سلمان التكريتي - افتتاحية خريفية لم تتم

القطار الكهربائي يجري بسرعة فائقة ، حتى لا يتمكن المرء من تأمل المنظر الذي يراه ، وان يتفحص الأشجار التي كانت تمتد بخطها الطويل مع سكة الحديد.
وكانت أدريانا تجلس إلى جانبي ، وهي تنظر إلىّ بعينيها السوداويتين الواسعتين في وجه ايطالي اسمر. وكانت أيضا ساكنة ساكته كأنما هي تتأمل شيئا في اللا وجود ، وعلبة السكاير بين أصابعها ، تعبث بها في محاولة لتدخين سيكاره وإشارة منع التدخين تطل علينا تحت نافذة عربة القطار تحدق فينا كأنما هي تهددنا.
قلت : أدريانا ! فرفعت رأسها نافرة كأنما كانت تنتظر مني أن أتكلم. فقد كنت اخجل من روبرتو الذي كان يجلس قبالتي. وارتجفت شفاها وتشوفت بعنقها وأخذت تقترب مني وتقترب ، حتى التصق جنبانا فشعرت بدفء جسدها اللدن وهو يتأود على ذراعي اليمنى ...تريد أن أتكلم فقد كان روبرتو يعرف كل الحديث الذي دار بيننا ، لأنه هو الذي كان يترجم لنا ما نتحاور به فماذا أقول لها !؟ ولكني مع ذلك قلت لها بالانكليزية هامساً : سنصل بولونيا فقالت : نعم ادري ، قلت : وستزلين معي ، فأشارت برأسها مستجدية ثم أضافت بالانكليزية : ساجئ معك إلى بولونيا على أن نذهب سوية إلى ميلانو قلت : اذن تتكلمين الانكليزية ! قالت : نعم ، قلت ولماذا أخفيت ذلك عني طيلة السفرة ؟ فضحكت ولم تجب ...والقطار الكهربائي يجري بسرعة ، وبولونيا بدأت تقترب والشمس شرعت تنحدر نحو الأفق الغربي.
قلت : وفهمت كل ما قلت وما ترجمه روبرتولك ولي.
قالت : نعم ، فقد أردت أن أعرفك ، قلت : وهل عرفتينني ، قالت :نعم.
قلت والآن؟! قالت : سنذهب سوية إلى أي مكان قريب.
قلت : أنا ذاهب إلى تريستا ، فالوقت أدركني وأفضل أن تذهبي معي إلى تريستا ، أو نبيت ليلتنا هذه في بولونيا ، فالوقت بدأ يتقدم ، والليل اخذ يجوب المدن ولست احب أن ابحث عن فندق في الليل إذا كنت لا اعرف المدينة ، إضافة إلى انه لا بد من تبديل القطار الصاعد إلى تريستا ، وأنت لن تبدلي قطارك هذا الذاهب إلى ميلانو قالت : لماذا لا تريد الذهاب معي إلى ميلانو ، فهناك قلعة " كاستيلو لاسكالا " قلت : أنا أريد الذهاب معك ، ولكن ليس إلى ميلانو ، وأنا اعرف قلعة " كاسيتلو لاسكالا " بل وسمعت فيها في العام الماضي وفي مثل هذا الشهر " آب " المغني الايطالي " لوتشيانو بافاروتي " .
قالت : وهل تعرف " لوتشيانو بافاروتي " ؟ قلت : أنا أحب الموسيقى السيمفونية والاوبرالية ، أحب روسني وفردي وفاغنر ". فقد سمعت عايدة ولا ترافياتا من لوتسيانو بافاروتي ، كما سمعت تريستان وازولد لفاغنر وخلاق اشبيلية لروسيني وهي تغنى على المسرح.
قالت : كفى .. كفى ..من أنت !؟ لقد بدأت تخيفني، قلت: وماذا كنت تتصورين أن أكون ؟! قالت : كنت اعتبرك عربياً لا يعرف سوى الصحراء والخيام والجبال ، قلت : وأناس لا يعرفون الأكل بالشوكة والسكين وبيوتهم تعج بالدجاج والأغنام والبترول الذي جلب لهم الغنى وينهب أكثره المستعمرون ! قالت : بالضبط ، سوى رؤى خيالية عن ألف ليلة وليلة في بغداد ، قلت والآن ... ؟! قالت لست ادري ! قلت : هل تعرفين إن العالم الحديث مدين لايطاليا؟ قالت : نعم ، قلت : وهل تدرين أن ايطاليا مدينة لنا نحن العرب.
قالت : لم يعلمونا هذا في مدارسنا ، وكل ما نعرفه عن بلاد العرب ، هو الصحراء والرمال والجمال والبترول وان العرب قوم متخلفون يحبسون نساءهم في البيوت ، ويبحثون عن نساء غيرهن ، وأنا طبعاً لا افهم هذا أبدا.
قلت : من أين تسلمتم انتم الإيطاليون الحضارة بعد انهيار حضارة الإغريق بضربات العسكرية الرومانية ؟ قالت : هذه الحلقة مفقودة في دراستنا ولا نجسر على السؤال عنها .
قلت : وربما قد اكتشفت الآن هذه الحلقة المفقودة .
قالت : ربما ! قلت : هل سمعت موسيقى شهرزاد لرمسكي كورساكوف قالت : لا : وترنحت برأسها على صدري ، وقد أسبلت جفونها كأنما تريد أن تستسلم لإغفاءة قصيرة ، والشمس قد أخفتها الجبال العالية التي ظهرت كأنها آجام خضر عالية لسعة الغابات التي غطتها . وبدأ القطار يخفف من سرعته بعد ان آلت الشمس نحو المغيب ، وأخذت الجبال تبدو قاتمة السواد. وتباطأ القطار ... ثم توقف في محطة بولونيا . الناس فيها وقوف ينتظرون على أرصفة المحطة ، فأنزلت حقيبتي من رف عربة القطار وناديت أوريانا إذ كانت تدخن سيكارتها في عربة القطار مع بعض الفتيات فاقتربت مني وهي تتسم وشفتاها تختلجان ، قلت : هيا يا أدريانا ! لقد توقف القطار ، قالت : لا لن انزل في بولونيا ووداعاً . قلت : ماذا ؟! وداعاً ..وأي وداع هذا ؟ اما قلت بأنك ستنزلين في بولونيا قالت : بلى قلت هذا ، ولكني أريدك أن تذهب معي إلى ميلانو ، قلت : أنا اذهب معك إلى ميلانو ، أن نزلت معي في بولونيا على أن نبيت في بولونيا ليلة واحدة ثم نغادرها غداً وفي الصباح الباكر في أول قطار صاعد إلى ميلانو ، قالت لا : أبدا ، أنا لن انزل ... وشفتاها مازالتا تختلجان والجو لم يكن بارداً ، وعلبة السكاير بين أصابعها تعبث بها ، قلت : هيا ياادريانا ، فالوقت قصير جداً ، ولقد نزل جميع الركاب القادمين الى بولونيا ولم يبق الأنا والمسافرون بدأوا يصعدون.
انسحبت أدريانا إلى داخل عربة القطار لتفسح المجال للمسافرين للمرور ثم جلست منتحية جانباً من العربة التي لم يبق فيها سوى روبرتو ، بعد أن نزل جميع ركاب العربة ، ومدت رجليها على الكرسي الطويل ، ووضعت يدها تحت صدغها الأيسر ، متكئة بمرفقها إلى ذراع الكرسي دون أن تنتظر شيئاً ما . نزلت عندئذ من عربة القطار ، وأردت أن انزل من سلم الرصيف الحادي عشر لأعبر النفق الذي يقطع العشرة أرصفة الباقيات لكني ما نزلت سلم النفق : ظلت واقفاً انتظر لحظة الوداع الحقيقية ... لحظة إن تلوح لي أدريانا في الأقل من نافذة عربة القطار، والقطار يتحرك، ثم وهي تراني أغادر المحطة ، وأنا أراها تبتعد في عربة القطار وتبتعد وهي تلوح بيدها حتى تختفي قبل أن انزل إلى نفق العبور إلى باب المحطة لكي نزلت ووقفت على رصيف المحطة الأول وأنا انظر إلى القطار الصاعد إلى ميلانو ، على أن أراها تقف أمام نافذة عربة القطار ...وانتظرت عدة دقائق والقطار لم يتحرك وهي لم تظهر في النافذة ... ولم ادر لم توقف القطار كل هذه الفترة وأنا واقف انتظر حركته لكنه لم يتحرك ... لا يقف القطار عادة في أية محطة أكثر من بضع دقائق لكنه في محطة بولونيا مع ذلك ظل واقفاً بعد أن مرت خمس دقائق. ومرت دقائق أخرى لا ادري ما حسابها ، ولكن بعد أن نزلت من الرصيف الحادي عشر إلى النفق وقطعت العشرة أرصفة الباقيات وصعدت إلى الرصيف الأول ثم وقفت أمام باب المحطة وأنا أتطلع إلى القطار الذي تجلس فيه أدريانا ، اختلطت عندي القطارات كما اختلطت الأرصفة لتبعدها عني ولتقاربها من بعضها ، إضافة إلى عتمة الغروب وحركة القطارات بين الأرصفة والأضواء الكهربائية لا تفيد في لحظات الغروب هذه .
انطلقت من باب المحطة بحثاً عن فندق غير قريب، كي، يكون نظيفاً وقليل النزلاء ، وسرت عدة مئات من الأمتار على شوارع مدينة بولونيا المظلمة . فقد كانت الأضواء في الشوارع ما تزال مطفأة و واجهات معارضها لم تكن منارة أيضا لكني رأيت عن بعد لا فتات ضوئية لعدد من المحلات، فكنت أتقدم نحوها ، فأذابها حانات ومطاعم ، فتجاوزتها حتى اقتربت من لافتة ضوئية فإذا بها " فندق الريفيرا" فتقدمت نحوه .. ودفعت بابه الزجاج ودخلت فإذا في مكتب الاستقبال رجل كهل وخط المشيب شعر رأسه ، قد انشغل بحسابات الفندق وحده.ودون أن اسمع حركة أو نأمه في الفندق ، سرت عدة خطوات فصرت أمام المكتب الطويل ، ووقفت واضعاً يدي على سطح المكتب الذي يفصلني عن الرجل الكهل المشغول بحساباته الفندقية. ولم اكلمه ، ولم ابد أية حركة ، حتى رفع رأسه ، فقلت له : أريد غرفة لشخص واحد فقط ، قال : هي موجودة وان شئت فهيا لتراها قلت لا داعي لذلك فان بهاء الفندق ونظافته ينمان عنها ، فابتسم الرجل وناولني مفتاح باب الغرفة في الطابق الرابع وقد أستأذن يطلب جواز سفري ، فقلت له : أنا أعطيك إياه قبل أن تطلبه ، لأني أخاف لصوص ايطاليا. فضحك الرجل مثلما ضحكت وقال : ليست كل إيطاليا لصوص ، قلت له : اعرف ذلك ، ولكن كيف اعرف اللصوص من غيرهم . فضحك الرجل الثانية وتناول جواز سفري وأخذت المفتاح صاعداً بالمصعد الكهربائي الذي لا يسع لأكثر من شخصين مع حقيبتيهما في أية حال من الأحوال.
لم اخرج تلك الليلة من الفندق ، فقد تناولت عشائي فيه ، وشربت قدحين كبيرين من الجعة الايطالية . وفي الليلة الثانية طلبت من الرجل الكهل ذاته أن يوقظني في الساعة السابعة صباحاً لألحق بقطار الساعة الثامنة وعشر دقائق ، وبالفعل رن جرس التلفون صباح اليوم الثاني ، فسمعت الرجل يتكلم بالإيطالية ، فقلت له : عفواً سيدي أرجو أن تبلغني عن الساعة في هذا الوقت ، فقال : هي الساعة السابعة تماماً فشكرته وأقفلت سماعة التلفون ، وبدأت اجمع أمتعتي ثم نزلت في تمام الساعة الثامنة الا ربعاً ، فانا لا احتاج أكثر من عشرة دقائق للوصول إلى المحطة ، وتبقى لدي ربع ساعة وهو وقت كافٍ لتناول الفطور في مطعم المحطة الأنيقة.
جلست على إحدى مصطبات قاعة الانتظار في المحطة بعد أن تناولت طعام الإفطار واقفاً في مقهى المحطة ولأن الجو كان غائماً ويشوبه شيء من البرد ، ولا يستحسن الجلوس على احدى مصطبات أرصفة المحطة ، وأخذت أتأمل الرائحين والغادين على الأرصفة عبر زجاج نوافذ القاعة. فالقطارات تمر بالدقائق وليس بالساعات ، وقد كان الكثير من المنتظرين ينامون على مصطبات قاعة الانتظار أو هم مستسلمون لإغفاءة وهم جلوس ولم يجذب انتباهي جلوس فتاة القرفصاء على المصطبة التي كانت أمامي فلم اعبائها بها كثيراً ، إلا انه قبل أن أرد بصري عنها ، رفعت رأسها ، نعم رفعت رأسها فإذا بها أدريانا ، ماذا ؟! لم اصدق, لا يمكن أن تكون هي أدريانا ، حتى إن كانت بقميصها الأصفر وسراويلها البيض الضيقة وشعرها الأحمر ولم أتأمل بعد ذلك شيئاً فيها ، فان النساء الغريبات قد يتشابهن بالنسبة لنا لأول وهلة ، لكن العجب زال فيما نهضت الفتاة ..أدريانا ، بجسدها وقوامها الممشوق ..وتقدمت نحوي ، وقد ارتسمت على شفتيها ، مخايل ابتسامة حزينة ، ثم ركضت نحوي ، وأنا لا ادري ماذا افعل فقد لاتكون هي ...أدريانا . وقد تكون هذه الفتاة الشبيهة بها تبتسم لأحد يقف أو يقبل ورائي وهو يتقدم نحوها أو يقف في مكان ما من القاعة ، بحيث لا أراه . لكنها أقبلت نحوي تماماً. وعندما وصلتني جثت أمامي لأني كنت ما أزال جالساً ووضعت يديها على ركبتي ، اذن هي أدريانا حقاً وليست فتاة أخرى تشبهها كما حسبت أو خمنت . قالت أدريانا : رشيد !" ولم تقل أأنت رشيد " لأنها عرفتني تماماً بحيث انها لم تشك في مثلما شككت أنابها فنهضت وأنا امسكها من ذراعيها فتعلقت بعنقي وبدأت تتقافز في مكانها ...ورفعت قدميها عن الأرض فإذا بها تتدلى بعنقي ، فوضعت يدي حول خصرها النحيل ، وأخذت اقبلها أمام الناس القادمين والرائحين ، مثلما تقبلني هي ، والناس لا ينظرون إلينا فأمرنا لا يعنيهم ، ولماذا يتطلعون إلى حبيبين قد التقينا تواً في المحطة ، وكلهم يتأبطون اذرع عشيقاتهم ويقبلونهن أو يقبلنهم ، وهن متعلقات بأذرعهم أو هم يلفون أذرعهم حول خصورهن وحدقت في وجه ادريانا.
قلت لها : ماذا أرى ؟! أين كنت طيلة الليلتين اللتين مضتا...أو ماذا جاء بك إلى هنا في مثل هذه الساعة؟! والى أين تذهبين ؟ قالت: أنا في المحطة منذ أن غادرتها أنت ... وما قررت الذهاب إلى أي مكان ، فانا كنت انتظرك قلت: كنت تنتظرين طيلة هاتين الليلتين ! قالت : نعم وماذا في ذلك ! قلت ليس فيه شيء ، ولكن قولي الحق منذ متى أنت تنتظرين ، قالت : أما قلت لك منذ غادرت أنت المحطة ، قلت: ليلتين كاملتين ونهار واحد؟ قالت: نعم ، قلت : وأين بت هاتين الليلتين ؟! قالت : في المحطة ، قلت : تقصدين فندق المحطة ، قالت : لا ، إنما على مصطبة المحطة هذه بالذات ، قلت : أنا لا اصدق ، قالت أن شئت فصدق ، وان شئت فلا تصدق ! ولكن اسمع ما سأقوله لك . فأنت غادرت المحطة ، وأنا لا ادري أين اتجهت ، وكنت قد قررت أن لا أواصل سفري إلى ميلانو لأبيت فيها ليلة واحدة ، ثم أتوجه بعدها إلى " بيركامو" كما تعرف ، لكن القطار أطال وقوفه في المحطة ما ينوف على العشرة دقائق ، وهذه الدقائق كانت كافية لتبديل رأيي والعودة إلى صوابي . وكان روبوتو ينظر إلي ولا يجسر على أن يكلمني ، وكانت حقيبتي على ارض العربة بين ساقي كما تعلم أيضا ، وليست على رف عربة القطار فأخذتها ونزلت قبل أن يتحرك القطار، وظل روبرتو يتطلع إلي بضع دقائق ، فما شاهدتك فخمنت إما انك استقللت سيارة أجرة ، وإما انك مرقت إلى احد الشوارع الخلفية . فشعرت أن البحث عنك لا يجدي في مثل هذه الساعة. قلت: وبعد ! قالت: ظللت انتظر في المحطة لأنك لابد عائد لتأخذ قطارك إلى " فينيسيا" فأنا اعلم ذلك ، وأنت لن تبقى أكثر من ليلة واحدة ، لأنك تريد أن تصل تريستايوم 20 آب ، لكنك بقيت ليلتين . قلت : وأنت في المحطة طيلة هاتين الليلتين ! قلت : لم اذهب إلى أي مكان خوفاً من أن تمر فلا أراك حتى وان كنت اعلم انك تفضل القطارات الصباحية . قلت: وأين كنت ساعة حدوث الانفجار نسف مطعم محطة بولونيا في الليلة الفائتة ؟ قالت : في المحطة طبعاً، وفي مكان هذا ، قلت ولم تخافي ! قالت : ظللت في مكاني لا أتحرك حتى ولم اذهب لمشاهدة انظر . فماذا سأرى ؟! حطام وأشلاء الناس . وربما أطفال أيضا ، فالساعة كانت مبكرة من المساء ، وقد قتل ما ينوف على الخمسين . قلت : ولم تتحركي ! قالت : لأني لم اخف ولاني لست مستعدة لان أرى هؤلاء الضحايا ، ولان هؤلاء الضحايا لا يحتاجون إلى مساعدتي ، فهم ليسوا في عزلة ، فلقد هرعت حالاً قوات الشرطة والأمن والإطفاء والإسعاف. قلت : والآن ! قالت : لنذهب إلى تريستا بعد أن قضيت ليلتين في فندقك الجميل ، وبعد أن قضيت أنا ليلتين على هذه المصطبة على قاعة انتظار المحطة . قلت : لا . لن نذهب الى تريستا . قالت: وأين تريد أن تذهب اذن ؟ قلت: إلى ميلانو ثم بركامو . فأشرق وجهها بابتسامه رسمت على خديها غمازتين زادتها بهجة وإشراقا ، ثم أخذت تتقافز في مكانها وهي تتعلق مرة بعنقي وتضرب على كتفي بضربات رقيقة عجلى مرة أخرى.
كان قطار الساعة الثامنة والربع الصاعد إلى فينسيا قد تحرك ومضى .
فلم نخرج من قاعة المحطة ، بل قررنا انتظار قطار الساعة التاسعة والنصف الصاعد إلى ميلانو ثم بركامو بعد أن اشتريت بطاقة جديدة واحدة لان بطاقة أدريانا مازالت سارية المفعول خلال الأيام الثلاثة . ولم نجد صعوبة في حشر نفسينا في إحدى عربات القطار الصاعد نحو ميلانو ، فقد كان العديد من العربات خالية إلا من قليل الركاب . فكان أن احتللنا مقصورة لا يوجد فيها إلا رجل واحد قد انشغل بقراءة جريدته الصباحية ، واخذ القطار يجري بنا نحو الشمال ، ويصعد بنا في الجبال ، ويخترق الأنفاق العديدة . وما ان حل العصر إلا والقطار قد وصل ميلانو بعد أن اخذ ينحدر إلى سهل اخضر من الأرض تحيط به الجبال الشاهقة ، وقد بدا منظرها غائماً لكثرة الضباب الذي كان ينتشر على مبعدة من القطار.
لم يبق بيننا وبين مدينة بيركامو سوى مسيرة ساعة واحدة بالقطار ، ونحن في المحطة ، ولم ننزل من عربة القطار. وفي ميلانو يتوقف القطار بضع بحيث يتمكن المسافر أن يشتري بطاقة سفر ويعود ثانية الى القطار فقالت أدريانا : لا أريد أن نذهب إلى بركامو ، قلت: إلى أين تفضلين التوجه ؟ قالت : إلى مدينة دومودوسولا ، وهي تقع في أحضان جبال الألب ولا تبعد بأكثر من ثلاثين كيلو متراً عن مدينة "زيرمات " السويسرية التي تطل على أجمل الوديان السويسرية ، وقد يشوقنا أن نتغدى يوماً في احد مطاعم شاليهاتها الرائعة. قلت: انها فكرة رائعة أن نرى إحدى المدن السويسرية ونقضي فيها يوماً أو بعض يوم ، والقطار يجري بنا سريعاً وهو يتسلق الجبال المغطاة بغابات الصنوبر واللوز والكستناء.
قضينا بضعة أيام في مدينة دومودوسولا وعبرنا الحدود الايطالية وتغدينا في مدينة " زيرمات " السويسرية ، ثم قررنا العودة إلى ميلانو ، قالت : أنا لست من ميلانو ولا من بيركامو . قلت من أين اذن . قالت : من تريستا قلت : كنت قادمة منها إلى (انكونا) ، وفي طريق عودتي التقينا ، فأردت أن يطول لقاؤنا ، فلم أجد الا هذه الطريقة لاقتناص الوقت. وتغيرت تعابير وجهها ، كأنما غيمة قاتمة قد غطت وجه السماء فادلهمت الدنيا كأنما هي تنتظر المطر ، والمطر لاينفك يهطل كل يوم في دومودوسولا في الصباح أو عند العصر ، والشمس تصارع في وقت الظهيرة لتخرج أشعتها من بين الغيوم فتستقبلها العصافير هي تنفش ريشها على أفنان الشجر ، فكان لابد أن تأتي معي إلى تريستا ولا تصعد إلى بيركامو أو ميلانو كما حسبت . ولم نذهب إلى قلعة " كاستيلودي لاسكالا" ولم نسمع صداح لوتشيانو بافاروتي في إحدى أوبرات فردي أو فاغز . قالت لي أدريانا . أراك قد أحببت تريستا مثلما احببت بغداد وقلت لها احببتهما بالرغم من كل الاختلاف بينهما. فتريستا تقع على أعتاب البحر وبغداد تقع على أعتاب الصحراء ، وتريستا تظللها غيوم ماطرة أكثر أيام السنة وبغداد تتلفع بدثار ذهبي من منسوج أشعة الشمس. فأضافت أدريانا : لماذا أحببت تريستا مثلما أحببت بغداد ؟
قلت : لان غيومها واطئة مثل ضوء الشمس في بغداد ، قالت : ثم ..! قلت : لان البحر أمامها كأنه صحراء رمادية ، وألقت أدريانا برأسها على صدري ونظراتها تخترق نافذة عربة القطار ، ثم مدت يدها اليمنى وأخذت تداعب صفحة خدي وذقني الحليق بأناملها الرقيقة ، وشرعت تدنى وجهها من وجهي ، فقربت وجهي من وجهها وأطبقت شفتي على شفتيها من قبله حييت فيها كل ما يعقل في قلبي من شوق ، ولم اشعر الا بأنفاسها الحارة تلهب وجهي وصدرها يعلو ويهبط وجسدها يرتعش ارتعاشة الخوف : فقلت لها : ما بك ياادريانا ؟ قالت : احبك قلت : ادري ولكنك ترتجفين . قالت : خائفة . قلت مم؟ قالت منك.. قلت؟ ماذا تعنين ؟ قالت أنت رهيب. فعجبت من الامر . وبدأت أنكر وجودي ، فقلت : أين مواطن الرهبة في ؟ قالت : حبك . فضحكت ، لكنها هي لم تضحك وظلت متجهمة الوجه . ثم أردفت : لماذا جعلتني احبك . قلت : كانت لك حريتك وخيارك . قالت : لكنك سلبتهما مني قلت : أنت حفية بالحب . قالت: لانه سر الحياة . قلت اذن أنت تستمتعين بالحياة . قالت : لو لم تكن أنت موجوداً في حياتي !! قلت : والآن ؟ قالت : لقد ملكتني ، فبدأ اليأس يحفر أخاديد العذاب ، ويغرز الشقاء إبر الموت في قلبي : قلت أنت متشابهة .
قالت : لأني احبك . قلت : ومن الذي يمنعك عن هذا الحب ومباهجه؟.
قالت: أنت ! قلت: كيف أمنعك وأنا لك أن شئت مثلما تقولين أنت لي .
قالت: أنت تكذب . قلت : أن لا اكذب على من أحب ! قالت : اذن ابق معي هنا في تريستا ،والقطار كان قد وصل فعلاً محطة تريستا . قلت : سأبقى معك فعلاً في تريستا. قالت: أنت دائماً تتلاعب بالألفاظ . قلت : ماذا تقصدين ؟ قالت: أريدك أن تبق معي هنا في تريستا لا تغادرها إلى حيث حبك الأصيل في بغداد الشمس . قلت : لا اقدر لان إجازتي الصيفية قد أشرفت على الانتهاء . قالت: اذهب أنا معك إلى بغداد الشمس . قلت لا اقدر أيضا فأنت تعلمين أني متزوج ولدي بضعة أبناء وبنات . قالت : وهل حسبتني عابرة سبيل مرت في حياتك الصيفية كما تمر سحابة صيف عبر صحرائكم الشاسعة .قلت : هكذا علمتمونا انتم الأوربيون. الحب سحابة صيف سرعان ما تنقشع . قالت: لكنك لم تكن عابر سبيل في حياتي . قلت : لكنك شابة وفي مقتبل عمرك الفتي : قالت : إن الأيام التي قضيتها إلى جانبك كانت اسعد أيام حياتي . قلت : اذن دعيها للذكرى . قالت : هذه الطرافة في حديثك هي التي حببتك إلي فأحببتك مثلما أحب ذاتي . قلت : اكف عنها اذن . قالت : هيهات أن تفعل فلقد فات الأوان .فهذه سجيتك ، ولا يمكنك أن تنقلب على هذه السجية.
نزلنا من عربة القطار واجتزنا نفق المحطة ، وقبل أن نصل بوابة المحطة ، قالت أدريانا : لا شك انك تفضل الذهاب إلى فندق " لورنزا" الذي حدثتني عنه ، قلت : بالتأكيد ! فهو بعيد عن المحطة وفي شارع فرعي ، وبهي القاعة إضافة إلى التلفزيون الذي قد نشاهد على شاشته إحدى الأوبرات الايطالية . قالت: أراك لا تريد أن تخرج هذا المساء من الفندق . قلت : هذه عادتي في أول ليلة أبيتها في المدينة التي أصلها ، فإذا أصبحت وتعرفت على معالمها وأجوائها ، يمكنني في المساء التالي أن اختار المسهر الأثير وأمام شاشة التلفزيون كانت أدريانا تقترب مني وتلقي رأسها على ذراعي فأحيطها بهما ، وهي تردد بين الفينة والفينة قائلة: أحقا ستتركني وحدي في تريستا وتعود إلى بغداد الشمس الساطعة ؟ فأقول لها: نعم وسأعود في العام التالي . فتقول : متى ستسافر ؟ فأجيبها : بعد غد . قبلتني وقبلتها على جبينها مرة وعلى ثغرها مرات . وجلست على ركبتي ولفت ذراعيها حول عنقي وهي تردد ! لن اقدر على مفارقتك لحظة واحدة ، فكيف اقدر على مفارقتك عاماً كاملاً أن أحسنت الظن بك ، وصدقت انك ستعود إلي ثانية في الصيف القادم . وشربنا أربعة كؤوس من الجعة الايطالية ، وهي ما تزال تجلس على ركبتي وأنا أتطلع إلى وجهها مرة والى شاشة التلفزيون مرة أخرى حتى بعد أن آوى جميع النزلاء إلى غرفهم ورجاني صاحب الفندق أن أغلق التلفزيون إذا قررنا الإيواء إلى غرفتنا . والتفتت إلى أدريانا وهي تقول : أين تذهب غداً ؟ قلت : حيثما تشائين . قالت : إلى البحر . قلت : لا اعرف العوم . قالت: وأنت ابن النهرين العظيمين دجلة والفرات!
قلت : هكذا شاءت الظروف ، فانا وحيد أبوي وكانا يخافان عليّ من الغرق . قالت : ليس كل الناس الذين يأتون إلى البحر يعرفون العوم. فمنهم من يقضون وقتهم بين الاستلقاء على الشاطئ لتعريض أجسامهم لأشعة الشمس أو الخوض في المياه الضحلة القريبة من الشاطئ ، ومنهم من يستمتعون بالنظر إلى الذين يعومون او يلعبون في البحر . قلت : وأنت ! هل تعومين بمهارة ؟ قالت: سترى بعينيك كيف أعوم وكيف أثير استغراب جميع رواد الشاطئ.
كنا نتوقع أن يكون الجو صافياً ، والشمس ساطعة . لكن المطر بدأ يهطل رذاذاً في منتصف الليل ، ومع ذلك ما أن أصبح الصباح حتى كانت شوارع تريستا قد اغتسلت بمياه الأمطار ، والغيوم مازالت تحجب الشمس وتغطي الجبال القريبة من المدينة . لكن قبل أن ينتصف النهار أشرقت الشمس وتبدت الغيوم فوق قمم الجبال . أردت أن اثني أدريانا عن عزمها في الذهاب إلى الشاطئ ، إلا انها ظلت مصرة . فنزلت عند رغبتها وأخذنا متاعنا وبعض لوازم العوم. ومع أن الشواطئ الرملية لم تكن بعيدة كثيراً عن قلب مدينة تريستا الا إننا ذهبنا بسيارة أجرة كانت أدريان فيها منشرحة كل الانشراح ، مبتهجة كل البهجة ، حتى انها حينما نزلنا من السيارة أخذت تجري بسرعة نحو اقرب كابينه شاغرة لتخلع ملابسها وتستبدلها بلباس البحر ، وفيما ظهرت أدريانا في المايوه الأسود ذي القطعتين الذي تطرزه خطوط ناصعة البياض تشكل رسماً كأنه ورقة التوت ، بدت كأنها دمية خزفية في صحن من البلور . وفي هذه اللحظة انتبهت إلى العلم المرفوع على الشاطئ ، فإذا به اسود ، بعد أن كنت قد رايته احمر قبل أن ننزل من السيارة . وكانت الشمس قد اختفت تماماً خلف تخوم الغيوم وازدادت حركة حرس الشواطئ ، وأخذت قوارب الحراسة البحرية تقترب من الشاطئ أيضا . وركن أكثر الناس إلى الشاطئ خارجين من مياه البحر والذين ظلوا يعومون ، فأنهم لم يبتعدوا أكثر من مئة متر عند الشاطئ ، بينما صفارات حرس الشواطئ لم تنقطع عن الصفير لتنبيه الذي يبعدون عن الشاطئ ، لان أمواج البحر بدأت تتلاطم وتقترب من الشاطئ فتتكسر بقوة عند صخوره . وكم كان في يخالج شعور التحدي الكثير من الفتيات والفتيان فيقفون بوجه الأمواج العاتية ، معتقدين إنهم يتمكنون من الصمود أمامها ، لكنها كان تصرعهم الواحد تلو الآخر وهم يتضاحكون والتفتت إلي أدريانا وأحاطت بذراعيها عنقي وتعلقت بها ، وقبلتني فاحتضنتها باستحياء وقبلتها أيضا ، ثم نفرت من بين ذراعي جارية نحو البحر وركضت اتبعها بخطواتي العريضة ، لكني لم الحق بها ، فقد ارتقت صخرة كبيرة غاطسه قريبة من الشاطئ ، ثم قفزت منها وغطست في الماء ثم أخذت تعوم بين العديد من الفتيان والفتيات اللاتي كن قد توقفن عن العوم لكنهم، حينما راينها تعوم بخفة ورشاقة ، أغراهن العوم ، وانجذبن إليه ، إلا انها كانت قد ابتعدت عنهن فلم يتمكن من اللحاق بها وأنا واقف في ماء البحر الذي لم يرتفع إلى أكثر من منتصف قصبة ساقي.والعلم الأسود يرفرف على الشاطئ . وأخذت صفارات حرس الشاطئ تنبه الفتيان والفتيات اللائي ابتعدن في عومهم وأدريانا تتقدم أكثر وأكثر وتبتعد عن الشاطئ أكثر وأكثر ... الصفارات تعلو بصفيرها ... وأنا ما أزال واقفاً في مكاني ، وهي تبتعد وتبتعد حتى غابت عن الأنظار . فهرعت زوارق الحراسة نحو البحر ، واوغلت في عرض البحر ... والصفارات لا تنقطع عن الصفير والناس وقوف في الماء أو على الشاطئ ، وهم ينتظرون هلعين.
وقدمت بضعة زوارق ورجعت أخرى ، ويمت نحو اليسار ونحو اليمين ... لكنها كانت تعود في كل مرة دون ان تعثر على أدريانا . ومضى الوقت ... ومرت ساعتان من الزمن والصفارات تصرخ بوجه البحر والزوارق تجوب البحر ، ولا اثر لأدريانا . بحثوا على مدى ساعتين في عمق أو امتداد عدة كيلومترات وباتجاه اليمين أواليسار.... لكنهم أيضا لم يجدوها . عندئذ سلموا بالأمر الواقع وطلبوا إخلاء البحر نهائياً من العوامين ، وذهبت زوارق الحراسة إلى أماكن انتظارها وركنت أخرى إلى مواقع مراقبتها ... وذهب رواد البحر إلى أوكارهم ولبسوا ملابسهم والوجوم يخيم على وجوههم والأسى يرين على قلوبهم ...وفرغ الشاطئ من الرواد ....فصوبت نظري نحو البحر . البحر العريض فلم أشاهد سوى الأمواج وهي تتلاطم مقتربة من الشاطئ لتتكسر عند صخوره . ثم جمعت لوازمي ومتاعي ... وأبقيت لوازمها وملابسها معلقة على مشجب الكابينة ... الثوب الأبيض الذي كانت تطرزه زهرات اللافندرالشبيهة بورقة التوت الدقيقة وقميصها الأصفر الرقيق ذا الأكمام العريضة.

* قاص وكاتب ومترجم عراقي راحل

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى