رباب كمال - زينب وإجهاض الثورة

زينب ُ بضم الباء ، هكذا كان يناديها والدها ضاحكًا، والدها هو ذلك الموظف البسيط المتدين بطبعه الذي يقطن عقار متدين بطبعه في شارع متدين بطبعه في حي متدين بطبعه وسط العاصمة المتدينة بطبعها و التي ُتعرف عالميًا بأنها الأعلى كونيًا في نسب التحرش ! لكن التحرش لا يمنع التدين، هذه هي قناعته، فالعبادات تمحو السيئات كما أن النساء هن أكثر أهل النار و هذه أمور لا يمكن أن ينكرها عاقل من وجهة نظره، بل أثبتها العلم الحديث ووكالات الفضاء تخفي تلك الأمور حتى لا ُيسلم كل من على الكوكب ، هكذا قرأ الأب في مقالات د. بهلول الفشار عن الاعجاز العلمي ، فلا يمكن أن يكون بهلول كاذبا ، لأن نظريات د. الفشار ُنشرت على صفحات جريدة الأبرار القومية برعاية الدولة المصرية .
الحجاب قبل الحساب، هذه هي الملصقات التي اعتاد أن يلصقها الأب في مكان عمله و في المواصلات وعلى الجدران في الشارع، و هكذا حجب والد زينب ابنته في عمر 12 عامًا و كان قد تأخر في حجابها، لأنه رجل متعلم واسع الأفق ، و كان ينتقد هؤلاء المتزمتين الذين يحجبون بناتهم قبل البلوغ ، هو رجل وسطي يرى أن الحجاب عفة و الختان كذلك عفة، ولأنه متدين وسطي فكان ينتقد هؤلاء الذين يبالغون في ختان بناتهم، لكن جارته الممرضة التي ختنت بنات الحي مقابل سعر زهيد، طمأنته، هي بنفسها ستشرف على ختان ابنته ، فذكرها الأب بقواعد الختان السليم كما قاله له الشيخ في المسجد ..." اخفضي و لا تنهكي "
اقتحمت الممرضة أم عطية غرفة زينب، التزمت الوسطية في الختان و قطعت الجلدة فوق مجرى البول، فهي ليست متطرفة مثل هؤلاء الذين يشوهون البنات، فيقطعون البظر و الشفرتين، لقد اكتفت بالجزء العلوي من البظر و لله الحمد من قبل و من بعد ..
خرجت أم عطية و قالت للأب ألم أقل لك لا تقلق ؟ أنا أعرف ربنا، بل أخبرته أم عطية المفاجأة، اسمها الحقيقي ليس أم عطية، لقد أسموها زبائنها أم عطية تيمنًا بأم عطية رضي الله عنها و أرضاها و التي استدل بحديثها الفقهاء في ختان الإناث، أم عطية خفضت و لم تنهك، ولكنها انتهكت جسد زينب فحسب، تماما كما فعلت مع بنات الحي، لم تسلم فتاة من أم عطيه. تنفس والد زينب الصعداء ، لم ُيقصر في حق ابنته لقد حجبها و ختنها، لقد أكمل رسالته و لم يتبق سوى بعض الشكليات مثل تعليمها
زينب كان بداخلها ثورة، ثورة تريدها أن تتحرر من هذا الكفن الذي تعيش بداخله، أرادت أن تخلع حجابها، لكن سمعتها قد ُتدنس في الحي، هي لا تعيش في ضاحية مرموقة، هي تقطن حي شعبي، زينب لا تعرف لم هي مختلفة؟ لماذا لا ترضى بحالها؟ هناك قوة تدفعها إلى طريق الحرية، وليس التحرر من حجابها فقط، بل تحرر جسدها من السجن الذي تعيش بداخله، هي لا تكره والدها، هو ليس قاسيًا ،هو ضحوكًا مقهورًا لكنها لا تحب معارفه و منهم أم عطية ..زينب لا تريد أن تعيش في ظلاله و لا في ظلال أعمامها و لا أخوالها و لا أشقائها و لا جيرانها من الذكور و لا الفتيات الراضيات بالقمع ، ولا تريد أن تعيش في ظلال هذا المجتمع الذي يحاوطها كلما سقطت شعرة على جبينها من تحت حجابها، فيسرعون ليخبئون لها شعرتها التي ستدخلها النار و بئس المصير . زينب لا تريد أن تخلد في الجنة مع أهلها، قررت أن تترك جنتهم في السماء لكن عليها أولا الرحيل عن جحيمهم في الأرض.
هي تكره هؤلاء الرجال المتزمتين الذين يحاوطونها و يعاملون المرأة على أنها عاهرة إن أرادت أن تخلع حجابها، أو يعتبرونها فاسقة إن عبرت عن حبها للفن أو الرقص أو الحياة .. هي كانت شغوفة بهؤلاء الفتيات اللاتي يتحدثن عن الليبرالية و التحرر، و كانت معجبة أكثر بهؤلاء الرجال الذين يتحدثون عن تحرر المرأة، و تسمع لقاءاتهم التليفزيونية المسجلة التي تغزو مواقع التواصل الاجتماعي، كانت تشاهد هذه التسجيلات على هاتفها المحمول تحت غطاء فراشها، فهذه التسجيلات في ُعرف أهلها وعشيرتها بمثابة الأفلام الإباحية
كان قلبها يخفق كلما سمعت هذا الشاب الثوري طارق وهو يتحدث عن تحرير المرأة و حرية اختيارها، تحدث عن خلعها للحجاب و نعت هؤلاء الذين يختنون بناتهم بالجزارين ، فتجربة الختان كانت الأقسى في حياتها، كانت هي تتألم بينما تطلق أسرتها الزغاريد
طارق أصبح يؤرق مضاجع هذا المجتمع المتدين بطبعه، و كانت الفتيات تحيط به، استجمعت زينب قواها ذات يوم و ذهبت إليه و هو يلقي ندوة عن الليبرالية في مقهى بوسط المدينة، صوته رخيم و جسمه رياضي، هو يشجع الفتيات على خلع الحجاب، و من ثم يقنعهن بالانضمام للحزب الليبرالي الذي انضم إليه حديثا بعد ثورة يناير و يؤكد لهن أن الحزب سيقود الحياة السياسية لأن حزبه يطبق صحيح الليبرالية تمامًا كما أنزلت!! و كان طارق ُيذكّر رئيس الحزب بعدد الفتيات اللاتي اهتدين إلى الليبراليه على يده ودخلن الحزب و هن خالعات للحجاب ناطقات للشهادة الليبرالية وقد رفعن السبابة باتجاه السماء أو سقف الحزب أو أيهما أقرب..و كان شأن حزبه عجيب ، فهو ليبرالي في المناطق الراقية و اسلامي في الأقاليم و المحافظات و لا بأس أن يبدأ مؤتمراته الجماهيرية بآيات من الذكر الحكيم، و شعاره " زرونا تجدوا ما يسركم "
طارق شاب ثلاثيني كان اسمه على مسمى لأنه كان يطرق كل الأبواب، كل أبواب كبار المسئولين في الحزب، وكان طريقه معروفا ، سيسحق الجميع بعدما يتمكن منهم .
استمر طارق في حديث تحرر المرأة فكان هذا الحديث الأسهل و الأسرع للنجاح على الأقل وهو قريب من مراكز صنع القرار في حزبه، و ظل يردد صوت المرأة ثورة ، كان طارق يمثل كل ما كانت تحلم به زينب، ها هو رجل يدافع عن حق المرأة في جسدها و في التحرر من حجابها.
بات طارق معبودًا للفتيات و النساء الراغبات في التحرر، لم يعتق طارق أي امرأة من خطابه التحرري، لم يهم إن كانت متزوجة أم عزباء مع اهتمام خاص بالمطلقات ، الرزق يحب الخفية و لكن زينب لاترى فيه سوى أنه قاسم أمين جديد !!
أرادت زينب أن تلفت انتباهه ، فخلعت حجابها، على الأقل في تلك الندوات التي كانت تحضرها له، و تعود من جديد ترتدي حجابها و هي عائدة لسجنها أو منزلها . زينب عشقته عشقًا حين كان يتحدث أمام العامة قائلا أنه سيكون أبا متفهما لن يختن بناته و لا يحجبهن بل و سيتركهن يستمتعن بحريتهن الجسدية
استطاع طارق أن يقنع عشرات الفتيات بخلع الحجاب منهن من خلعته جهرًا و منهن من خلعته سرًا خارج منزلها، و كانت زينب من بين الفتيات اللاتي خلعن الحجاب سرًا. اقترب طارق من زينب كما كان يفعل مع الكثيرات و أقنعها بضرورة انخراطها في العمل العام و كان هذا السيناريو يتكرر مع كل فتاة ، ووعدها بأنه سيدخلها حزبه الليبرالي صيفا المحافظ شتاءا... و من المعروف أن الشتاء هو موسم الانتخابات.
ظلت زينب تناديه بقاسم ، تيمنًا بقاسم أمين و نشأت بينهما صداقة لا علاقة، عقلها تحرر فهو ملك لها، لكن لم يتحرر جسدها، فجسد المرأة في بلادها و خاصة منطقتها الشعبية ليس ملكًا لها، هو ملك لأهلها وعشيرتها و ليس لها دية إن قرروا ذبحها قربانًا لشرف العائلة ، لذا هي لن تنجرف في أي علاقة.
أقنعها طارق أن العلاقة من الممكن أن تتم بينهما بدون أن يخدش عذريتها ،وأن هناك علاقات أقرب إلى العلاقات الكاملة يستمتع بها الرجال و النساء دون أن تفقد الفتاة عذريتها ووعدها أنه سيحافظ عليها لتعود إلى حضن أمها صاغ سليم!
الحياة المنفصمة زادت زينب رهقًا ، فهي متحررة خارج منزلها ، محجبة تحت أنظار والديها ، ومن المفترض أن تمارس العلاقة الحميمية خارج منزلها و تعود عذراء لوالديها!
ذهبت إليه زينب في منزله و هي تقدم قدمًا و تؤخر الأخرى، طارق بالرغم أنه يدعو المرأة للتحرر إلا أنه لازال يعيش في كنف والده الذي يغيب عن المنزل كثيرًا .
زينب لم تخلع حجابها و هي في طريقها لمنزل طارق، بل ارتدت عليه نقابها حتى يسهل دخولها إلى العقار الذي يقطن فيه ،هكذا طلب منها طارق نصير المرأة.
خلعت زينب نقابها و جلست إليه و بدأ جسدها يرتعد و يرتجف بمجرد أن لامست يديها يديه و قبل أن تهم به و يهم بها ، سمعت طرقًا على الباب ، طرقًا متتابعًا عاليًا قويًا ، انزعج طارق من طرق الباب و لكن من يطرق أبواب الناس ، تطرق عليه الابواب ، هذا هو حال الدنيا.
اختبئت زينب في غرفته بينما يفتح هو الباب، فاقتحمت فتاة ُتدعى حنان عليه بيته .. طارق يخشى من صوت حنان العالي ، يخشى صدى صوتها و هي على سلم العقار، فتركها تدخل المنزل، لربما يحتويها
حنان:هي فين ؟ أنا شفتها و هي داخلة
طارق: شفتي مين؟ أنتِ اتجننتِ يا حنان؟ بتراقبي البيت ..بتتكلمي عن مين ؟
حنان: اللي كانت لابسة نقاب، أنا كنت بجيلك بنقاب زيها ..فاكر؟
طارق: يعني هو أي واحدة لابسة نقاب في الشارع و لا طالعة العمارة لازم تبقى جايالي الشقة؟
حنان: آه
طارق: حنان بلاش فضايح ..انزلي و نتكلم بعدين
حنان: مفيش بعدين، أنت وعدتني تيجي معايا للدكتورة، أنا خايفة، مش هسقط اللي في بطني لوحدي
طارق: مقدرش ..مقدرش ..مقدرش أجي و أشوف ابني اللي في بطنك بيموت
ووضع طارق يديه على وجهه و تظاهر بالبكاء في أداء مسرحي شكسبيري وانتظر حنان لتُربت على كتفه كما كانت تفعل كلما كان يبكي بين يديها، لكن حنان أصبحت تراه و ترى نفسه الدنيئة، استمر طارق في البكاء، ثم توقف و فتح المسافة بين سبابته و اصبعه الأوسط ليخلق مساحه لعين واحده يسترق من خلالها رد فعل حنان، و حنان كالجبل الصامد و تصر أن يأتي معها إلى الطبيبة
طارق: مقدرش بقولك، أعصابي تعبانة
حنان: سلامة أعصابك يا سبع الرجال ..أنا عارفة أنت مش عايز تيجي معايا ليه؟ مش عايز الدكتورة تشوفك، مش عايزها تشوف الثائر الليبرالي بتاع " حكوك" المرأة وهو بيسقط ابنه في عيادتها، مش عايز الناس تعرف كذبك و غشك ..
طارق: أنا مش خايف، الاجهاض مش قانوني و أنا مش هشترك في جريمة الإجهاض
حنان: لا يا شيخ ؟؟؟
طارق: أيوة القانون 261 من قانون العقوبات بيقول أي حد يسقط واحدة يتسجن
حنان: ..أنا أنا اللي هسقطه،مش أنت، أنت هتيجي معايا و بس
طارق: لا ما هو القانون 262 من قانون العقوبات بيقولك الأم اللي تحاول تسقط ابنها تتسجن برضو، و أنا مقدرش مقدرش مقدرش أساعدك تنتهكي القانون
حنان: لا أنت متقدرش تنتهك القانون، أنت بتنتهك بنات الناس بس .... يعني أخلفه ؟
طارق: و تكتبيه باسم مين ؟
حنان: أبوه ..أنت يا بني آدم
طارق: مقدرش مقدرش مش وقته ، مستقبلي السياسي، الحزبي، مصير الليبرالية في مصر، أنتي مش فاهمة.. أنا بكتب التاريخ
حنان: بص بقى .. لو مجيتش معايا للدكتورة هرفع عليك قضية و أطلب تحليل DNA
طارق: مينفعش يا روح ماما، ما هو لازم تثبتي الجواز الأول ..هو القانون كده مفيش نسب غير اثبات الجواز الأول
حنان: قانون ..قانون ايه ؟
طارق: قانون النسب اللي هو قانون الشريعة و لا عايزة تخالفي الشريعة كمان ؟ الشريعة بتقول الولد للفراش وللعاهر الحجر، الـ DNA ده تبليه و تشربي مايته
حنان: شريعة ايه؟ أومال مصدعنا بالليبراليه ليه؟ ..طيب هفضحك في الحزب بتاعك ده و ابقى وريني هتكتب التاريخ ازاي ؟
طارق: اعمليها كده و هيبقى آخر يوم في عمرك
حنان: الليبرالي بتاع "حكوك" المرأة هيقتلني ولا ايه ؟
طارق: مش أنا اللي هيقتلك، لو كلمت أهلك قلتلهم أنك كل يوم مع واحد و بتتبلي على ولاد الناس هما اللي هيقتلوكي
هنا خرجت زينب من الغرفة، لقد نسي طارق أمرها للحظات و انجرف في الشجار مع حنان، وقعت عين حنان على زينب و بدلا من أن تعنفها ، قالت لها حنان بصوت مكسور مشروخ " اهربي ..قبل ما يعمل فيكي اللي عمله فيا "
خرجت حنان من منزل طارق و بصقت على الأرض التي تحمله قبل أن تخرج و قالت له سأتكفل بأمري ...
وقفت زينب تنظر إلى طارق نصير المرأة ، وقفت لترى قاسم أمين يتحول إلى أمير داعشي ، فهو لن يدنس يداه الليبرالية بقتل حنان و إنما سيكون سببًا في قتلها إن ظلت تلاحقه ، هرعت زينب خارج المنزل و فشل طارق في الإمساك بها ، هو يخشى الفضائح فلم يلحق بها ، تركها ترحل.
زينب خرجت دون نقابها ولا حجابها ، خرجت تركض خلف حنان ، لكن حنان كانت قد اختفت و لم و لن تعلم زينب مصيرها.
بدأت زينب رحلة العودة إلى المنزل و هي تبكي، لا تبكي على حب ضاع و لا على صنم تحطم ، تبكي على حلم حريتها ، لقد اعتقدت أنها نالت الحرية على يد طارق ، لكن طارق كان مجرد الوجه الآخر من رجال عائلتها ، طارق الذي كان ينتقد تراث سبي النساء في الغزوات ، بينما كانت له غزوات تخصه ، و سبي النساء كانت صنعته بطريقته الخاصة.
وصلت زينب إلى مشارف الحي الذي تعيش فيه دون حجاب، كان من الممكن أن تشتري طرحة من أي مكان في طريق عودتها ..لكنها لم تفعل، أدركت زينب أن الفتاة التي تطلب الحرية لا يجب أن تهرب إلى طارق أو غير طارق .. بل يجب أن تواجه ، عواقب عودة زينب للمنزل بدون حجابها ستكون وخيمة، لكنها قررت ألا تكون منفصمة بعد اليوم، زينب بدأت تخطو خطوات ثابته تجاه منزلها .... زينب بدأت المواجهة و هي قصة آلالف و مئات الفتيات ...لن تتركهم يجهضون أحلامها و ثورتها كما ُأجهضت حنان.
يبقى مصير زينب مبهمًا عالقًا في مخيلة كل من يعرف فتاة مثل زينب قررت أن تواجه بدلا من أن تهرب
أي تشابه بين بعض الشخصيات أو الأحداث في القصة ، مع شخصيات أو أحداث في الواقع، هو محض خيال الكاتبة علمًا بأن الخيال لا يختلف كثيرًا عن الواقع في بلادنا


رباب كمال

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى