سيامند هادي - المظلات الجافة.. ت: دانا احمد مصطفى

جميع هؤلاء الذين شاركوا في تشيع جثمان ذلك الرجل، حتى بعد سنين طوال كانوا يتداولون ذكر المطر الغزير الذي هطل عليهم في ذلك المساء المتاخرة. كانت المرأة تروي باكية ومرارا، ايلاج الجثمان الي القبرمثل منظر قطعة شجرة عندما تلقى في البحر، في نهاية روايتها كانت تقول: ان الماء قد عم قبره، تروي مشهد ذلك المساء بشكل يبدو من محياها انها لاتستطيع ان تنسى ذلك اليوم الي يوم مماتها.
لم يكن بمقدور احد ان يتوقع هطول المطر بتلك الغزارة. لم يهطل المطر الى ان غسلوا جثمانه واعدوه لياخذوه الى المقبرة. لكن عندما شرعوا باخذه الى المقبرة هطل الغيث. لكن عندما ذهب الجمع مع الجثمان الى المقبرة هطل المطر بشكل لم يتوقف الى ان عادوا.
الذين حضروا مراسيم الدفن بللهم المطر بشكل وقد امتلئت احذيتهم بالمطر، مع ان ناس سعوا جاهدين لكي لا يمتلئ القبر بالماء لكن المطر الغزير احدث عددا من الجداول وامتلء القبر به"من محتمل ان يبقى ذلك الرجل مبلولا الى يوم قيامة"قال رجل بعد عودتهم من المقبرة.
لم يرى شجرة من مقربة القبر ليلتجئ اليها الذين كانوا شاركوا و يشاهدون مراسيم الدفن، في وقت قصير جعلت المطر التراب وحلا واصبح ناس يمشون في النقع، وان زخات المطر كانت تتساقط مسرعة على بركات الصغيرة من الماء تحت اقدام الموجودين وتصبح وحلا تلطخ ركبتي الذين كانوا واقفين قبالة الجثمان. عند وضع الاحجار داخل القبر خدش احد الاحجار يد واحد من الرجال بلغت البطش حدا لم يندمل الجرح الا بعد مرور شهر. في ذلك الوقت لم يحس احد بجرح يد ذلك الرجل الا بعد ان ذكر الرجل الحادثة بعد مرور ايام.
ما هو موقع التعجب لدى الناس هو لماذا دفنوا الجثمان في ذلك المساء المتاخر ولم يؤخروه الى الغد؟ غالبية هؤلاء الماثلين في المقبرة برروا تلك السرعة بأن احدا لم يحدس غزارة الهطول المطر في ذلك المساء.
بعد مرور اسبوعين على ذلك المساء قال الرجل) الحت على الناس كثيرا في ذلك المساء كي يؤخروا دفن ذلك الرجل الى الغد، انني شعرت من تلقاء نفسي، وقد خطرببالي انه من الافضل ان لايدفن في ذلك المساء المتاخر، لكن لم يصغ احد الى كلامي).
رغم انه لم يسمع احد كلام ذلك الرجل الذي قاله في ذلك المساء، لكن كلما ذكرت مآسي و وجعات ذلك المساء وهو بدوره يكرر قوله ذلك"كانت نظرة بعض من هؤلاء الحاضرين وقت دفن الرجل في ذلك المساء نظرة غير عادية، كانوا يعتقدون ان هطول الغيث بتلك الغزارة لم يأت سدى، بل ارادوا ان يعزوه الى موت ذلك الرجل.
رغم ان الكثيرين لم يحبوا ذلك الرجل بسبب طبيعته وشخصيته و تعامله الا انه لم يشعر باي شيء يوميء الى خساسته. وبعد بضعة اشهر، عندما كان يجتمع اهل المحلة بمكان وتداولوا موت ذلك الرجل، كانت امه تود دوما ان تقنع الناس بان ابنه حدس بانه سيموت. لذلك ففي تلك الاوقات تقول : في بداية مرضه كان يقول لي: (انني لن اشفي هذه المرة، وسيقتلني هذا المرض). مع ان الرجل بات راقدا في سريره مدة ستة اشهربسبب مرضه لكن امه لم تتفوه بهذا الا بعد وفاته.
كلما ذكروا المطر الغزير الذي هطل وقت الدفن ذلك الرجل، اندهشت امه لانها لم تحس بهطول المطر طوال دفن ابنه.
وعندما وضعوا الجثمان في القبر، قد ملأت الماء المطر القبر وذلك بسبب الجداول صغيرة من الماء التي صنعتها المطر الغزير حول القبر، حمل ثلاثة رجل الجثمان ليوضعوه في القبر واخفضوه لداخل القبر، وكان القبر حفر بنحو اجتمع مياه الامطار عند موقع وضع الراس، ورغم ان امه لم تنتبه الي كيفية دفن ابنها، الا انها وبعد ايام من موت ابنها، راته في منامها، وقد روت المنام لجيرانها بانها رات ابنها داخل قبره، حيث كان موقع راسه في القبر مملوءا بالماء، ورغم انها طلبت من اقربائها ان يحفروا القبر مجددا الا انهم اقنعوها ان تتراجع عن قرارها تلك.
كانت امه تتحدث باستمرار بان غالبية افراد عائلتهم يموتون بسبب مرض ما ويموتون شبابا ولم يبلغ سن اي واحد من الذين ماتوا الخمسين. كانت الام تتحسر علي موت ابنها كثيرا ليس لانه ابنها فقط بل كانت تقول انني اتحسر لانه لم يمت احد في عائلتنا في هذا السن المبكرة، ذلك لان ابنها مات في سن (الرابعة والثلاثين) وذكرت ذلك في اليوم الثالث في مجلس عزاء ابنها.
بسبب كثرة الزائرين ايام التعزية اضطروا لتقسيم الناس على كل الغرف الموجودة في البيت والايوان والممرات ايضا بلغ امر بهم الى تخلية غرفة صغيرة كانت تقع خلف البيت والتي خصصوها للاشياء غير ضرورية ليجلس الناس فيها وعندها اندهش الحاضرون لكثرة المظلات التي كان اطفال الجيران الى الخارج، كانت المظلات من كل حجم ولون (السوداء، الحمراء، بيضاء، كبيرة وصغيرة روى احد اطفال الجيران لامه بانه عد المظلات واحدة تلو الاخرى بنفسه حيث بلغت عددها (ثماني وستين) مظلة.
هذا الطفل كان له عادة عد الاشياء التي تقع على ناظره، في احدى المرات ذهب مع امه لبيت جيرانهم فلما عادت الام اخذت تتحدث عن ستائر بيت الجيران وعن جمال الستائر غرفتهم التي جلسوا فيها حينها قال الطفل بان الستائر كانت معلقة باحدى وعشرين حلقة، رغم ان الطفل لم يحب ذلك الرجل لكنه ذهب مع الجنازة الى المقبرة في تلك الامسية لتشيع الجثمان. كل الاطفال الذين ذهبوا الى المقبرة كانوا يذكرون ذلك اليوم كاسعد يوم في حياتهم بعكس الكبار الذين يذكرونه كاتعس يوم في حياتهم بانهم لاينسوها طوال حياتهم بسبب غزارة المطر التي بللتهم بشكل لايتصوره وكلما تحدثوا عن ذلك الرجل اصبحوا ينسوا الرجل ذاته ويتحدثون عن غزارة المطر التي سقطت في تلك الامسية.
قالت امراة معمرة التي كانت تقول بان عمرها (احدى وتسعون) ولكن اخرين كانوا يعتبرونها اكبر من ذلك، عن تلك المطر التي هطلت بغزارة في ذلك الامسية التي دفنوا فيها الرجل بان زخات المطر الكبيرة والسريعة ادهشتني جدا لانني لم ارى مثل تلك المطر طيلة عمري.
رغم ان ذلك الرجل لم يخرج الى المحلة قبل موته الا قليلا، لكن بعد موته والذين كانوا يعرفونه يرونه في منامهم كثيرا، ولما كانوا يرون مناماتهم لبعضهم كان يصادف ان يتشابه منام احدهم مع الاخر، وعندئذ قال رجل عن سبب المنامات بان الناس يفكرون في تلك الامسية التي دفنوا فيها الرجل قبل ان يناموا اذ قال انهم يفكرون في الرجل لحظة مماته وليس في تلك الايام الذي كان فيها على قيد الحياة. لان الرجل عندما كان حيا لم يكن على علاقة حميمية مع احد حتي يكون الذكريات مصدر تلك الرؤيا، لذلك ان اكثر الذين كانوا يعرفونه لم يكونوا يحبونه، حتى اطفال المحلة لم يكونوا يحبونه، ولايودون رؤيته ابدا، لانهم كلما لعبوا في المحلة يفتح باب بيته ويطلب منهم ان يبتعدوا عن المحلة و يبعدوا العابهم منها. لكنهم كانوا يلعبون لان المكان كان ملائمة مع العابهم. ذات يوم وعندما كان الاطفال يلعبون بالكرة امام بيتهم قد اصطدمت كرتهم بباب بيت الرجل عدة مرات، ففتح الباب و وقع الكرة بيده و اخذها معه وبعد برهة قلية اعادت الكرة وهي مخدوشة وكانت الكرة للطفل الذي كان له عادة عد الاشياء التي يراها يوميا.
الذين كانوا يعرفونه كانوا يشعرون بان الرجل يكره الجميع ولا يحبذ رؤية احد ولكنهم وبعد موته، لم يعد هذه الشعور موجودا عند احد، لانهم لم يتحدثوا عنه بسوء بل كان محور حديثهم المطر التي هطلت في تلك الامسية التي دفنوه فيها. رغم ان غزارة المطر جعلهم يسرعون في عملية الدفن الا انهم تاخروا و وانشغلوا بعملية الدفن لمدة ليست بالقليلة. باعتقاد الذين شاركوا في عملية الدفن اعزوا سبب التاخيرو اطالة مدة الدفن الى كثرة الذين شاركوا في مراسيم الجنازة و ان عددا من المشاركين اطالوا مدة الدفن بسبب مقترحاتهم وافكارهم حول كيفية دفن جثمان الرجل، قال احدهم فلنغطي الجثمان بنايلون قبل وضع الاحجار، وقال رجل اخر فلنطوي الجثة بالنايلون و نشده وبعدها نضعه في القبر، هذا وعدة مقترحات اخرى جعلهم يتاخرون في دفن الجثة و يبقون تحت المطر مدة طويلة.
كثرة الذين حضروا مراسيم الدفن يرجع الى اليوم الذي مات فيه الرجل، اذ انه مات في ظهيرة يوم الجمعة، لذلك فان الكثير من الذين حضروا صلاة الجمعة في ذلك المسجد الذي غسلوا فيهاجثمان الرجل شاركوا في مراسيم تشيعه. وكان يعتقد البعض اذا لم يمت الرجل في ذلك اليوم لما كان يحظركل هؤلاء الناس في مراسيم تشيعه.
رغم ان الناس لم يكونوا يحبون ذلك الرجل الا ان رجل منهم كان دائما يقول: (كان رجل يبدوا هكذا من بعيد، فان كنتم اقتربتم منه فقد كنتم تغيرون رأيكم الاول) وكان يقول ان الرجل كان صديق طفولته وحتى مماته لم يطرأ اي خلاف بينهما، لكن صمته و عزلته جعله يبدو هكذا للناس. حتى انه عندما كان في البيت فانه عادة يجلس في تلك الغرفة التي كانت تقع خلف البيت ويضع فيه العائلة اشياء تليدة و غير ضرورية و يشغل نفسه فيها باشياء، ولم يكن احدا من العائلة يردد الى تلك الغرفة غير الرجل، ولكنهم في ايام التعزية اضطروا الى ان يخلوا الغرفة ليجلس الناس فيها.والذين شاهدوا الكم الهائل من المظلات التي جمعه الرجل من ايام طفولته حتى لحظة مماته و وضعتهم في الغرفة.
وقد قررت امه ان يضعوا المظلات في مكان امن وامرت افراد الاسرة بان يحافظون على المظلات لكي تبقى تذكارا من ابنه.
لذلك بعد مرور اسبوعين على موت ابنه اخذت امه جميع المظلات و غطتهم بقطعة من االنايلون السميك وربطتها من الوسط بقطعة قماش و اخذتهم الى الغرفة الخلفية لتحافظ عليهم، اما الحبوب والعقاقير الذي كان يتناوله ابنه ايام مرضه وكانت ملاءت نصف كيس بلاستيكي من حجم المتوسط فقد وضعتها امه في سلة المهملات لانها كانت تعتقد بان العقاقير كان سببا في موت ابنها.
وكانت تعزوا سرطان المعدة التي اصابت ابنه بسبب الاقمشة التي كان يضعه ابنه في فمه في صغره، واذ كان يرى قطعة قماش يضع قسما من القماش في فمه ويبلله ولم يكن يخرجها من فمه و تبقى في فمه لمدة طويلة.
عندما مات الرجل لم يندهش احد لانهم كانوا يعرفون بانه سيموت يوما بسبب مرضه هذا. ولهذا وبعد موته كان الناس يتحدثون عن هطول اتلك الامطار الغزيرة والجمع الغفير من الناس الذين حضروا مراسيم تشيعه. وكل مرة عندما كانوا يتحدثون عن تلك الامسية المتأخرة كانوا يذكرون عدد الحاضرين وكان عددهم سبعة وستين شخصا، والعدد اخبرهم ذلك الطفل الذي كان له عادة عد الاشياء التي تقع عينه عليها.

*كاتب من كردستان العراق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى