تحسين كرمياني - رجل الفئران.. قصة قصيرة

ليس ثمة غبار عليه او غموض ، كان رجلاً يتحلى بهدوء محير وغرابة جذبتني ، مذ جاء وسكن في فندق البلدة ، حاولت ان اكتشف مقصده ومعرفة سر الحزن المخيم على سحنته ، يدخل المقهى اخالسه النظر ، اراه في بحر مصيبة يبحر بخياله ونظراته لاتحط على شيء ، احياناً لا يحتسي شايه ، يدفع ويذهب ، لم الحظه يحاور احداً ، كل الزبائن يتحركون مع عجلة الظروف وتقلبات المناخ، ، عمال وكسبة واصحاب مهن متنقلة ، فلاحون يلتقطون الراحة ، ورهط واحد بلا عمل ، اعرفهم ، اسسوا زاوية لقتل الوقت والتنافس فيما بينهم باحجار الدومينو ، تنمل القرار بداخلي وقررت ان افاجأه مستبعداً من رأسي عواقب ما عزمت عليه ، قلت : لابد انه عرفني وقد درس جيداً طباعي ان كان ملوثاً مثلي بمرض الفضول ، قابلني ببشاشة خلتها مختلقة مع تصاعد خفقان قلبي وهو يسحبني الى الداخل ويجلسني على سريره .
عالج ارتباكي برتبة ودودة على كتفي فمنحته ابتسامة كي اشعر بوديتي .
بادرني بصوت حزين : ـ
ـ منذ فترة . انشد رفيقاً ..
قلت له :
ـ مذ جئت ، رغبت في ذلك .. ولكن ..
ـ بلدتكم جافة ، لا احد يرحب بالغريب ..
ـ البلدة تدور مع الظروف ، حقيقة انهم يخشون الغرباء .
فالوضع العام كما تعرف ..
ـ ثلاثة اشهر وانا اغرق في وحدانيتي ، انك جئت في الوقت المناسب ..
ليتهم يماثلونك المشاعر ..
ـ الناس تحترم الغرباء، لا يتدخلون في شؤونهم، الاّ اذا تطلب الامر لابداء العون ، ها .. كما تراني .. اصطدت حيرتك فجئت مساعداً ، ..
ـ اه .. كدت ان انسى ـ انا اسف لما احدثت ..
ـ لاتهتم لذلك ..
ـ لا اعرف كيف اعبر عن اسفي ، ثلاثة فناجين تسقط من يدي .. شيء اثارني ، لم يحصل لي ذلك من قبل ..
ـ قلت لاتهتم ، انا هنا لامد يد العون لك ،
ـ اراك تشاطرني في رزانتك ولا اكتراثك ، رغم انك نقيضي .
ـ لا افهمك ..
ـ انا مثلاً ، انتبذ كي اكتشف نفسي .
ـ وانا ..
ـ تجد نفسك في الاخرين ..
ـ طبيعة عملي .
ـ اما انا فالعزلة وطني ..
ـ الا تراها قاتلة ..
ـ تقتل البعض ، وتحي البعض ، احياناً العزلة دواء لامراض العصر ، ينأيك وينجيك من مخالب الفوضى وعبث الصبيان .
ـ لاافهمك ..
ـ حين تعتزل يجب ان تمارس شيئاً خارقاً فوق العادة ، مثلاً ان تحاول فك الغاز الوجود او ايجاد سبل رادعة توقف بها زحف الملل و الامراض او تحاول ان تفعل شيئاً لم يسبقك اليه احد .
ـ لا افهمك .
ـ انت مثل سمكة مرتبطة حياتها بالماء ، الزبائن هم ماءك ، اما انا فمائي هو الاعتزال والعزلة فقط تبقيني متواجداً اقيم حياتي ...
ـ والناس ...
ـ احذرهم ، اراهم يكشرون انيابهم للفتك بيّ ، لذلك لا اخالل من لايشاطرني همومي ويزيدني يقيناً واندفاعاً ...
في تلك الجلسة وجدته معتداً بنفسه ، يحرر لسانه صوب كل محفل وعرفت بانني ازاء رجل جرب الحياة كلها وقرر الانزواء خلف الكواليس، كانت غرفته يعبث فيها الاهمال ، كتب ملقاة بعشوائية سرير مهمل ، وخيوط هلامية تشكل مصافحات مع الزاويا تتدلى من السقف ، لم اتجرأ الغور في عوالمه لا ستشرف مخاضات حياته ، فكل شيء انبأني بانني ازاء رجل عاطل عن العمل ، ظل يرتاد المقهى بانتظام لم تتغير طباعه ، كما لو كان مثل الة مبرمجة ، يدخل ليجلس في زاويته المفضلة قرب النافذة ليحرر بصره في الفضاء المتلون ، كان ينوء دائماً بحفنة كتب ، حتى التمسته ذات جمعة ، وجدته يفرش مجموعة من الكتب فدغد غني الاحساس بان الجوع بدأ يعصف به ، ذهبت اليه ثانية ، وجدته بذات الطباع النبيلة والرزانة المحسوبة والرغبة الصادقة ،
ابتدرته مبتسماً :
ـ اراك بدأت بهجر العزلة ..
ضحك بهدوء ، واجلسني جنبه ..
قال :
ـ البعض يتوهم بآن العزلة هي المنفى ، وربما تكون العزلة داخل الفوضى ، العزلة مدينة لا تحددها خطوط العرض والطول ، فأنا اجالسك كي اعتزل .
ـ كيف ..
ـ لانني يانديمي ساحاورك لمعرفة حيواتك وبالطبع تختلف عن حيواتي ، اذ ذاك اشعر بعزلتي عنك ، لانني لا امتلك ما تمتلكه ..
ـ ياأستاذ ، الاختلاط يقينا شر الانفجار ..
ـ هوذا عين العزلة ، انت تهرب من حياة قائمة ، من متعلقاتك .
من واقعيتك من استحقاقاتك الى مكان يوائم همومك لتنزف جراحك ، لانك سأمت نفسك وروتينية الحياة ، انها عزلة ،
لانك اعتزلت ووجدت الشطر الذي يتفق ومزاجك ..
ـ والله لا اعرف من اين تأتيكم هذه الافكار ..
ـ ياصاحبي ، انها علاقة جدلية ، اكبر مما نتصور ، فا لانسان مرتبط بقيم وقوى تديره ، فالعالم يتحرك ، لم تشعر احياناً بالاغتراب وانت في اوج بحبوحتك ، هنالك كواكب وافلاك ثابته تحقن الانسان باشاعاتها المؤثرة وترسم اقداره وتخلق منه .
حالة قلقة ، فالانسان كائن مرهف الحواس ، يتجاذب مع نفسه ويتشاحن احياناً ، انه شعور بالغربة الازلية ولولا العزلة والاغتراب لما حصل لنا هذا الوجود ، لحظة حصل الهبوط الاول للانسان من الفردوس لكي يعتزل قليلاً قبل العودة اليه .
ـ دعنا من بلوى العزلة ، سمعت بانك تقول الشعر .
ـ من قال لك .
ـ هكذا يتحدثون عنك ..
ـ لولا الشعر لا اطيق نفسي .
كان الوقت مساء ، تحاورنا وازحنا همومنا وزادت دهشتي به وتنامت بكتريا فضولي للغور صوب ينابيعه والتماس الزلال الخارس
لهذا المرض قي ، بدا لي بانه لم يتورط بالحياة الاسرية رغم تنامي الشائعات حوله . وابعدت من ذهني بانه رجل مطارد من جهة قرر الالتجاء الى بلدتنا ، فالشعراء مطاردون لانهم يقولون ما يخالف الوضع العام ، ولايمكن ان يكون ممن ترك وراءه زوجة متذمرة جراء الظروف، وجدته يدفع اجوره وان كان يرتزق من وراء كتبه ، ورغم تفاعل الفضول رفضت ان اذعن لرغبة عارمة استفزتني كي اطرق ابواب ماضية ، احترمت ثقافته وصراحته وذلك الحلم النبيل الخافق في انسراحاته ، ذات مرة دخل المقهى على غير عادته ، اذا لم يحصل ان دخلها في رابعة النهار ، الاّ في تلك المرة ، شرب اكثر من فنجان ، قمت فدنوت منه ،
قلت :
ـ ان كنت في ضيق فأنا موجود ..
لمحته يكافح لخنق الاضطراب في ملامحه ويحاول اختلاق الهدوء او يستعيد ما فقد.
اجاب :
ـ الضيق ليس في الجيب ، انني اشعر من ضيق مزمن ، ضيق اجبرني الاعتزال ، كما تراني بدأت اثاره تستقطب الاخرين .
ـ على كل انا رهن طلباتك .
ـ الضيق في رأسي لا كما ذهبت اليه ياعزيزي .
ـ وما ذا يعني ، لافرق مابين الرأس والجيب ، كلاهما يفرغان ، فالرأس سمكة والجيب ماء .
ضحك وربت على رأسي ودلك فروتها .
صاح :
ـ رأسك تلوث .. ستقول الشعر ياصاحبي .
ـ مالي وما للشعر حين ارى البخار يتراقص فوق انيق الشاي
ويزكم انفي وارى الوجوه تضحك لعذوبة الشاي تغمرني السعادة .
ـ ذلك هو الشعر الحقيقي ، الشعر النابع من الصميم ، الشعر ان تشعر بقيمتك وتسمو ، ان تتجرد من نفسك الرتيبة وتندمج في نور خفي ساحر ، أن ترى عملك يطرب الاخرين .
في تلك اللحظة قرأت الهدوء في سحنته لحظة افرغ همومه ، قام ودفع حسابه وانتبهت لعلبة كرتونية احتضنها وذهب ، خلت بانه قدم لنقل بعض كتبه ، ومع توالي الايام بدأ اكثر نشاطاً واكثر هدوءً ، كل صباح يهبط ليتناول فطوره ويذهب وعند المساء يؤوب من رحلة عمله وعلامات البحيوحة تهلل سحنته وانتبهت بعد ايام بأن العلبة الكرتونية تحولت الى صندوق خشبي ظل يرافقه، فتنامت بكتريا الفضول نمواً مدهشاً ومضت تنسف جبال تحفظاتي حتى اعادتني لسنوات بعيدة ، يوم كنت طفلاً غراً لا يقر بي قرار فما زال البعض يحتفظ بذكريات قديمة لكنها مسلية عن احدى نزواتي ، يقولون بانني ذات مساء قدت جوقه صبيان وتسلقنا فندق البلدة الوحيد ، لان غريباً حل به ، ذلك الغريب جاء من الشرق وهو يقود قطيعاً من الحمير محملة باقفاص خشبية ، ربط حميره في الخان وراح يحمل اقفاصه الى غرفته ، تقاطر الصبيان وكنت بينهم ، لكم نهرنا وحاول ابعادنا كما يقولون ، لكننا تشبثنا بعنادنا واصررنا على اكتشاف الكنز المدفون ، حتى امتثل الرجل لكلام والدي الذي اقنعه فكشف الغطاء عن احد الصناديق ، كانت فيه فئران بيض ، اغرتني ان افعل فعلتي ، وصلت الى غرفته وتمكنت من فتح ثغرات صغيرة وتعذر حمل الصناديق لانه ربطها بالبعض ، يقال بانه قام ورأى ما رآى فانطلقت الى مسارب الليل ، وفي الصباح استفاقت البلدة على ضربات عصاه وهو يطارد الصبيان لان الفئران تسللت من الاقفاص ، وصار رجل هزأة بقية حياته وهو يجوب الازقة ، تلك الفئران اتت على سوق الاقمشة وراحت تتكاثر لتكتسح البيوتات والمحال التجارية قبل ان تبادر البلدة في حملة ابادة جماعية للقضاء عليها، اطيح بذلك الفندق وشيد محله اخر ، اكثر حداثة واماناً ، رغم قدم الحكاية ولا اعرف مدى صحتها ، كون والدي قد رحل واستلمت زمام ادارة المقهى مكانه ، وصاحب الفندق التحق هو الاخر باخرته وحل ابنه محله ، خلت بان الفئران والكتب حالة واحدة ، فالكتب تنهش العقول وتسلب الجيوب ، قررت ان اقتحم الجوانب الغامضة في حياته واوقف زحف عواصف فضولي ، لكن الجواب جاء بلا جهد ، وكان صباحاً مشؤوماً ، لقد دخل كعادته وتناول فطوره بكل رتاباته السابقة وحين نهض ودفع حسابه اصطدم بالنادل فسقط الصندوق الخشبي من يده، ظل جامداً يبحلق وسط الفوضى والصراخات التي حررتها الالسن، قد تكون مصادفة، وقد تكون نهايات الالعاب الغامضة والاسرار الدفينة ، نسى ان يحكم الرتاج فهوى الصندوق فتدفقت عشرات الفئران البيض الى كل الاتجاهات ظل جامداً لايريم ولحظة دنوت منه وايقظته من ذهوله ، اطرق برأسه واندفع خارجاً ليختفي نهائيا عن بلدتنا .

16/اذار/ 2003

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى