كامل السعدون - تحت موسى الحلا ق.. قصة قصيرة

توقفت سيارة الأجرة قبالتها عند الرصيف حيث كانت تنتظر بصبر من ارتوى من العيش وما عاد لديه ما يفقد الصبر من أجله.
كان النسيم يُهدهدَ بلُطف خصلات شعرها الأشيب المجعد. خرج السائق من كابينة القيادة، أبتسم بلطف والتقط حقيبتها الكبيرة وأرقدها بعد عناء في حجرة البضائع في خلفية السيارة، فتح باب المقعد الخلفي وقادها بلطف الى الداخل وسألها بود ما إذا كانت توَد أن يُساعدها في ربط الحزام فأومأت مع ابتسامة لطيفة.
الحقيقة السيدة (أُم سلام) لم تركب سيارة أجرة إلا فيما ندر مُنذ أن توقفت عن القيادة عقب بلوغها السبعين، أو بالحقيقة أوُقفت من قبل الأحبة أبناءها، إذ حذرّوها من احتمالات الإغماء أو الإغفاء بينما هي تقود سيارتها، ليُسامحهم الرب" همست وهي تتذكر ذلك اليوم وتلك الوجوه الحبيبة البارّة".
نظرت الى العداد وهو يجري بسرعة صاروخية، " لهذا لا أحب سيارات الأجرة، هذا العداد يرفع ضغط دمي" قالت في سرّها، وأضافت " أنا لست بخيلة وأود صدقاً لو يتبقى في جيبي بقية لأهبها للرجل جزاء خدمته"، ابتسمت لنفسها بلطف واسترخت مُجدداً غارقة في التأمل الداخلي بلا أفكار، ولا عدّاد.

****
أنا لست بخيلة... لا أبداً.. لكني حريصة، وهكذا ينبغي أن يكون المرء دوماً، فلا ضرورة لهدر نُعم الحياة عبثاً.
تساءلت مع نفسها وهي تزّم شفتيها بامتعاض بينما هي تنظف اللحم في حوض الغسيل.. " لو إنهم فقط يذكرون سنوات الحريق " على قول أحد روائيينا العراقيين الشباب"، لو يذكرون...أننا كُنا نتحسر على اللحم، أيام الحرب الطويلة المريرة، كُنت أشتري كُرة لحم أسترالي مجمد من أحد الضباط الذي كان يُهرّب نُصف تموين كتيبته ويبيعها عبر سائقه القاطن في قريتنا البائسة.
كُنت أشتري الكُرة التي هي بحجم خمس كيلوات بسعر يُضاهي ثُلث راتب المرحوم أبوهم علماً بأن اللحم كان لحم حيوان اللاما أو الكنغر "الله أعلم.. لست متأكدة.. فأنا بالكاد أتذكر ".
وكُنت أقتصدْ باستهلاكها للشهر كُله وبعضٍ من الشهر التالي مخافة أن يُقتل السائق أو سيده ونُحرم من اللحم الى ما شاء الله.
الأن وفي هذا العمر يريدون مني لحم شرائح، لماذا أشتري شرائح لحم بسعر مضاعف بينما يمكن أن أقوم أنا بتشريحه وأنتفع من العظام والشحم في صنع شوربة غنية؟ ".
والفاكهة..." طفرت دمعة من عينيها وهي تتذكر الصغيرة ساره.
سارة التي جاءت يوما للبيت من الخارج حيث كانت تلعب مع صديقتها، كانت بعمر خمس سنوات يومئذ.." أظن خمس.. نعم لأن والدها لم يعد الى البيت بعدها ...لم يعد".
كان في أجازه وأصرّ أن يعمل لها عيد ميلاد بسيط قبل مغادرته الى الجبهة ".
" المهم.. جاءت من الخارج مُسرعة.. كان وجهها ملوثاً بخيوط لزجة سمراء، " هتفنا بها متسائلين: ما هذا يا أبنتي على خديك وأنفك؟".
" لا أعرف يا أمي، شيء اصفر حلو أعطتني إياه صديقتي عُروبة" نظرنا لبعض ولمحت عيون زوجي تغرورق".
- بابا.. ما أسم هذه الحلوى؟
- وهل قشرتيها يا بنيتي؟
-كلا، قالت لي عروبة، هذه تؤكل كلها و..و" بعد ذلك ضحكت هي وأمها وأبنة خالتها... وهربت منهم ".
- لكن ما أسمها يا أبي؟
" لم يجبها.. ولا أنا ".
"وخرج قبل انتهاء أجازته.. خرج حزينا كسيراً غاضبا.. ولم يعُد...!".
"حضرتها تعترض على جمع حبات البرقوق والتوت والتفاح المتساقط من الأشجار في الحديقة؟ وماذا في ذلك أليست هذه من نعم الله؟، أم إننا نسينا قشرة الموز ومعجنات عيد ميلادكِ السوداء من الدقيق المخلوط بالنخالة، أو البيض الذي كُنتِ تحلمين أن تذوقيه ولو مرةٍ واحدةْ، ولأجله اشترينا دجاجة عجفاء أتضح لاحقاً أنها...عاقرْ؟
تقول لي برعونة " ماما: ما معنى هذا الذي تفعلين؟ هذا شيء مُخجل !!، كل يوم وفي أسوأ الأجواء، تخرُجين لالتقاط الفاكهة من الحدائق".

****
ويتتابع سيال الذكريات بينما مرقة الباميا (تتهدرّ) على النار...قهقهت وكاد طقم أسنانها العلوي أن يترنح " الأسوأ كان يوم اصطادوني وأنا أنحني على زجاجة كولا فارغة مرمية في المتنزه القريب من بيتي، كان يوم جمعة مثل هذا اليوم المبارك وكُنت عائدة من دكان التركي القريب من حينّا بعد أن تبضّعت منه باميا نصف طازجة وزيتون وخبز تركي، ووجدتهم عند الباب وشاهدوا كيس النايلون المملوء بالقناني الفارغة.
"من دعاكم لزيارتي في هذا الوقت بالذات...سبحان الله، ومنْ؟ سارة وسماح وسلام معا في سيارتي العتيقة التي تركتها لصغيري سلام حين تقاعدت عن السياقة هههه".
وفارقت قدر المرق لتجلب معجون تثبيت الأسنان.. تذوقت المرقة.."أعتقد تهدرت زينْ، خليها يا بنت على واحد.. يا ربي يجون كلهم اليوم، كلهم يحبون الباميا مع الرز البسمتي". وعادت لحوارها الداخلي عن ذات جُمعة مضى.
" ولما وصلت شقتي قابلوني بوجوه مكفهرّة... (ليش) ماما تبحثين عن القناني الفارغة ...محتاجة فلوس نحن بالخدمة...نحن شباب وكلنا بوظائف جيدة ووو" قاطعته " "يا ول " أنا محتاجة فلوس؟".
"طيب وما السبب ".
"ماما "هاي" العجوز الرومانية جالسة من الصبح لحد الآن تشحذ وما بحصالتها ولا حتى كرونة، فقلت لنفسي أجمع الزجاجات التي بطريقي وأذهب للماكينة وأخذ مقابلهن كرونات أعطيها لهذه المسكينة بكرة ".
وكان يومٌ عاصفْ ... لكنهم اقتنعوا أخيراً بعد أن قلت لهم "طُز فيكم، هذا أنا كما أنا لغاية ما أموت.. المهم هربتْ بكم وحيدة وبأقسى وأسوأ الظروف والآن أنتم أقوياء وأحرار وسعداء، أذا ما يعجبكم تفكيري ... بلدية أوسلو تحترم تفكيري وهم من سيدفنوني بجنازة مهيبة ...هاهاها".
" وساعتها ضحكوا طويلاً ولم أضحك خشية أن يسقط ...!

****

فجأة تذكرت الحقيبة الثقيلة التي وضعها السائق عند الباب من الداخل.
" يا إلهي نسيت أن أسحب الحقيبة الى غرفتي.. هذه ستعمل لي مشكلة أخرى.. يا رب ما...".
وكأنهم على البعد يتنصتون على أفكارها.. رن جرس الباب، دخلوا ملهوفين مُستبشرين، كاد سلام يتعثر بالحقيبة.
" ماما ما هذه الحقيبة ". تجاهلت.. كأنها لم تسمع...اضطربت يداها وهي تعانقه.
"ماما...ما هذه ال...".
" بعد الغداء سأخبرك يا بُني ".
"ماما نحن قلقون.. جميعا.. ما قصة هذه الحقيبة.. الى أين ستسافرين؟" هتفت البنتين بصوت واحد وقد بدا على وجهيهما القلق".
ترددت طويلاً... وألحوا كثيراً.. أخيراً.." ماما (هاي) ملابس شتوية قديمة، قرأت إعلان عنها في الجريدة وذهبت الى بيت السيدة صاحبتها، دفعت مبلغ بسيط بعد أن عاينتها ورأيت أنها تناسب شتاء مخيمات ال..."
" لا تنسوا... هؤلاء إخواننا وقد آوونا يوم لجؤنا إليهم...هل تذكرون؟"
وتذكروا...وهرعوا اليها مُقبلين الرأس والأيادي.
أوسلو بواكير 2018

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى