حامد الزبيدي - الدخيل.. فصة قصيرة

أفلتت الشمس و مضى الشفق الأحمر الداكن يمسح أثاره في الأفق البعيد لحظة المغيب و يودع هالة الغسق التي ظللت الوجود و غمرت الكائنات بالسواد و قد حولتها إلى أشباح فقدت معالمها ، تؤازرها عاصفة هوجاء اقتلعت الأشجار من الجذور كالطائرات أقلعت من مطارات حربية ، تطير الأغصان في الهواء ، ترتطم بالأسوار و الأبنية ، امتزجت أصواتها بصوت الرياح العاوية ، فقدت النجوم بريقها المتلألئ و القمر يبحث عن نوره في سماء لا مرئية ، لا شيء في الطرقات سوى الخوف و الرعب و زمجرة مجلجلة في أحضان الليل الدامس ، و ثعبان زاحف في الأدغال ، يجوس أحراش الحديقة البيتية بتوجس بالغ ، كأنه لص متمرس في القتل و السرقات الليلية ، لاذ تحت شجرة منحنية تصارع مخالب الريح القوية ، تفرس المكان بعينيه الحمراوين ، شد انتباهه ذلك الضوء الخافت المتسرب عبر الستائر من النافذة ، مضى بهدوء و استقر تحت النافذة ، اسند رأسه الكبير على الجدار ثم بدأ بالارتفاع شيئا فشيئا ، أركنه على إطار الشباك الحديدي و حدق من خلال مستقيم الفراغ الذي أحدثته الستائر في الغرفة المضيئة ، تلصص على أرجاء الغرفة و محتوياتها ، استقر نظره إلى تلك اللعبة البشرية التي تمارس في الغالب طقوسها على أسرة وثيرة ، نمارق ملونة و فرش من حرير ، في البدء لم يستطع أن يميز ما كان يرى ، اهو كائن أم اثنان متلاصقان يتحركان بعذوبة متناغمة ، اقترب أكثر فأكثر من زجاج النافذة ، مسح بلسانه الطويل التراب الذي لصق فيها ثم حدق بدقة متناهية حتى تيقن من أن النائم ليس كائنا بل اثنين ، افرز الفخذين البيضاويين من السمراوين ، تدلى لسانه المشطور نحو الأسفل ، اندلق شلال من فمه سيول من اللعاب نزلت على جسده الأملس ، امن متلذذا بما تراه عيناه الحمراوان ، برغم الجو العاصف و البرد القارس شعر بدفء و فيض من المتعة التي لم يعهدها من قبل ، تسارعت دقات قلبه ، من تلك الهمسات الخافتة التي تصدع أنغاما و ضربات لاهثة و تأوهات ساخنة ، قرر أن يكسر زجاج النافذة كي يتمكن من التنصت و النظر بوضوح أكثر ، استغل هيجان العاصفة و غليان دماءه و ضرب الزجاج بلسانه الطويل ضربة قوية فطارت هشيما في الهواء ، انتبها إلى صوت تكسرها و دخول الهواء البارد المحمل بالغبار ، أفزعهما منظره المخيف ، انفصلا ، لفا جسديهما العاريين بالبطانية ، تراصا جنبا إلى جنب و إمارات الخوف تصب حمم غضبهما عليهما ، امتلأت الغرفة بالرعب و الغبار و الذهول و صراخ المتعة المقتولة و سكون الموت الأتي ، و هو يسلط نيران عينيه باتجاه الرجل الذي اشتد منه غضبا ، حينما مد يده إلى إبط المرأة العاري ، و سحبها إليه دفنت وجهها البيضاوي في صدره و هي ترتعد من الخوف شدها نحوه بقوة و قال لها ليقنع نفسه قبل إقناعها من الخوف الذي هجم عليه :
ـ لا تخافي انه حيوان لا أكثر ، حالما ينتهي فضوله سيتركنا و يذهب .
من دون أن ترفع رأسها كطفلة خائفة من كابوس مزعج ، أردفت بصوت متلعثم :
ـ أ .. أي حيوان .. مف .. مفترس أرى ؟
مد يده إلى شعرها الكستنائي ، و كأنه يستمد القوة و ربط الجأش منه و قال :
ـ انه ارحم من تلك الحيوانات التي نعيش معها .
استرجع بعض من أشتات أوصاله المرتعدة و جمع قواه المبددة ثم نهض بعريه متسلحا باليقظة و الحذر ، يصارع الخوف الجاثم في ذهنه و أعماق روحه ، ارتدى سرواله و هو يحملق في وجه الثعبان ، نزل من السرير ببطء و هي هتفت من خلفه متوسلة :
ـ أرجوك أن لا تتركني هنا لوحدي .
رد عليها من دون أن يلتفت إليها و بصوت منخفض و كأنه يقول لنفسه :
ـ اهدئي .. اهدئي .. لن أبارح المكان إلا و أنت معي .
ثم واصل خطواته البطيئة و الحذرة ، متأهبا و كان الثعبان ينظر إليه باستصغار و استخفاف ، فتح باب خزانة الملابس ثم مد يده ، تناول المسدس و بالتفاتة سريعة أطلق النار عليه و هو يتقدم نحو النافذة حتى افرغ الشاجور ، اختفى الثعبان من النافذة و هو لا يزال يتحرك بارتياب شديد فاجأه من جديد بالظهور ، جفل منه نشفت دماؤه في جسده ، فقد شيئا من صوابه ارتعد خوفا تجمدت أوصاله ، شعر بالغثيان و الدوار ، ود لو يتقيأ بوجهه ، لكنه من دون أن يعي رفع يده و قذف المسدس بقوة نحوه ، تلقفه بفمه الكبير ، مرق المسدس كالسهم من بين نابيه الطويلين ، اشتعلت نيران الفزع ، احترقت اللحظات الآمنة ، تحولت إلى رماد الرعب الأسود ، لاذ بعينيه إلى زوجته التي أزاحت الغطاء عن جسدها البض و قالت :
ـ قتلته ؟
عاد بنظره نحو النافذة لقد اختفى الثعبان ، تمنى أن يتركهما و لا يظهر لهما بعد أعادت من جديد في نفس النبرة و في نفس الصوت الملتاع :
ـ قتلته ؟
لا اعلم ... هيا ارتدي ملابسك لنترك البيت .
نفد صبرها من الخوف و الحيرة القاتلة فأردفت :
ـ و الثعبان ؟
ـ ربما ولى هاربا .. هيا أسرعي ليس لدينا متسع من الوقت للحديث هنا .
ارتدت ملابسها بسرعة فائقة و هو الأخر أكمل ارتداء ملابسه ثم مسكها من رسغها و ركض بها خارج الغرفة باتجاه الباب ، سحب المزلاج ثم فتح الباب ، وجد جسد الثعبان ملفوف حول البيت ، طوقه ، حلقة فوق حلقة ، أغلق الباب ثم ولى مدبرا .
ـ هيا بسرعة .
أخذها بين أحضانه و دخل الغرفة ، اقتربا من النافذة ، سحب الستارة بقوة بانت النافذة مد رأسه بين القضبان ، فرأى الثعبان مشغولا بالالتفاف حول البيت كعقرب الثواني ، خرج من الغرفة مسرعا ودخل وفي يده مطرقة كبيرة وقف أمام النافذة ورفعها بكلتا يديه ، و هوى بها على الشباك الحديدي الذي وضع على النافذة ، استمر بالطرق العنيف ، تمكن من خلعه ، رمى المطرقة خلفه ثم سحب الشباك ، رماه بجانب خزانة الملابس ، اقرب من النافذة مد عنقه ، هجمت عليه عاصفة مجنونة ، اصطدمت في وجهه الأوراق و الأغصان الصغيرة و الأتربة لفح أذنيه هزيم الرعد الممتزج بأزيز الطائرات و دوي انفجارات في أمكنة بعيدة .
استدار إلى زوجته ثم وضع ذراعه تحت إبطها و قال :
ـ إلى أين المفر . و الموت يطاردنا في كل مكان .
قالت :
ـ هيا لنقفز من هنا ، و نترك المصير لتحدده أقدامنا .
تقدم الاثنان من النافذة ، هما أن يقفزا لكنه ظهر لهما منتصبا وسط فضاء النافذة و رأسه المترنح المتمايل طربا و عيناه تشعان بابتسام الظفر و كأنه يقول لهما :
ـ لن تفلتا من قبضتي الحديدية .
تراجعا نحو الخلف يتخبطان في مستنقع الإحباط التفت كل منهما نحو الأخر حيث اقتنعا بان لا خلاص ، لا مخرج لهما ، قال لها :
ـ سأهجم عليه .. عليك أن تستغلي لحظة الصراع و تهربي .
اعتصرت جفونها ، زمت شفتيها ، تصلب وجهها لتسيطر على الآلام التي أحدثتها الأفكار التي تجول في خلدها ، ثم أطلقت رفضها و تحديها لما سيحدث لها .
ـ أنا لن اهرب من دونك ... سأبقى معك ... معك .
ـ أنقذي نفسك .
ـ ممن ؟ أجهشت بالبكاء المر و انهمرت الدموع من عينيها الصغيرتين الباسمتين نث وجيع القلب و بصوت بكائي مذبوح ، تساءلت :
ـ كيف أعيش إن مت أنت ؟
شدها إلى صدره و قبلها من عينيها ، و من وجنتيها و كأنه يقبل شيئا مقدسا عنده ، و الثعبان اللئيم يرقص طربا لدموعها ثم أولج رأسه على ارض الغرفة و انساب نحوهما ببطء ، التقطت الوسادة ، قذفتها نحوه ، القفها بفمه الكبير ثم ابتلعها ، رفع الشباك الحديدي ، رماه نحوه ، ابتلعه ، رمته باسورها الذهبية و بصندوق زينتها و الثعبان الشره يبتلع كل ما يرمى به ، تناوب الاثنان بقذف الثلاجة ، التلفزيون ، خزانة الملابس ، السرير ، المجمدة ، الطباخ ، التحفيات و الأثاث لقد افرغ البيت من حاجياته ، أصبح خاليا من كل شيء و الثعبان الجائع يصرخ بهم :
ـ هل من مزيد ؟
أخرسهما الإرهاق حيث لا جواب لديهما .وقفا بصمت و وجوم ينظران إليه و عيناه الحمراوان ، تتفرسان المكان بعد أن تأكد من إخلاء البيت تقدم نحوهما ...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى