جاسم المطير - الطريق الى كهف سوسياتا.. قصة قصيرة

- تلك امرأة طردها زوجها قبل ثلاثة أشهر. لم تنفع كل محاولات المصالحة بينهما، لأنه يعرف جيداً أنها لا تحبه ، تحب فلوسه وأملاكه وتتوقع موته وتتمناه في أي لحظة، حتى تصبح الوريثة الوحيدة. الحقيقة أن أخلاقهما ،معا، سيئة. ومن تجربتي أن سيئين لا يجتمعان. سيء وطيّبة يمكن أن يركبا سفينة واحدة ، وكذا سيّئة وطيب يمكن أن يحركا أهواءهما .لكن سيئين لا يصيبان ولا يستريحان .صاحبتنا وزوجها سيئان تستبد مفاصل كل واحد منهما بالركض وراء الآخر فلم يتصالحا برغم جمالها الأخاذ. يرفضها كما لو كانت مختلة العقل، كما لو كانت هي وحدها حشرة القبائح. انظرن أليها كم هي منشرحة ومسرورة، ما أن حصلت الزوجة على ورقة صغيرة جداً من العلاّمة كرمان يحي كرمان شيخ العرافين في هذه الديار ووضعتها في مكان محدد من غرفة منام الزوج حتى جاء أليها متوسلاً في اليوم التالي. للشيخ العلاّمة قدرة خارقة وعجيبة على كل أفعال السحر. على قدر ما تدفعه المرأة من مال أو ذهب تحصل على مراد أكبر.

كانت السكرتيرة الجميلة هي المتحدثة. يبدو عليها نوع من الرفاه. مرتدية ملابس أجنبية فاخرة أثارت بها إعجاب وحسد الحاضرات من الزائرات.في ساقها اليسرى ما يثير انتباه الرجال والنساء فقد أضفى عليها خلخال ذهبي جمالاً معيناً. صدرها ورسغاها وبعض أصابعها أيضاً مزينة جميعها بأنواع عديدة من المصوغات الذهبية. تعمدت كما هو واضح إظهار مفاتنها كلها. نصف صدرها عار، نصف ظهرها عار ، نصف جسمها الأسفل عار، حتى أن بعض النساء الزائرات تصورن أنهن موجودات ، الآن، في مكان غير محتشم.
واحدة منهن قالت:
ـ أن أصل السكرتيرة قحبة بلا شك.
إحدى المراجعات أقسمت ،بغياب السكرتيرة :
ـ هذا المكان أكثر تعرٍ من مكان آخر كنت أعمل فيه على باب ألله.
فتيات جميلات أخريات يعملن في المكتب الكبير ذي الغرف المتعددة. كما يعمل معهن في نفس المكتب شابان وسيمان كوسيطين في القسم المخصص لأسحار النساء. لهما غرفة خاصة ومكاتب خاصة ومواعيد مثبتة للمراجعات.
ـ انظرن إلى تلك الجالسة في مدخــل الغرفة الكبيرة . سيأتي دورها بعد قليل لأجراء المقابلة مع الشيخ العلاّمة وهي طبيبة في المستشفى التخصصي، تركها زوجها وحيدة لا يعجبه المنام معها أو في غرفتها بعد معاشرته لممرضة شابة في العشرينات من عمرها. هي أيضا عضو في الحزب بل انها تتقدم بالمسئوليات الحزبية بسرعة فائقة .. يمتدحها أمام الأطباء والممرضات بقوله أنه بمجرد سماعه صوتها أو ضحكاتها يكون سعيداً ويمتلئ صدره بالفرح الشديد، عمل ( الشيخ ) كرمان سحراً نافذاً للطبيبة فأعاد زوجها الى أحضانها. جاءت اليوم لتقدم هدايا للشيخ ولنا أيضاً.
ثم أشار الى المرأة الجالسة على يمينه:
ـ أما هذه فغير متزوجة. فاتها قطار الزواج، وأصابها اليأس القاتل. صدقوني لم يحدث زواجها ألاّ بسحر من العلامة الشيخ. تزوجت فوراً ، والمثير في زواجها أنه لم يكن زواجاً عادياً ، بل تزوجت شخصاً مهماً بمركز كبير في الدولة وحزبها. يقال أن زوجها يستطيع أن ينقذ المحكوم بالإعدام من حبل المشنقة. ويقال أيضاً أنه من عشيرة الرئيس حفظه ألله. لكن المسكينة كانت غير محظوظة إذ لم تنجب خلفة حتى الآن . مرّ على زواجها أكثر من سنة ونص. نصحها زوجها بالمجيء ألينا للمرة الثانية حتى تحبل. أن شاء الله سيحل صديقي مشكلتها سريعاً. وإذا لم يحصل الحمل سيعمل لها العلاّمة سحره اللازم.
أستمر يهمس في أذن المرأة الجميلة الجالسة على يساره. يحدثها عن حالات كثيرة مؤكداً لها أن قضيتها لا تستعصي على العلامة أبداً.
ـ هل صحيح أن الشيخ يعمل عميلاً في المخابرات..؟

ـ أستغفر الله من قال ذلك..؟
ـ الناس يحكون بمثل هذا الكلام..
ـ الكذابون كثيرون في هذا الزمان. يطلقون الإشاعات بدون ضمير.
ـ يقولون أنه وكيل شخصي لمدير المخابرات.
ـ أستغفر ألله .العلامة نزيه من كل الأعمال القبيحة. القحبات وحدهن يروجن الإشاعات والاتهامات ضد الأخيار الصالحين.
ـ لكنني سمعتُ ذلك من رجل..
ـ لابد أن يكون قوّاداً..
ـ لكنه .. ..ليس مثلما تقول ..ليس قواداً..
ـ ربما منافق.. المنافقون مثل الحشرات لا يكتفون باللسع بل يمصون الدماء ويسعون سريحاً لإيذاء ضحاياهم..
ـ لكنني أعرفه جيداً فهو لا من هذا ولا من ذاك..
ـ لابد أنه مخدوع..
ـ أنه زوجي ..أنه ضابط..
ـ آسف يا سيدتي طالما هو زوجك سأساعدك في قضيتك.. سأضع كل قدرات العلاّمة تحت تصرفك لحل مشكلتك.
كانت هذه المرأة تحضر إلى مكتب العلامة لأول مرة.
بدت له أنها تجمع شيئين في آن واحد:عقل الحرباء ووجه اللؤماء . كما عرف من صوتها المتهدج أن حالتها في أرتباك. كانت المرأة جميلة للغاية مرتدية بلوزة فضفاضة من الحرير بلون أزرق فاتح وزاهٍ. كانت البلوزة مفتوحة من الأمام ظهر من خلالها صدرها عارياً، وانحدرت من رأسها جديلة طويلة غطت ظهرها. صبغت حاجبيها باللون الأسود فازدادت عيناها أتساعاً وقد زاد من لمعانهما الكحل الأسود.
أدرك السكرتير بسرعة أن هذه المرأة مشكوك في أمر زيارتها حالما أشعل البايب المزركش ببعض المعادن في جانبيه وهو يطيل الفحص فيها، متسللاً إلى حركاتها ونظراتها من دون إشعارها أنها مراقبة أو مشكوك بنواياها بينما تلتفت الى اليمين والى اليسار ككلب يتشمشم. حين اطمأنت لعدم وجود أحد في الغرفة وأن الباب والشباك موصدان تماماً قالت له همساً:
ـ زوجي يعمل في مكان مهم وخطير..
نظر أليها نظرة مفاجئة تدل على أستغراب. سألها:
ـ ماذا..؟
ـ زوجي في المخابرات..
ـ أتعنين أنه معتقل في المخابرات..؟
ـ كلا.. أنه ضابط كبير بالمخابرات..
كأنما وجد نفسه في لحظة اندلاع حرب.. أو كأنه يريد أن يعبر الحدود في غفلة من حرس الحدود:
ـ تشرفنا. ما المطلوب يا سيدتي..؟
ـ أمتأكد أنتَ بأن العلامة لا علاقة له بالمخابرات..؟
ـ حسب معلوماتي ما رزق بمثل هذا الشرف.
ـ لزوجي مشكلة كبيرة. متورط بقضية كبيرة أريد أن أعرضها عليكم أقصد على العلامة.
ـ هل زوجك مسجون..؟
ـ كلاّ ..
ـ هل هو موقوف ..؟
ـ كلاّ..
ـ هل هو أمام المحكمة أو التحقيق..؟
ـ كلا. ..
ـ هل هو هارب من وجه العدالة..؟
ـ كلاّ..
ـ هل طردوه من الحزب..؟
ـ كلاّ..
ـ هل هو مفقود في جبهة الحرب..؟
ـ كلاّ..
ـ هل أتفضح أمره برشوة أو سرقة..؟
ـ كلاّ..
ـ ماذا إذاً يا سيدتي المحترمة.. ماذا تريدين بالضبط..؟
ـ أريد كشف الأمر للعلاّمة وليس لغيره..
ـ ستدخلين عليه حالاً..حالاً ستقابلينه قبل الجميع..
ـ لوحده في غرفته..؟
ـ نعم لوحده..
بعد أن خرج السكرتير من المكان هدأت قليلاً أخذت تتذكر تفاصيل الدور الذي أوكله لها زوجها..
كانت تسمع بعض الهمس الجاري في الغرفة المجاورة.
أنه صوت السكرتير. مع من كان يهمس وحول ماذا..؟ هل يتحدث مع العلامة نفسه. ربما. لابد أنه يشرح الأمر أليه كما سمعه مني.
أطلّ السكرتير مشيرأ لها بيده للدخول الى غرفة خاصة بلقاءات العلاّمة مع المواطنين..
ـ تفضلي يا سيدتي لمقابلة العلاّمة. شرحتُ له كل شيء. أكملي حديثكِ معه.
ظهر للعيان رجل وقور رغم مسحة مكر تعلو قسماته. بهي الطلعة تبدو على محياه سمات من علم وأدب. حسن المظهر .أحستْ في الحال أن نوراً يشع من عينيه كأنه حبل الرجاء المفقود من وجوه الناس الآخرين ، من الفقراء أو من التائهين في سبل الحياة المظلمة، المنتشرين في كل أطراف المدينة. تصدّر العلامة صدر غرفة جميلة مزخرفة وبدا قصير القامة بجسد مترهل ووجه متورد بصوت جهوري ثاقب.
هذه هي امرأة رجل هيبو من الدرجة الأولى تشرفنا بزيارتها . أول امرأة تعترف أمامي أن زوجها ضابط بالمخابرات .أهي صادقة أم دعيّة..؟ ماذا وراء هذا الأعتراف. هل هناك لعبة أو مكيدة تلعبها معي. أم هي لعبة مدسوسة عليّ من المخابرات نفسها..؟
لا أظن ذلك فأن مدير هيبو بحاجة أليّ بكل أعماله وخطواته. لا يتحرك في ألعاب صعبة أو خطيرة من دون استخارتي أو أستشارتي. فقد حلف الدهر بالعمل ضده ولولاي لكان الآن مقعداً في بيته يعاني عطالة المغضوب عليه من رئيس البلاد أو يعاني الأرق كأن على صدره ثقل أعمدة حجرية.. لولا السحر الذي عملته لما حبلت أمرأته ، ولولا السحر لما استطاع أستر جاع قدراته الجنسية ولولا دخان النارجيلة المعمول بالسحر لما شفي من علة معدته. الآن مهدد بالإقالة من منصبه حسب حلمٍ فسرته له في الأسبوع الماضي.
ترى هل يغشني من أصبحت كأسه دوّارة معرضة للكسر ومن أصبحت سلطته مهددة بالزوال..؟ ليس هو من الجهالة حتى يؤذيني فيخسر دليله الى غده ،بل يعتبرني خدناً يتوسل أليّ إنقاذه من شر دفين لا يعرف نتائج أنكشافه. أعرفه جيداً ويعرفني جيداً فهو من أبوين ليسا تكريتيين أصيلين لهذا فأن ظاهرة الانتقام ضد التكارتة كامنة في نفسه. أينما يذهب يسمع من التكارتة قولاً يقول:مدير الهيبو ليس منا.
مثل هذه الأقوال سببت لديه ردة فعل فقد ولد وتربى وعاش في تكريت ألاّ أنهم لا يعتبرونه أصيلاَ في تكريتيته. ذكاؤه الحاد فقط هو الذي جعله يحتل منصباً عظيم الأهمية .قربه الرئيس حفظه الله إلى نفسه فلم يجد منه بداً أو أفضل منه أو أكثر منه شراسة أو أشد قسوة على الناس فعينه في هذه الدائرة العاتية.. هل من المعقول أن يرسل لي هذه المرأة التي يبدو على سيمائها شيء من بنات الهوى. أستغفر الله . أستغفر ألله.
ـ أين زوجكِ يا أمرأة..؟
ـ في الدائرة..
ـ لماذا لم يأتِ معك..؟ أحتاجه للاستفسار منه عن كل شيء.
ـ أسألني أنا أيها العلامة. أنا أعرف كل شيء. وقد خوّلني بالحديث نيابة عنه. خذ تفضل هذه صورته .
أخرجتْ من حقيبتها صورة شخصية كبيرة لزوجها بحجم عشرة سنتيمترات عرضاً وعشرين سنتمتراً طولاً. نظر الى الصورة بتمعن ثم وضعها قبالته على حاملة مختصة بالصور.
ـ أسأله يا سيدي بأسئلتك وسوف أجيب عليها كلها. ستسمع صوته هو وليس صوتي. سيجيبك هو،وأنا مجرد متفرجة.
كان أمامه قدح سميك الزجاج ومعتمه أرسل ما فيه الى معدته دفعة واحدة .فتعالى الله سبحانه هو وحده يعلم ما شرب ولربما لذة الكأس سحر هذا الساحر. وبدا على وجهه ضيق الناسك والحكيم، وتماسك جسده كقائد عسكري في موقعة حربية ، بل صار يضاهي الأتقياء.
ـ لا أسألكَ عن أسمِكَ.. بل أسألكَ عن أسمِ أمكَ.
ـ أعرف ذلك.. كل السحرة يسألون نفس السؤال.
جاءت هذه الكلمات لأسماع العلامة خشنة كملامح وجه المُصوَر في الصورة.
له خبرة في تحليل الأصوات ، بل في تحليل الشخصية من الأصوات ، وربما يستطيع كشف المواقف الصعبة من الأصوات. هذه الكلمات بالذات صدرت عن صدر موغل في سلوك السوقة كصوت من يريد أن يتحطم لكنه يتماسك كي يستر نفسه ولا يدري أن ستره خرقة.
ـ كن مؤدباً يا هذا فلست ساحراً . أنا العلامة كرمان يحي كرمان باحث هذا الزمان شاعر الوجهاء والفقراء والأعيان قادر على كشف ما تغيب عنه الآثار وشواهد العيان وقادر على وقف الغي والطغيان.. هل فهمتَ يا هذا..؟
ـ نعم أيها العلاّمة وأرتجي عفوكَ..
ـ إذاً فِه بأسمِ أمكَ يا هذا..
ـ عفواً أيها العلامة. أسمها فضيلة.
ـ فضيلة بنت من..؟
ـ بنت جابر..
ـ أمها.. أعطني أسم أمها.
ـ حليمة..
ـ فاخر. بنتُ فاخر..
ـ أمها.. أعطني أسم أمها..
ـ نظيمة..
كان الرجل قد سجل الأسماء على ورقة صغيرة بيضاء بقصبة طويلة يغطها في كل مرة بقنينة الحبر. المرأة تنظر بارتباك ..
ـ قل لي عن تفاصيل السرقة بالتفصيل.
ـ ليست سرقة بل هي مشكلة.
ـ حدثني عن المشكلة.
ـ أنا يا سيدي ضابط مؤتمن. كلفوني بمسؤولية حراسة آثار الوطن والحفاظ عليها من اللصوص والمهربين والمزورين.. ...
قاطعه العلاّمة بنوع من النبرة الخشنة . وهذا أسلوبه المعتمد في فرض شخصيته على مقابله مهما كان منصبه في الحزب أو مركزه في الدولة:
ـ قل بالتحديد من كلفك بالحراسة..؟
ـ المخابرات أيها العلاّمة..
وضعتُ كل قدراتي من أول يوم للحفاظ على الآثار . في يوم من أيام الصيف الحار قبل سنتين كنتُ ماراً على بعض الآثار فوجدتُ هناك صوتأً غريباً يريد أن يتحدث معي حولها. كان الوقتُ فجراً قبل طلوع الشمس بقليل ظهرت صورة المتحدث وأخبرني أنه من رهط إبليس .ثم تأكدتُ أنه إبليس بلحمه ودمه حقاً وصدقاً..
ـ كيف لك أن تعرف أنه إبليس..؟
ـ تذكرتُ أقوال أبي عنه عندما كنتُ صغيراً وتذكرتُ أوصاف إمام مصلى المخابرات. فإبليس كما عرفته بالأقوال ، منهما، طويل طويل قادر على التمويه والتنكر والتدليس غير منتظم الشكل كباقي البشر لأن وجهه أكبر من رأس الثور الخسيس ، و رجلاه صغيرتان أصغر من أرجل النمل الأسود العبيس. كان يتحدث معي من مؤخرته:
ـ أنظر يا أبن فضيلة حواليك فماذا أنت واجد..؟
ـ نظرتُ في كل الأنحاء ولم أجد إلاّ أكواماً غير منتظمة عرفتُ أنها باقي آثار بابل ونينوى لم تضِع ولم تُسرق .مرّ بها محتلون ومنقبون ورحالون من مختلف الأجناس وفي مختلف الأزمان بحثوا في خرائبها مثلما بحثوا في باطن أرضها آخذين معهم ما راق لهم من قطع فخارية ونقود وزخارف. قالوا أنهم أخذوها للذكرى ليس غير . لكن من يزور متحف لندن وبرلين وباريس يجد فيها الكثير من خرائبنا. في متحفنا موجودة نسخة جبسية فقط من مسلة حمورابي لأن الأصلية موجودة في متحف اللوفر بباريس.
نعم يا سيدي العلاّمة أنا موجود في هذه المنطقة للحراسة . أحرسها حتى لا تطأها أقدام أهاليها. حتى لا يرون ما أرى. هنا بقايا قنوات جافة للري .كانت هذه المنطقة في زمن البابليين حدائق وحقول حبوب زاهرة يوم لم تكن فيها قوات هيبو لحراستها . أما اليوم فأنا أحرس مستنقعاً تعشعش فيه الميكروبات والحشرات. هنا يا سيدي مررتُ وحرستُ وأخلصتُ لعاصمة الفرس الساسانيين التي لم يبق منها سوى أطلال بعد أن هدمها الخليفة ولم يبق منها سوى أطلال القصر الكبير . يحبون إبقاء القصور فقط. كانت المسافة التي أحرس فيها طويلة .في أحد الأيام وجدتُ نفسي مضطراً أن أخوض بمياه المستنقعات لقتل بعض الناس فيها ممن لم يرضخوا للحكومة. كانوا يعانون الفقر والجهل والمرض فقضينا عليهم بنشر الحمى وقطع المياه ورشق الرصاص. الرهبة ما تزال في أعماقي حين شاهدتُ في المستنقعات رؤوساً طافية على صفحة المياه الآسنة.
كان الشيخ العلامة يصغي بانتباه شديد فهو من المهتمين بالآثار القديمة ولا يقل اهتمامه فيها عن اهتمامه بأمور التجارة والسحر. يشيع بعض الناس من أهالي نينوى القديمة أن العلاّمة الشيخ أفتتح مكتباً له قبل عشرة أعوام في الدواسة بالموصل وأنه حصل فيها بسحر عمله لرجل في الكنيسة الآثورية على مخطوطتين تاريخيتين بخط يد رجلين معروفين هما حاخام راتسبون و بنيامين التطيلي اللذين كتبا مشاهداتهما عن آثار نينوى باللغة اللاتينية وقد باع المخطوطة بمبلغ طائل لتاجر آثار لبناني.
أستمر الهيبو بالحديث بينما راح العلاّمة سارحاً في حسابات هذا النوع من التجارة.
سأل نفسه: هل يكون له نصيب جديد فيها..؟
قال الهيبو:
ـ رأيتُ نفسي داخلاً الى قصور ملكية عديدة مطلوب مني حراستها . لا أدري لمن تعود القصور ولا أعرف زمانها لأنها مهجورة وأشجار حدائقها ميتة وسجاجيدها الفارسية علتها آثار آكلات العث القدير. وقد وجدتُ الجدران والسقوف متشققة . ليس لهذه القصور أي صلة بالرجال من ذوي الأفكار الهدامة . إذاً لماذا تهدمت .. !!
بقيتُ مختفياُ عن أنظار الناس في مكان خفي في الحي الواقع خلف الجامع القديم مباشرة . لا أدري كيف عرف المهربون مكاني . جاءوا أليّ عابرين الجسر حاملين كيسين من الرشوة أحدهما فضي والآخر ذهبي . أعطوني إشارة خاصة بإيماءة خاصة عرفتُ منها أنني إذا لم أنفذها فأنها كفيلة بخلق مشكلة عائلية كبيرة.
ـ نعم يا سيدي. أقصد مشكلة للعائلة الحاكمة كلها. ربما يتصارع أو يتقاتل الزوج الحاكم مع زوجته الحاكمة المحكومة والابن مع أبيه والأخ مع أخيه ، ولا تخلو ساحة المعركة من نشوب قتال بين الأنسباء والأقرباء وأولاد العمومة. أنها عائلة عجب تبغي رتباً فوق رتب حتى إن زادها حفر التراب تعباً على تعب.
ـ وماذا يعنيك مثل هذا الخلاف يا أبن فضيلة بنت حليمة..؟
ـ أنني أسعى منذ زمن لضمان أمر ما كي يخدمني الحظ في الحصول على منصب دبلوماسي في إحدى سفاراتنا بأوربا ..أنني أصلح لهذا المنصب لأنني في الظاهر أملك مؤهلات وجدارات. فقد ألممتُ بأسباب النزاع في صربيا وأعرف أسباب الخلاف على الحدود بين أيران والعراق وأعرف عن عرب الأهوار بثلاثين ميلاً ممتدة من شط العرب حتى الغموكة ، وأعرف كيف أن الشمس دينار وأن القمر درهم..
ـ تحدثتَ عن الظاهر كما يبدو فهل ركبتْ نفسك شيئاً في الباطن..؟
ـ في الباطن أملك العديد من الآثار الفخارية أريد بيعها هناك. العرب لا يعرفون قيمتها لكن الشباب الطموح في الإمبراطوريات الأوربية من روسيا حتى بريطانيا يفهمون قيمة الآثار مثلما كانوا يفهمون أهمية وجود دزرائيلي رئيساً للوزراء، أو أهمية وجود ستالين على رأس الحزب الشيوعي. أريد منك يا سيدي العلامة سحراً يفيدني في التغلب على أشباح الجواسيس المنتشرين في ممرات الهيبو حاسدين أياي. كما أريد منك يا سيدي نصراً تحققه لي على أشباح الجواسيس الأوربيين المنتشرين في الشوارع العتيقة في لندن وبرلين وباريس يحيكون الدسائس ضد آثارنا بأوقات السلم والحرب. يقللون من أسعارها حتى يجبرونا على بيعها بأدنى الأسعار لمحظيات السلاطين والجواسيس والمليونيرية والذين يسوسون بلدانهم وبلداننا بالغش والخيانة.
ـ لكن مطلبك غالٍ يا سيد الآثار والمخابرات..
ـ زوجتي أمامك . خذ منها ما تشاء وأعطني ما أشاء.
ما أن طلع الصباح حتى كانت الزوجة متعبة والعلامة متعب والزوج متعب والعاملين مع العلامة متعبين والبلد كله في حالة تعب شديد.. فقد كان الحديث كأسنان المنشار تمس الجميع وتقطع الجميع وتنشر الجميع وتسر الجميع..
صدر صوت عال من بوق كأنه جاء من آخر المدينة:
ـ يا حلاقي بغداد أتحدوا.
أيها الحلاقون اتحدوا لحلاقة رأس الشعب. فقد سرق من القاعة السومرية تمثال كوديا سلطان لكش وهو ثمين لأنه مصنوع من حجر الديورانيت الأسود.
ـ هل أنت السارق يا صاحبي..؟
ـ كلاّ..

سُرقت من القاعة البابلية أسلحة وخناجر وألواح آجر بألوان زاهية . أيها الحلاقون اتحدوا ..فقد سرق تمثال الملك سنطروق الأول ملك الحضر.
ـ الملك سنطروق بنفسه..؟

علا صوتُ البوق ثانية من آخر المدينة:
ـ سرقوا حتى تمثال ربة الحقول والبساتين (باو)..
ـ يا ألهي.. حتى باو سرقوها..

هاجت الثيران المجنحة في خرسباد وظهر سرجون من جديد ينقش بالكتابة المسمارية على لوح كبير من الرخام قصيدة من الشعر الحديث يشكو فيها دجلة والفرات لأن سماءهما بلا نجوم في زمان السرقات..
ـ لم أسرق شيئاً. عثرت عليها بين الخرائب.
ـ الفُلك ألم تسخره لحمل الآثار من أرضها الطيبة الى مكان خبئ لا يعرفه أحد غيرك..؟
ـ الآثار مخبأة وجاهزة للتسليم في أي مكان خارج الوطن مقايضة بالدولار.

عانى العلاّمة عدة نوبات من الحمى وهو منشغل لعدة ليالٍ في تحضير سحره مما أدى الى انهيار وضعه الصحي والنفسي وأيقن خلال ذلك أن الوسيلة الوحيدة لإنقاذ صاحبه وآثاره هي في استصحاب الزوجة الجميلة والجوال في المنطقة الجبلية ، حتى ولو اقتضى الأمر الوصول الى كهوف سوسياتا المظلمة حيث تعيش أقوام مهتمة ببيع وتهريب الهياكل البشرية.
ما أن بدأت الحمى تغادر بدن العلاّمة حتى غادر صاحبه (لحقت به الزوجة أيضاً ) الى ربوع دولة ليبرالية في قلب القارة الأوربية قائماً برعاية المصالح العراقية فيها بموجب مرسوم جمهوري رقم واحد، وكان العلامة قد حظى بمصالحه الخاصة لآثار ما قبل الحقبة الساسانية محملاً صاحبه سحراً يمكنه السيطرة على أسرار السياسة الأطلسية في الشرق الأوسط ووضعها تحت تصرف الحزب الحاكم وقائده ..

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى