محمد جاد - زيارات قصيرة.. قصة قصيرة

تجذبني بشدة العلاقة الحميمة بين امرأة جميلة وكلب أليف.

انتبهت طبيبتي النفسية لعبارتي الأخيرة، عبَرت عن ذلك بنصف ابتسامة كسرت رتابة ملامحها، كانت تجلس كعادتها عاقدة الكفين، تضع ساق فوق ساق في مواجهتي، وضوء الأباجورة الأصفر مسلط على النصف الأعلى من وجهها .. كانت عينيها جميلتين وفيهما سذاجة محببة.

هذه العلاقة تبدأ بطوق في الرقبة .. كم هي بداية مؤلمة .. لكن الكلب ينسى أو يتناسى تلك الحقيقة، ويبدأ في التعبير عن وجوده وهو يسير بجوار السيدة .. ينبح في المارة، ينظر بارتياب لأي غريب يحادثها، يرحب بأصدقائها ويترك بصماته ولعابه فوق ملابسهم .. وكأنه يُذكرهم بأن هذه السيدة ليست وحيدة .. ولكن في حياتها كلب.

لمحت بريقا خافتا في أعين الطبيبة .. أظنه بريق إعجاب .. كانت تحب طريقتي في سرد الأشياء وقالت لي مرة أنها تُصنفني ضمن الحالات ” المسلية “.

أكملت : بل إن الكلب، في أوقات كثيرة ، يحاول أن يُظهر أمام الجميع أنه مهيمن على العلاقة .. عندما يحاول عبثا أن يقف على ساقين بدلا من أربع، فيبدو بشعره الأسود الغزير كائنا قويا يثير هيبة ما حول تلك السيدة، ثم يلعقها وينبح .. فتضحك السيدة في شيء من النرجسية، وترد على مداعباته بتخليل شعره وتدليله باسمه المفضل.

قالت باندهاش : كل هذا لاحظته في علاقة السيدة بالكلب ؟ عفوا أنت لم تخبرني عن أي سيدة تتحدث ؟

لم ألتفت لسؤالها، فتذكرت أنني يصعب مقاطعتي وأنا مسترسل في الحديث .. ابتسمت والتزمت الصمت مجددا.

أكملت حديثي : وبالرغم من ذلك كله .. تأتي مواقف بسيطة، أو لنقل تافهة، لتُذكر الكلب بأنه مجرد “حيوان أليف” .

عندما تتركه السيدة مثلا مقيد على باب السوبر ماركت وتدخل للتسوق، أو عندما تربطه في مائدة المقهى وتنهمك في القراءة .. وقتها يشعر أنها تتعامل مع نباحه على أنه مجرد صوت مُنبه يحميها من النعاس .. وحتى إذا مررت أصابعها في فروته وهي تمسك بالكتاب في اليد الأخرى، تكون الحركة آلية، بدون مشاعر.. باختصار يدرك أنه مجرد أداة للتسلية.

بدت الطبيبة حزينة بعض الشيء على نهاية قصة الكلب كما نسجتها من خيالي، ثم تجاوزت انفعالاتها الشخصية وعادت للحالة المهنية التي تلتزم فيها الحديث بنبرة موضوعية لا انفعال فيها : لم أفهم ما علاقة هذه القصة بالحديث الذي بدأناه في الجلسة عن تجربة انفصالك ؟

طرق مساعد الطبيبة طرقة خفيفة كي يذكرها بأن وقت الجلسة انتهى، قلت : لاشيء .. فقط رغبت في أن أحكي لكِ عنه .

……………………………………………….

هذه المرة جئت متوترا بعض الشيء ففضلت الطبيبة أن يبدأ حديثنا حول الأشياء التي توترني.

قلت : كل شيء في هذه المدينة يثير فيَ مزيج من القلق والغضب، الشاب القادم مندفعا من الخلف بالموتوسكل في حركات حلزونية، ومقالب القمامة التي تتقافز الكلاب الضالة فوقها في بهجة مقززة، وذلك الذي يكنس واجهة محله فيثير غباره على العابرين بجواره، وعامل المقهى الذي يلف “الماشة” بحركة بهلوانية فتتطاير الشظيات وتصل واحدة منهم، بمهارة، دائما إلى عيني.

لا أدري حقا إن كانت المشكلة في طباع الناس أم في أننا نعيش في شوارع ضيقة تجعلك إذا عطست مثلا ستضطر، رغما عنك، لأن تبصق في فم المار بجوارك.

قالت الطبيبة وهي تلتقط أنفاسها من حديثي المسترسل وعلى شفتيها نصف ابتسامة ساخرة : أنت تبالغ كعادتك .. ولا تتوقف عن التفكير وربط كل شيء بالسياسة .. كلما تداعت على رأسك مثل هذه الأفكار حاول أن تتذكر شيء ما يعجبك في هذه المدينة ويربطك بها.

أكملت وقد سمحت لي بالتدخين فتحدثت في حالة من الاسترخاء : يعجبني مثلا .. أحد المقاهي التي أمر عليها كل يوم في طريقي للعمل، ربما يلفت انتباهي لأنه لايزال متشبثا بطرازه القديم ولم يتحول إلى كافيه، يقع على ناصية حارة ضيقة عارضا للمارة صورة الجنرال وبجواره أسد يزأر، بينما يدور الذباب في ساعة صباحية مشبعة بالرطوبة وتنبعث من الفحم المنطفيء رائحة السهرة الماضية.

ميكرفونات الزوايا المجاورة تمتد بأسلاكها الملتوية حتى قرابة المقهى، تبدو مصوبة فوق رؤوس الجالسين ( ثم بصوت ساخر) وكأنها فوهات بنادق الجنرال، والجالسون صباحا عادة ما يكونوا قلة، غالبا لا ألمح إلا الشاب الذي يرتدي فانلة نادي أوروبي، دائما ما يتابع بنظره بنات الجامعة وهن يسرن متجاورات إلى محطة المترو كل صباح . .يتابعهن بفم مفتوح من الإعجاب ثم يبصق في احتقار .. لا أدري أي شيء يحتقر.

– جنرال وسياسة وفلسفة .. توقف عن القلق

– كأنك تقولين لي توقف عن التنفس

– إذن .. مضطرة أن أوصيك بمضادات الاكتئاب

– أرجوكِ أنا أكره الكيمياء، ( ثم بصوت مداعب ) أنا كنت أدبي في ثانوي.

……………………………………………..

بدأت حديثي هذه المرة بطريقة درامية تعلمتها في فرقة التمثيل بالجامعة :

أطلت من وراء الباب ونظرت لي كأنها تعرفني، تأملت للحظات في ملامحها الخشنة .. تلك الأعين الملطخة بكل ألوان الفقر كانت تنظر لي نظرة مألوفة .. ثم تذكرت .. اللعنة على الكحول ولياليه العابثة.


ظهر الحماس الطفولي في عيني الطبيبة وهي ترفع ساق فوق ساق وترسم ابتسامة ساذجة متأهبة لسماع حدوتة مريضها المُسلي.


أكملت :

قلت لها و أنا مثقل بكل ما في أيامي الأخيرة من تعاسة ” مفيش في جيبي غير خمسين جنيه “. كان قد مر شهرين على استقالتي من العمل .. لم أعد أحتمل رؤية صور الجنرال في الميادين العامة .. وقد عرضت سيارتي للبيع حتى أجد عملا آخر.

لكنها دفعتني برقة وهي تقتحم المنزل بابتسامة دافئة وقالت: ” الحساب يجمع “.

وأول ما دخلت اتجهت إلى المطبخ وسألتني وهي تفتش في الثلاجة ” اتغديت ؟ ”

” لا .. ومفيش أكل في التلاجة للأسف “، فاستدارت وهي تُخرج بواقي الإفطار بابتهاج شديد ” فول وطعمية وجبنة .. الخير كتير أهوه “.

جلست أراقبها من زواية باب المطبخ المفتوح وأنا أدخن سيجارة على مقعدي المفضل في غرفة المعيشة .. وحسدتها على اشتهائها لتلك الوجبة البسيطة، فقد ضمرت معدتي بشدة منذ أن تملكني الاكتئاب.

أه من هذا الجسد القوي، عندما رأيتها أول مرة في السوق بدت لي كفاكهة صابحة تنتظر من يأكلها، الطول الفارع والقوام المنساب داخل جلبابها القذر، كانت تتجول ولا تشتري شيئا، وفهمت من نظرات الباعة لها أنها كانت تبحث عن أي شيء في مقابل المال.

أنا أيضا كنت أتجول في السوق بلا هدف، سألتها إن كان ممكنا أن تمر علي لتنظيف البيت، فقالت بحماس ” حتلاقيني في ديلك “.

وقتها كان قد مر على طلاقي عامين تقريبا، واعتدت على فعل بعض الحماقات عندما يتملكني اليأس من الحياة. بعد أن انتهت من تلميع كل شيء وقفت أمامي لتعرض أفضل ما فيها، ثم التهمتني بقبلات خشنة.

مقتت بشدة ما فعلته في تلك الليلة، فهي امرأة قوية وأنا أكره أن أُقاد في أي علاقة، لكن سعادتها بالمبلغ المتواضع الذي منحتها إياه أزالت عني شعوري الكريه، وتملكني شيء من الرضا عن نفسي.

خرجت من المطبخ واقتربت لتأخذ سيجارة من العلبة الملقاة بجواري، وقفت تدخن وهي تنظر من نافذة غرفة المعيشة ثم سألتني ” هي الدنيا اسودت كدة ليه ؟ مفيش فلوس خالص“.

نظرت لها بحيرة طفل لا يدرك شيء عن عالمه الكبير، فوجدتها تقترب أكثر وتحيطني بذراعيها القويين، ارتبكت قليلا .. لم أرد أن أكرر تجربتي السابقة، لكنها فاجئتني هذه المرة وقد غرقت برأسها في صدري وهي تتمسح وتهمهم .. ثم تجشأت ونامت كطفل أكل وجبته بعد جوع طويل.

عادت الطبيبة برأسها للوراء وحملقت فيً للحظات ثم باغتتني بسؤالها :

وهل نجحت في بيع السيارة أم تحتاج إلى سلفة ؟

…………………………………………


هذه المرة كنت في واحدة من أسوء حالاتي .. لاحظت الطبيبة ذلك من مظهر لحيتي الطويلة والعلامات الظاهرة تحت عيناي سألتني :

– تأخرت كثيرا .. هل كنت في أزمة مالية ؟

– لا .. استطعت أن أدبر مبلغا .. لازال لدي أشياء قابلة للبيع.

– ربما تحتاج للعودة للعمل .. ليس بسبب المال فقط ولكنه احتياج اجتماعي.

– أجلس في فراشي لساعة أو اثنين في كل صباح، الشمس تغزو غرفتي فيفور جسدي بالدفء تحت غطائي الثقيل، ولكنني لا أقدر على الحركة .. قبل أن تسألينني عن ما يكبلني في الفراش، اسمحي لي أن اسألك بداية عن الدوافع المنطقية من وراء النهوض، مالذي يعنيه مرور الزمن على جثة هامدة ! هل نسيتِ أن الشمس تشرق أيضا فوق القبور؟ والعصافير تغرد على أطراف الشواهد، والنبتات الصغيرة تخرج من تحت التراب بألوانها الخضراء المبهجة.

أعطينى مبررا منطقيا لكي أحيا على أرض ليس فيها شبرا واحدا يتسع لأحلامي، هل أحب أسوار سجني لأنها قطعة من أرض الوطن؟ أعطيني يقينا في أي شيء، نعم أنا بلا يقين.. عندما كنت ألقي حجرا في مظاهرة كنت أشعر أنني جندي في معركة كبرى .. الآن أنا جندي بلا معركة، هذا أمر يفوق في سوئه حال الجندي المهزوم.. أكواب الشتاء الباردة هذا الصباح كانت تحمل بصماتي في الليلة الماضية .. وأنا أبحث عن الدفء بلا جدوى.

– أدرك وقع الهزيمة الثقيلة على كل الثوريين، ولا أملك إلا أن أطلب منك أن تتوقف قليلا عن التفكير.

– الانتصار كان أكثر قسوة من الهزيمة .. كان الأمر أشبه بالمقامرة .. يحالفك الحظ في المرة الأولى .. ولا تتوقف عن تكرار المحاولة حتى تخسر كل مالديك.


………………………………………..


قالت .. (هذه هي لحظة الهبوط إلى أرض الواقع .. فلنجعله هبوطا آمنا بقدر المستطاع) .. كان حديث الطبيبة متقطعا هذه المرة بسبب الأنفلونزا، تشتت تركيزي قليلا بين حركة يدها العفوية للبحث عن منديل في الحقيبة لتدارك الأنف السائل ونبرة صوتها الواثق وهي تسرد تحليلها النفسي في نهاية الجلسة ( طيلة السنوات الماضية كنت تكافح فيها من أجل عالم مثالي، هذه المعركة صنعت الإنسان الذي أراه أمامي الآن بكل إيجابياته وسلبياته، أمامك معركة أخرى هي أن تتعايش مع الواقع .. واقع لا يتصف بالمثالية المرسومة في خيالك، ولكن لا تنكر أن فيه أشياء جديرة بأن تُحب).

استسلمت قليلا لكلماتها وأنا استرجع صورا من الماضي، سنوات شبابي على سلالم الاحتجاج في النقابة وقصص الحب غير المكتملة في الجامعة ومعاركي الصغيرة على الأفكار والمذاهب في مقاهي وسط البلد.

ثم بدأت أقاوم إحساسي بهيمنة أحكامها المطلقة، فأخذت أُجادلها : ليس رفضا للواقع ولكنها رغبة في الانسحاب من عالم مهزوم، أنا أقاوم المحيطين بي من كل جانب .. هؤلاء الذين تدور حياتهم بين أكل وعمل ونوم، هذه حياة على طريق الفناء.. موت تدريجي .. حتى تعلقي بذكرياتي الماضية الذي تنتقديه في كل مرة لا يعد هروبا، لكنه تشبثا بآخر شيء حي في هذا البلد الذي يكاد يختنق من ثقل الهزيمة .

باغتتني بابتسامتها العريضة التي يبرق من تحتها صف أسنان منسق، تستخدمها دائما لتخفيف نوبات التوتر العارضة في مجادلتنا : أنا لا أحاول أن أقنعك أننا نعيش في جنة، نحن في بلد متخلف وحتى في المجتمعات المتقدمة ستُحاصرك نفس الوجوه التقليدية .. لا أطالبك بتغيير العالم أو الخضوع لشروطه .. أنت تحتاج فقط لأن تحبه.

– بالمناسبة (بدا علي شيء من الخجل) طرأ جديد على حياتي خلال الأسابيع التي غبت فيها عنك.

– ( ابتسمت هذه المرة بحماس قبل أن تجفف أنفها السائل بعفوية ) لا خلاص إلا في ذلك .. احكي لي فأنا أتوق لسماعك.

– لا تعدنا هذه الدنيا بما هو أجمل من بدايات الحب.


محمد جاد

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى