشتعل في صدري كلما لمحت طيف بهيجة.
فاجأتها يوما بالسؤال : ألا يكفينا نظرات العتاب الخائفة … أضاءت سماء عينيها وفر الدم إلى وجهها ثم أطلقت ضحكة ملأت جسدي نشوة ثم انصهرنا في العناق.
تركض السنوات كحبات السبحة… وتزداد بهيجة غواية وصبابة …تتأجج نيران الغيرة بين فتيات القرية…
تقول أمي: النسوة يتهامسن ..بهيجة خاطفة قلوب العاشقين… حتى العجائز تسرب إليهن نار الغيرة خشية على أزواجهن من سحر بهيجة .
كانت بهيجة بهجة القرية حتى جاء ذلك اليوم الحزيراني وقد استعد الجميع للحصاد…استيقظ الناس على صوت البكاء …
قالوا : بهيجة طريحة الفراش
قالوا: بهيجة ضربتها عين
قالت النساء : بهيجة عاشقة…!!
انطفأ الفرح في وجه القرية ، اكتست مروج القرية حلة الحزن والليل يلف الأمكنة عتمة وبهيجة تزداد ذبولا…
قال حكيم القرية عندما حضر متأخرا : أنه طلع شيطاني يسكن جسد بهيجة ويتسع بمخالبه كل يوم ويلتهمها رويدا رويدا، ثم نظر في الأرض وقال : لا شفاء إلا باستئصال الورم الخبيث وغاب الجميع في البكاء…!!
تقدم الرجال والنساء والشباب والأطفال وقالوا : كلنا فداء بهيجة… لم تنم القرية منذ أن مرضت..لم تعد ابتسامتها تتفجر على الوجوه الحزينة.. الكل ينتظر الدواء ولكن لا أمل عندي وأنا أناظر جسد بهيجة يسير نحو الذبول… حتى سمعنا ذاك الصوت ذات صباح مشؤوم خنق كل مساحات الأمل :
ماتت بهيجة … ماتت بهيجة
حملها الرجال وغيبوا الجسد الغض في التراب الندي عن الزيتونة الغربية، خرجت القرية برجالها ونسائها وطيورها يشيعون بهيجة بالدمع وتوشحت القرية بالسواد وهطلت دموع الرجال وانتحبت النساء أياما وشهورا… تقول أمي: دموع الرجال لم تهطل إلا للغوالي.
أقسمت أمي ذات صباح أنها رأت طيف بهيجة تضيء تراب القبر عند الزيتونة الغربية … وأقسم الرجال أنهم سمعوا غناءها الحزين ينبعث كضوء بعيد… ومنذ أن رحلت بهيجة جفت عين الماء في القرية.. قل محصول القمح ، قل الثمر واللبن .. هجر الناس القرية …
قالوا: القرية حزينة لرحيل بهيجة
قالت أمي: بهيجة ماتت غاضبة
قال الرجال : بهيجة تخرج للغناء الحزين
قلت : بهيجة تنتظر الدواء للعودة ثانية إلى الحياة!!!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى