حمد صالح - الرّســالة

منذ أكثر من عشرين عاماً وحمدان المطر يعمل ساعياً للبريد في محافظة نينوى, ولم يكن يوماً قد أهمل عمله أو تضجّر منه, كان يعمل في توزيع الرسائل حتى بعد انتهاء الدوام الرسمي, وفي بعض الأحيان حتى ساعة متأخرة من الليل. ونتيجة خبرة تمتد إلى عشرين عاماً مضت اكتسبها من عملهُ المقرب إلى نفسه كموزع للرسائل تعرف على الكثيرين من سكان المدينة وموظفي الدوائر وطلاب المدارس إلى درجة التي ما أن يرى موظفاً حتى يخطر بباله في أية دائرة يعمل أو طالباً حتى يتذكر مدرستهُ وموقعها أو حتى مجرد رجل عابر حتى يتذكر مواصفات بيته وربما شكل زوجتهُ وتسلسل أعمار أبنائه. أصبح حمدان المطر نتيجة هذه الخبرة الطيبة
موسوعة معارف ضخمة ومتشعبة في جزيئات حياة الآخرين وخصوصياتهم المختلفة وملامح بيوتهم والطرق التي تؤدي إلى دوائرهم
أو مدارسهم, ولم يجد ذات يوم صعوبة في إيصال أية رسالة أو برقية أو طرد إلى صاحبه المقصود. ما أن يستلم مجموعة الرسائل وكومة الطرود من موظفة البريد حتى يتفحصها باهتمام ودراية بعد أن يثبت نظارته الطبيّة على عينيه الجاحظتين ويمضي في قراءة العناوين المختلفة الخطوط و الإشارات و يتوقف طويلاً عند كلمة (نشكر موزع البريد)التي يقرأها بتركيز و لأكثر من مرة. و حين تستعصي عليه كلمة أو يمحى حرف أو تضيع جملة من العنوان المثبت على الغلاف نتيجة السهو من قبل المرسل أو لكثرة التداول بين الأيدي حتى يدرك الجزء المفقود من سياق العنوان, ولم يخطئ ذات يوم في استنتاجاته أو توقعاته للكلمة الغامضة أو الحرف الممحي أو الجملة الضائعة من العنوان. بل وصلته ذات يوم رسالة لم يكتب على غلافها سوى أسم محافظة نينوى و أسم الشخص المرسلة أليه الرسالة فاستطاع في غضون أيام قلائل من العثور على الشخص المقصود وسلمهُ رسالتهُ. كان يخامره أحساس بأن واجبه كموزع للرسائل في غاية الأهمية. بل تترتب على عاتقه مسؤوليات كبيرة ليس من الأمانة و الخلق الرفيع التهاون فيها. فهذه الرسائل تحمل في طيّاتها الكثير من الأمور المهمة والصعبة, وأحياناً تكون هذه الأمور مصيريّة, وعلى هذا الأساس لا يمكن تأجيلها أو التهاون في سرعة إيصالها قدر الإمكان. أمّا إهمالها فجريمة نكراء لا تُغتفر.يجد حمدان المطر متعة لا تُضاهيها متعة حين ينظر إلى جعبته النسيجيّة وقد فرغت من الرسائل لقد أدّى الأمانة إلى أصحابها و استحق بذلك أن يجلس هادئاً مرتاح البال في مقهى المحلة أو في الجامع أو في البيت أو يشارك في مناطق نائية ومتفرقة من المدينة في تشييع بعض الجنازات أو حضور حفلات الأفراح المختلفة كالزواج والختان و الدبكات. يفكر حمدان المطر بأن صلاة الجماعة مباركة فإن لم تكن في الجامع فمن المستحسن أن تكون مع بقية المصلين في أحد بيوت العزاء, وعلى ضوء هذا التصور كان يبحث عن صلاة الجماعة أينما تكون. وبرغم كل هذا وفي شتى الأوضاع التي بمرّ بها لا يخلو تفكيره مطلقاً من أهمية الرسائل وضرورتها في حياة الناس والمجتمعات. ناس في أقضى أطراف الأرض يبعثون برسائلهم إلى ناس آخرين لشتى الأمور الحياتية فتصل عبر مراحل عديدة ومختلفة إلى أن تقع بين يديه, حينما تصبح مسؤوليته كبيرة وفي غاية الأهمية تلح عليه بضرورة إيصالها إلى أصحابها المرسلة إليهم بأي شكل من الأشكال. وهو منذ عشرين عاماً لم يجد صعوبة في إيصال أية رسالة إلى صاحبها كما حدث لهُ الآن, فهذه الرسالة المدعوكة والمكتوب عنوانها بقلم الرصاص وبخط في غاية السوء, بل قد مُحي بعضه نتيجة تداول الأيدي وكثرة التقليب, مما يؤكد قدم هذه الرسالة وطول عمرها قبل أن تصل إليه, ولكنه برغم هذا استطاع أن يترجم بعض الخطوط المتداخلة والمرتبكة إلى جملة مؤداها (الوالد العزيز إبراهيم الخلف المحترم) وكذلك قرأ باعتزاز جملة نشكر موزع البريد وأسم المحافظة, ونتيجة تقصي شخصي دؤوب استطاع أن يصل إلى الشارع المقصود كان قد أرتحل إلى مكان آخر تضاربت الأقوال في تحديد مكانه, ومع هذا أستطاع في الأسبوع التالي من بحثه الدؤوب أن يلتقط إشارات وأوصافاً لا تخلو من أهمية تشير إلى بعض أماكن تواجد إبراهيم الخلف والمحلة الجديدة التي يقطنها, وبرغم إصراره على البحث و الاستفسار من كل مَن يصادفه في الطريق فإنه بالتالي لم يجد جواباً شافياً ومؤكداً يحسم هذا القلق ويؤدي إلى النتيجة التي تعزز مسيرة عشرين عاماً من العمل كموزع للرسائل. وعند هذه النقطة التي أصبحت صعبة التجاوز أصبح الأمر بالنسبة لحمدان المطر ليس أمر رسالة يجب إيصالها إلى صاحبها, إنما أمر طعن في ذاكرته التي صقلت والتي يفترض إنها أصبحت تفهم في أمور الرسائل أكثر مما يفهم الآخرون وإلاّ فما هو اختلاف ساعي البريد عن أي شخص عادي آخر. أين ذهبت تجربة عشرين عاماً من توزيع الرسائل؟ أمن المعقول أن يستعصي عليه العثور في محافظة نينوى التي يعرفها شبراً شبراً ومحلة محلة وشارعاً شارعاً على رجل أسمه إبراهيم الخلف ؟ كانت الشمس طوقاً من الضوء الملتهب معلقاً فوق عمارات المدينة, والجو ساخناً ملتهباً بحرارة ليست اعتيادية, ومع هذا كانت الشوارع مزدحمة بالسيارات, وممرات الأرصفة ومداخل الأزقة الضيّقة مكتظة بالبشر ألمختلفي الأعمار و السحنات, فيما كانت دراجته الهوائية تطوف المدينة من أقصاها إلى أقصاها بسرعة هي الأخرى ليست اعتيادية. وكانت جعبته النسيجيّة لا تضمُّ بداخلها سوى رسالة واحدة مكتوبة بقلم الرصاص معنونة إلى ( الوالد العزيز إبراهيم الخلف المحترم ) سأل نفسه بيأس, في أي الأماكن يتواجد هذا الإنسان المجهول يا ترى؟ وما هو شكله؟ وهل في الرسالة أشياء مهمة وضرورية تستوجب كل هذا التعب؟ منذ شهر تقريباً والرسالة نائمة في الجعبة, وهذا ما لم يحدث لرسالة أخرى في حياة حمدان المطر الوظيفية, ولا يسمح هو بالمقابل بحدوثها مطلقاً, فإذا أصرّت هذه الرسالة على عدم مغادرة الجعبة فالشيء الثابت في ذلك هو عدم كفاءته كموزع للرسائل, وهنا تولد أسئلة كثيرة, منها وأهمها وأكثرها مدعاة للألم والمرارة والأسف, أين ذهبت عشرون عاماً من التجربة والمعاناة؟ يجب أن أجد صاحب الرسالة بالرغم من كل شيء آخر, وإن لم أجده فطلب الإحالة على التقاعد أولى من البقاء في عمل لا أستطيع أن أنجزه على وجهه الأكمل. سأل الكثيرين قبل أن يصل إلى المحلة التي يفترض إن إبراهيم الخلف يسكن فيها. تأمل البيوت والأبواب والشرفات والنوافذ بعين خبيرة مُدققة, وتفحصّ كذلك انحناءات ومداخل الأزقة الآسنة. مسح وجههُ المتفصّد عرقاً بطرف يشماغه وترجل بهدوء لا يخلو من تعب عن دراجته الهوائية وركنها على شجرة سدر ضخمة تقع على طرف الشارع. وحين انحرف في زاوية الشارع الخالي من السابلة شاهد بيتاً من الشَعَر مُثبتاً بحبال غليظة من القنّب مقاماً في فسحة من الأرض ليست مأهولة مرتكزاً على أعمدة خشبية متباعدة, وبداخله حلقات واسعة من الرجال يتأهبون لصلاة العصر. من طابع البيت الظاهري أدرك إنه مأتم فآثر أن يصلي العصر مع بقيّة المصليّن صلاة الجماعة و كذلك يقرأ الفاتحة ويتناول فنجان قهوة ومن ثم يواصل تساؤله عن الشخص المدعو إبراهيم الخلف. توضأ واحتلّ له مكاناً بين صفوف لمصلين, وحين انتهت الصلاة جلس في طرف البيت بانتظار القهوة التي كانت دائرة ومستمعاً إلى أحاديث المجالس المأتمية المألوفة, وكان إلى جانبه رجل في حدود الأربعين, يعتمر عقالاً من المرعز و يشماغاً منقطاً بالأسود والأبيض و بذلة سوداء قاتمة ونظيفة ولكنها تفتقر إلى الكواء, صامت يميل إلى العبوس والتجهم. يسقط باستمرار رتيب خرزات مسبحته الحجرية. ســـألهُ حمدان المطر
- لمن هذا العزاء ؟
التفت الرجل بوقار لا يخلو من استغراب
- شهيد جاؤوا به من الجبهة
دمدم حمدان المطر من بين أسنانه
- الله يرحمه .. ولكن أبن من هذا الشهيد ؟
أبن رجل سكن محلتنا منذ حوالي الشهر أسمه إبراهيم الخلف
رنّت الكلمة بصخب وضجيج في رأس حمدان المطر. تلاصقت حروف الاسم بهدوء قاتل ومضت تتساقط متآلفة مع تساقط خرزات المسبحة الحجرية. كل حرف يسقط يثير زوبعة من الغبار المتوالد في الذهن المعتم. كل حرف رصاصة تخترق جسداً. ضاعت الوجوه وتلاشت الأصوات النداحة في بيت لعزاء. خرزات المسبحة تتساقط بعمق في رأسه كمطارق ثقيلة تدق على وتد من فولاذ. ظل منفرداً يتيه في جلبة عواصف الغبار المتوالد من تساقط جثث الحروف المشوهة. ينأى مثقلاً بأتعاب لا طاقة له على احتمالها. هو الآخر أصبح حرفاً مُغبراً وضاع بين طيات رسالة مدعوكة مكتوبة بقلم الرصاص. تحامل على يديه تأهباً للنهوض وهو يهمس لنفسه بمرارة ويأس
- لم تعد هناك فائدة أن تصل الرسالة الآن أو لا تصل إلى الأبد .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى