نقوس المهدي - التدوين التاريخي بين توثيق الذاكرة والرواية الشفهية في كتاب "حانوت عطار جاء بالأخبار في ذكر أنساب احمر وعبدة ودكالة" للحاج امحمد الحيا

واضع هذا الكتاب إنسان عصامي، لم يدخل كتابا ولم ينتظم في تعليم رسمي، استطاع بشدة إيمانه وذاكرته القوية ان يترك لنا أثرا توثيقيا كبيرا ومهما عن المنطقة وخصائصها التاريخية والجغرافية، وسلالاتها وأسماء أهلها وحرفهم وأصولهم.. وهذا أمر لم يستطعه العديد من المتعلمين وخريجي الجامعات، أن مفهومنا للتاريخ ضيق جدا لأنه يعتمد في الغالب على المصادر المكتوبة ويخضع لنزعة السيطرة النصية، بالرغم من ان الرواية الشفوية لها نصيب كبير في توثيق وصيانة الذاكرة الشعبية من الاندثار، خاصة ان ما كتبه لنا الحاج محمد الحيا من حقائق واخبار لم يستقها من مراجع تاريخية، وإنما استعان بما تسعفه الذاكرة، فالكتابة الشفوية تاريخ بديل، أي تاريخ لمن لا تاريخ لهم، والمادة المرجعية الخام لعلم التاريخ، وليست مجرد سرد للوقائع والأحداث، لأننا إذا بحثنا في المكتبات العربية فلا نجد سوى كتب تؤرخ للأحداث السياسية العظمى والحروب والثورات الاقتصادية ومشاهير العظماء، وقلما نجد وثيقة تاريخية تتعرض لدراسة حياة العمال والفلاحين والحرفيين التقليديين والناس العاديين وظروف عيشهم، وهذا الخصاص يعكس استعلاء الذاكرة العالمة وقصورها عن لم شتات الذاكرة الشعبية.

وتشكل الذاكرة الشفوية بمعية الذاكرة العالمة المادة المرجعية لعلم التاريخ بمختلف معطياتها الوثيقة الخطية، والمادي في شقيه الأثري والحفري، والشفهي المجسد في الأخبار المروية المتواترة عن أحداث ماضوية غير مدونة. ومن المقومات التي تسمح بمقاومة الزمن وحفظ الذاكرة الشعبية من الاندثار، وتناقل المعلومات والاخبار بين الأجيال عبر العصور. ويكفي الإنصات بشغف وشوق للمسنين، وهم يحدثوننا عن أحداث الماضي وملابساتها لنقف على سحر ولذة الحكي لدى هذه الشريحة من المجتمع. وهذا حقل لمعرفة التحولات الاقتصادية والاجتماعية والديموغرافية للمنطقة منذ بداية القرن العشرين

علاقات الأثرياء بالحياة السياسية 3/4

عبد اللطيف جبرو – جريدة الاحداث المغربية

("ومن المؤلفات الهامة عن مغرب ما بين 1860 و1912 ما كتبه الدكتور “لويس أرنو” في مؤلف عنوانه “مغرب المحلات” مغرب التحركات السلطانية وجولات الملوك عبر أنحاء المغرب.

الدكتور “لويس أرنو” عقد عدة جلسات مع الحاج سالم العبدي الذي سيتوفي عام 1938 بعد حياة حافلة عايش خلالها ستة ملوك : من السلطان سيدي محمد بن عبد الرحمن إلى ابنه الحسن الأول وثلاثة من أبنائه عبد العزيز، عبد الحفيظ، ومولاي يوسف ومحمد بن يوسف.

و الملاحظ أن الحاج العبدي رغم أنه كان أميا فيستشف من أحاديثه بأنه على قدر كبير من الوعي بالحقائق السياسية لذلك الزمن، قوي الذاكرة ويقدم روايات متطابقة مع ما ورد في مؤلفات أخرى حول نفس المرحلة التاريخية.

يقول الدكتور “لويس أورنو” ) الصفحة 235 من كتاب مغرب المحلات ( على لسان الحاج سالم العبدي : “السلطان مولاي عبد العزيز اختار الدخول في مواجهة مع السي مدني الكلاوي باعتباره أصبح أكبر دعامة لأخيه مولاي حفيظ، الخليفة السلطاني في مراكش، على منطقة الحوز وسوس”. )

والتاريخ الشفوي هو ضرب من العلوم الإنسانية يعتمد بالأساس على المرويات يقوم بها الشاهد على أحداث المرحلة التي تتصل به، والتي غالبا ما تتم خلالها عملية التحقيب الزمني على محطات تاريخية بصمت الذاكرة الجمعية، كالحدث العسكري والجائحة وولادة ورحيل الأشخاص، كعام البون وبوهيوف والسيبة وعام الصابا ونفي الملك رجوعه. علما بان الجزء الأكبر من تاريخ مجتمعاتنا وثقافاتها شفهي أساسا، يهتم بحياة وظروف عيش المهمشين. وإتاحة الفرص لهم لرواية تاريخهم المنسي، الشيء الذي يؤهلها لأن تصبح البديل لتجميع المعلومات وحقلا خصبا للدراسات الاجتماعية والاثنوغرافية والانثروبولوجية.
وقد اقتبس المؤرخون مفهوم التاريخ الشفوي عن السوسيولوجيين الأمريكيين، الذين اكتشفوا إسهام النص الشفهي في فهم التاريخ، واكتشاف معلومات جديدة ظلت لسنوات وعقود حكراً على أهل الاختصاص، ذلك ان التاريخ يحتفظ بمقولة للفيلسوف المالي أمادو هامباتي با مفادها: "في لإريقيا كل شيخ يموت، هو بمثابة مكتبة تحترق".

"en afrique quand un vieillard meurt, c'est une bibliothèque qui brûle"-

ولعل المطلع على الكتاب وما جاء به من معلومات، وما ساقه فيه من أخبار وحقائق مضبوطة في عمومها يلاحظ مدى قدرة الكاتب على التوثيق والتدوين والتشجير، والتأكيد على أمانة روايته دون تشكيك فيها، معتمدا على ذاكرته الخصبة والوفية، وما خبره من تجارب، وما حازه من صداقات طويلة ومعاشرته للناس، وتطوافه بين القبائل والمداشر، معتمدا في مرجعيته التاريخية على صحة الخبر، وقوة المصدر ومشهور النسب، والمعلومة المتداولة بالتواتر، والمشكوك في قيمتها

وقد جاء في "لسان العرب" لابن منظور مايلي:‏ النسَب: نسب القرابات، وهو واحد الأنساب. ابن سِيده: النِّسْبة والنُّسْبة والنَّسَب: القرابة. وفي التهذيب: النسب يكون في الآباء، ويكون إلى البلاد، ويكون في الصناعة. والنسَّاب: العالم بالنسَب، وجمعه نسَّابون، وهو النسَّابة، أدخلوا الهاء للمبالغة والمدح.

وعلم الأنساب علم تاريخ ورواية سير، ويقول البعض بأن علم النسب علم شرعي يجب تعلمه ويجب التوسع والتخصص فيه.

ويضيف ابن حزم في كتاب جمهرة انساب العرب "علم النسب علم جليل رفيع، إذ به يكون التعارف. وقد جعل الله تعالى جزءاً منه تعلمه لا يسمع أحداً جهله، وجعل تعالى جزءاً يسيراً منه فضلاً تعلمه، يكون من جهله ناقص الدرجة في الفضل. وكل علم هذه صفته فهو علم فاضل، لا ينكر حقه إلا جاهل أو معاندوقال صاحب كشف الظنون: "هو علم يتعرف منه انساب الناس وقواعده الكلية والجزئية والغرض منه الاحتراز عن الخطأ في نسب شخص وهو علم عظيم النفع جليل القدر".

ويكاد يلتقي مع قول العلامة عبد الرحمن بن خلدون "النسب علم لا ينفع وجهالة لا تضر".

وقد اهتمت العديد من الكتب بعلم الانساب منها على سبيل المثال لا الحصر: " أخبار المؤلفين والمؤلفات" لابن طيفور البغدادي، "الفهرست" لابن النديم، "مفتاح السعادة ومصباح الزيادة"، لمحمد بن اسحاق البغدادي، "الطبقات" لابن سعد، "علم الكلمات وعلم الأنساب" لابن دريد، "أنساب الأشراف" للبلاذري، "قلائد العقيان" للفتح بن خاقان، "الإعلام بمن حل مراكش وأغمات من الأعلام للقاضي العباس بن إبراهيم المراكشي، وكتابات أخرى لابن قتيبة، والنويري، والمقريزي، والمقدسي يعالجون فيها علم الأنساب، والناس مؤتمنون على أنسابهم، وليس أحد أعرف بسلالة القبيلة غير أبنائها.

يقول مؤلف الكتاب بعد البسملة: "نسمي هذا الكتاب "حانوت عطار جاء بالأخبار في ذكر أنساب احمر وعبدة ودكالة"، إنها قصة انساب احمر واصحابها، وعبدة وأهلها، ودكالة ومواليها، وحانوت عطار يحكيها، والعطار هو الحانوت المتنقل وهو أربعة أنواع ...الخ." ص11

"وقد حباني الله عز وجل بذاكرة قوية وهي السر فيما حفظناه من انساب وقد ساعدتني على اكتساب ثقافة سماعية..."ص12

وجاء في الخاتمة: "ولقد أملينا هذا الكتاب بعدما بلغنا من الكبر عتيا وأصبحنا مظنة للنسيان ووكرا للأمراض وأوشكنا على بلوغ سن التسعين سنة. وأملنا أن يقوم أشخاص آخرون بمثل هذا العمل في مناطقهم بكافة التراب الوطني لحفظ الذاكرة والمحافظة على الأنساب وإحياء هذا العلم الشرعي الأصيل وليسمح لنا القارئ الكريم لأننا لم نذكر الألقاب والكنى في هذا الكتاب لأن الحالة المدنية لم تكن موجودة في ذلك الوقت. حيث لم تظهر هذه الألقاب إلا بعد سنة 1951 وكان الانسان إذاك يدعى بأبيه ودواره وقبيلته.

وقد ضمنا هذا الكتاب أنساب الأهل والأحباب والجيران والأصدقاء وعامة الناس والزملاء في العمل بالمكتب الشريف للفوسفاط وهو يجمع بين العرب والأمازيغ وكذلك الأوربيين وذكرنا كل واحد باسمه ومقر عمله وفي جميع المصالح والأقسام." ص129

ويستهل المؤلف كلامه عن مدينة اليوسفية بورقة مونوغرافية حول طبيعة القبائل ودواويرها وايالاتها والقياد الذي تعاقبوا على حكمها، إذ يقول: "تتكون بلاد احمر من 400 دوار كما أحصاها المراقب العام الفرنسي في بداية الاحتلال." ص17، ووصوله إليها سنة 1940 قبل أن تكون مدينة.

فيما يخص المستوى المجالي، فقد ركز على مسألة الشريحة السكانية ذات التشكل الفسيفسائي إثني التنوع الذي يشمل العديد من القبائل واللهجات

ومما اعتنى به المؤلف من القضايا العامة التي تصلح لأن تكون مادة نموذجية لعلم التاريخ والببليوغرافية والاثنوغرافية وعلم الاجتماع:

- قضايا التحرر من الاستعمار والسيبة "رجال عيسى بن عمر الذين جاء بهم ليحارب بهم أولاد زيد و غيرهم من المتمردين.."
- تمييز المستعمرين لذوي العيون الزرق والخضر عن باقي العمال
- طرد المؤلف من العمل لمواقفه من للاستعمار.

أو أن أشخاصا وأسرا من أهل الدوار هم سكان أصليون أو أخلاط ووافدون من مناطق وقبائل أخرى. أو لا أعرف أسماء أبنائه، أو كان لديه أولاد وليس له بنات والعكس، أو لم تكن له ذرية، وهكذا يتطرق للحديث عن بداية استغلال الفوسفاط ، وعن أصول كل من العمال الأمازيغ والعرب، والسكان الأوربيين ومهامهم الإدارية ص66، ورجال الأمن المنحدرين كلهم من سلك العسكر وقدماء المحاربين ص67

الحديث بالتفصيل عن الحرف المزاولة من طرف السكان في اليوسفية حيث يأتي:

- عامل الفوسفاط في المرتبة الأولى
- رجل الأمن والدركي والمخزني25
- رجل التعليم بحوالي 19
- حامل كتاب الله وخطيب المسجد 13
- لمقدم والشيخ 7
- العدل 7
- البناء 6
- التاجر6
- النجار 4

الصباغة - السائق - الاسكافي - الخياط - الكهربائي - الكاتب العمومي - الجزار - البولانجي - الفلاح - العطار - موظف البريد والبلدية والضريبة - المصور - الممرض - المقاول - المحامي - الطبيب - البرلماني - المسؤول الجهوي - العامل - خليفة العامل - السفير الفخري.

المصوبر

قال العربي المشرفي في مؤلفه: الرسالة في أهل البصبور الحثالة: "فواجب على كل من يؤمن بالله واليوم الآخر أن لا يجالس أهل الحماية ولا يصادقهم ولا يؤكلهم ولا يعاشرهم ولا يناكحهم، وأن يوصي كل من لقيهم بمجانبتهم ومباعدتهم وترك معاملتهم ردعا لأمثالهم، لأن هذا المنكر- وهو التعلق بالعدو- من أعظم المفاسد في الدين التي يتعين فيها الزجر والتغليظ، ولا يسمح فيه بوجه ولا حال، وحيث لم يكفهم من له الكلمة من أهل العقد والحل، زادهم ذلك غلظة وفظاظة، وربما شارك المحتمي مسلم آخر، فقوى العدو، وانتشر المدد، واتسع الخرق على الراقع، وعظمت المصيبة، وفسد اعتقاد العامة، حتى ظنوا أن ذلك الدين الفاسد هو دين الحق، وأساءوا الظن بدين الإسلام والعياذ بالله، ومن أعان المحتمي أو عاشره أو خالطه، أو أرضته حالته فهو فاسق ملعون”.

ومتابع الكتاب يجد معلومات قد يحملها محمل الشك منها ما يذكره عن المهندس الجيولوجي لويس جانتي، وإقامته قرب سيدي احمد، ذلك انه من المرجح قد يكون قد زار المنطقة في رحلته الاستكشافية مرورا بالمنطقة نحو الجبيلات حوالي سنة 1912 علما أنه توفي سنة 1925 أي بعد ولادة المؤلف بسنة.

- ﯖوميس الإفريقي الأصل من الكونـﯖو. وبدرو غوميز طبيب من أنغولا

في النهاية يتم التأكيد على أن كتابة التاريخ تقوم في المقام الأول على ـنية المدون وشطارة المستجوب، فيما تبقى هي نفسها بغض النظر عن المنهجية المتبعة وقيمة المعلومة، ومن العسف الاعتقاد بأن كتابات المؤرخين والمتخصصين تنتمي بمفردها إلى مجال التاريخ، وما عداها مجرد كتابات عادية لا أهمية لها. ومن هنا تأتي الأهمية القصوى لهذا الكتاب الوثيقة في غياب أية مصادر تاريخية رسمية تؤرخ للمنطقة وسلالاتها وعلاقات قرابتهم ومهنهم وأصولهم، خاصة أن الواحد منا لا يكاد يعرف أبناء عمومته وخؤولته والمقربين منه، أحرى أن يعرف هذا الكم الهائل من الأسماء والقرابة الدموية والعلاقات العائلية المتشابكة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى