كرم الاعرجي - جمر الصدمات

الخطى في هذا الصباح الضبابي، مرتبة، هادئة، ومنشغلة بنقلاتها الأنيقة على بلاط الرصيف الملون، كل حركة تدلني على طريقة لامعة ادخل من خلالها في حواريتي البريئة معها..، لأرسم شكل القادم الذي انتظرته طويلاً، لم أشاهدها في حياتي قط..، إنها كعمري المزمن بالحزن، حديث نقله احد أصدقائي الذين أكن لهم الاحترام واضمر له خيراً، اتجهت بحذر شديد ما كنت معتاداً عليه، نحو الطرف الآخر المحاذي لبوابة (دائرتها) التي لم ادخلها منذ أمد بعيد، شعرت بالارتباك لأنني بحاجة الى من يأخذني إليها كدليل، حاولت أن احصل على ابتسامة طفل مرحة من على كتف أمه وهي ذاهبة نحو الدوام الرسمي ولم أفلح لان الضجيج سرق نظرتي الأخيرة..، جرحتي المارة بالشتائم التي تخصُّ بعضهم، ربما أخذوا يفهمون الحرية المستوردة!! يتخاصمون على أتفه الأشياء بذائقة مرة..

أظن إنني سأكون هزيلاً عندما تنهار أعصابي أمامها من كثرة ما أشاهد هذه الصور الموزعة على رصيف الحزن وشوارع الدم، مناظر تشوه صباحاتي كل يوم، لم أشاهد زنبقة واحدة تبتسم، أو كتفاً يلاصق كتفاً بفرح، إنها لحظات عبوسة فيها من الروائح ما يزكم هذه الرحلة الأنيقة؟ كنت أسيرا للحظة اللقاء، اقتادني تجهمي نحو الباب الذي لا تفارقه نظرات حراسه وبتمحص دقيق لأي شخصية تمر عبره أوقفني الحرس..، بأصابعه الخشنة عام جسدي لم يعثر الا على ابتسامة خلفتها شفتي منذ عام 1977م حينما كان المكان نفسه شارعاً للحب؛ حيث المراسيم الراقية تدفعنا انا وحبيبتي بتقديم الزهور لبعضنا صباحاً.. كانت عذرية المشهد بريئة ومحمية بالحياء، جاملني بشعوره وأدخلني بلطف، أحسست بانفراج سيسلخني من الماضي الأعزب لأبدأ حياتي الجديدة، ترتدي الألوان التي أعشقها، معطفها، وماعصبت به الرأس، وجهها البني المطعّم بحمرة الخجل، عينان واسعتان، وشفتان لبقتان بصمت المعرفة، رمتني ببستان من النسمات، كدت (أخبط) رأسي بحافة باب غرفتها، تعثرت خطايَ قليلاً، وإذا بأحد أصدقائي من الموظفين، طار به الفرح لهذا القدوم المفاجئ، حينها أعلنت ارتباكي وغامرت بالجلوس كي يسكنني الهدوء، لأفتح معها حواراً صريحاً، شربت من حسن الضيافة، شاياً مهيلاً بالتحايا، كنت مهزوماً من البرد نحو الدفء الذي احتضنني حينها، ترمقني بنظرات عميقة، وعندما التفتت، استقرت نظرتي على هيكلها الذي بدا لي قويماً (مدوزنا)، وبعمق الغور في أعماقها انتابني شعور غيبي حول هذه الفاتنة، ابتسمتُ قليلاً حين شاهدني الشاعر وانا أدور في فلكها، بادلني، رنه الجرس، سكب عسل الكلام على المائدة، وخرج مسحوراً بالطيبة ومهموماً بحنان الآخوة، كم كان كبيرآ آنها ..، عاودت بالتفاتتي البطيئة على صاحبة الشأن الأسري ما زالت تصفن بغموض سريرتها، متى تتخلص من القيد المغلق بإحكام على مرايا حريتها.. أكل العمر منها أنوثتها مما جعلها تغرق بأحلام فيها من المجاز ما يطوِ صفحات إحساسها بالحب، تخربش على أوراقها المتناثرة بلغةٍ من الخطوط التي لا تفهمها، مجرد انشغال بلا تبرير، تسوقها عبرة كامنة نحو مرادٍ بعيد من شذى الورد، كشمعة تتوهج وسرعان ما تدهشك بانطفائها لنغور معها في ظلام دامس، هذا الغياب لم يكن مفتعلاً لكنه صدمة زمن مسيج بنظام قبلي عانته وهي متكئة على قامتها المهروسة بكدماته، كلما رفعت رأسها إلى الأعلى، اشعر كأنما شيئاً ما سيحدث، لكنها تنفجر ضحكاً وباستياء فيه ضجر ارتعدت مفاصلي خوفاً من الرفض، لذا عدت بذاكرتي، كنت اشاهدني في المرآة بدقة وأتلمسني، وجهي، قيافة بدني، لم يكن هنالك شيء مقلوب، (الفزة) التي عند الشدق تلمستها وقد يبست، وأيضا حصَّنت نفسي بآيات من الذكر الحكيم تعودت قراءتها، حتى إنني (أصنف الحشو في اللغو) متأنياً باختيار مفرداتي، فجأة صفعتني بلفظة لم افهم بواطنها (قالت سأغادر، سأسافر) ختمت اللحظة بابتسامتي المعتادة وخرجت حاملاً جمر الصدمات.


- عن بيت الموصل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى