أنس ناصيف - الهبوط على شجرة الحب.. قصة قصيرة

كان يمشي وقلبهُ يخفق كأردافِ غانيةٍ أبديّة، بخطواتٍ تزامنت مع إنهاءِ ذبابةٍ في الصّين مناورتها بالانقضاض على أنف أرنبٍ عجوز. وبينما كان يعدُّ أصابع قدميه شعر أنّ رجليه بدأتا تطولان، وهو كَكلٍ أخذ يرتفع، انتابهُ الخطر، ثمّ رغب بسيجارة، أحسّ بالملل من هذه الورطة غير المتوقعة وبالأخص بعد أن أخذت أسنانهُ تتساقط.

وهو نائم، أدركَ نسبياً أنّه ما يزال نائماً، وأنَّ هذه الأحداث تدور في حلمه، لم يخطر له أن يستيقظ، ولذلك، لم يكن بوسعه التعامل مع حلمه إلا بواقعيّة رجلٍ منطقي، فالتفت إلى أكبر الأضرار التي لحقت به، وعندما انتهى من إحصاء الخسائر: باشر بمحاولة تركيب أسنانه التي سبق أن تجمّعت فوق لسانه، لكنّه لم يفلح، لأنّ لسانه قد تحوّل إلى مادةٍ طينيةٍ ابتلعت الأسنان المقتلعة. لم يُسجِّل أيَّ ألم، وراح يفكّر بأنّ الأسنان لن تحتاج وقتاً طويلاً حتى تنبجس من لثّته، ولذا سيكونُ جاهزاً في الصباح للقاء حبيبته "سمر" بأسنانٍ جديدة، فليس هنالك من داعٍ لأيِّ قلق.

"أنا من يجيدُ تدوين الهزائم في سجلِّ الانتصارات": قال منتشياً.

وبينما كان مستغرقاً في النّظر إلى أمواجِ السيطرة والثِّقة تلطم شاطئ استسلامه، نبَّههُ صقرٌ عابرٌ بأنّه أصبح على ارتفاعٍ شاهق، وعندما أدرك بكلِّ جوارحهِ ذلك: توقّف عن التنفس، بدأ يختنق، ثمّ استيقظ.

تسمَّرت عيناه نصف دقيقةٍ في ساعة الحائط التي ورثها عن جدّهِ المأفونِ "صابر"، والذي انتزع عقارب الساعة ليلة عرسه قائلاً لعروسه: "معكِ، لا حاجة لي بالوقت".

ضبط "سعد" في مخيّلته العقارب على الثّامنة والرُّبع ثم نهض من فراشهِ معتزماً الاستحمام. خرج عارياً من الحمّام، ينضح ماءً ويبقَّع البلاط، وبعد أن وقف أمام المرآة: خطر له أنّ الضّحك أمرٌ مفيدٌ فقرّر على الفور أن يقوم بشيءٍ يضحكه. عندها همّ بالذهاب إلى المطبخِ ليلقي تحيّة الصّباحِ على ببّغائه العُصابيِّ "كاسر"، التقطه بكفيه الرطبتين ثمّ تناول سكيناً، ارتعدت فرائصُ الببّغاء وبدا وكأنَّ موجة صقيعٍ قد أصابته للتو. ضاحكاً فتح سعدٌ أحد الأدراج، وتناول منه حبلاً من ثلاثة أمتار، ثمّ عاد ليقف أمام المرآة مُصطنعاً ابتسامةً يُمهّد من خلالها لضحكه المأمول.

قطع الحبل من منتصفه وربط نصفه الأوّل بقدم الببغاء اليمنى. كاسر، وعلى غير عادته، نظر إليه نظرةً مكتنزةً بالحكمة والاحتواء. وبعد أن انتهى من ربط النصف الثاني من الحبل بقدم الببغاء اليسرى: أخذ يلفُّ النصف المربوط بالقدم اليمنى بكتفه الأيمن، والنصف الثاني بكتفهِ الأيسر، مبقياً مسافة نصف مترٍ من الحبل بين كل كتفٍ وقدم، وعندما خلص من ذلك تذكَّرَ أنّه فعل ما فعله من أجل أن يضحك، فبدأ يضحك محدّقاً بهيأته الجديدة.

فجأةً، تبددت ضحكته، حيث تملّكه يقينٌ مطلقٌ بأنّه المرآة لذاك الإنسان- الببغاء. هذا اليقين دفعه للشعور بالمسؤوليّة، فأخذ يفكِّر بأنّه لو بقي في البيت سيكون أكثر شخصٍ أنانيٍّ عرفته البشريّة، لذلك عليه أن يخرج ليُري العالم كيف تحوّل إلى الإنسان -الببغاء.

" لطالما ربتني أمي على الكرم وأداء الواجب، علينا فعل ذلك يا كاسر" : قال سعد.
ومن دون تفكيرٍ طويلٍ خرج إلى الشرفة ووقف شامخاً كديكتاتورٍ عادل.ِ

استشعر كاسرٌ القرار الجنونيَّ الذي اتخذه سعد فاعترض منفجراً: "لماذا اشتريت ببغاءً عُصابياً ولم تشترِ ببغاءً مغامراً أيّها الأحمق"؟
قال سعد: "اهدأْ، لا تغضب، داخل كل ببغاءٍ حقيقيٍّ يقبع صقرٌ جارح، أقسم إنّي اشتريتك لأنّ لعينيكَ نظرة صقر".

صمت الببّغاء برهةً، ثمّ اشرأبَّ منقاره الملوّن، تهيّأ ليحمل وزن صاحبه وصار الجناحان يخفقان، ارتفعا عن أرضيَة الشّرفة قليلاً ثمّ بدأ الطيران. إنّما سرعان ما خاف سعد من أن يُصاب بنزلة برد، ذلك أنّ جسدهُ ما يزال مبللاً، لكن في النهاية كان أداء المهمّة بالنسبة له يستحق التضحية.

* * *
على ارتفاعِ مئة مترٍ بدا مشهد البلدة خلاباً لسعدٍ الذي نسي أن يرتدي ثيابه. اتّجه إلى سوق الخضار، المكان الأكثر اكتظاظاً بالبشر في هذا الوقت من الصباح. وفور وصوله: فغر الناس أفواههم مندهشين، توقفت عمليات البيع والشراء... " لقد جُنّ سعد ويبدو أنّ العالم رضخ لجنونه، كيف لإنسانٍ أن يطير مُعلقاً بببّغاء"؟: تساءل العمدة.

حلّق سعدٌ الطائر فوق السوق جيئةً وذهاباً في استعراضٍ تضمَّن مجموعةً من الحركات الملفتة لكي يشهد أكبر عددٍ ممكنٍ من الناس تحوّله إلى الإنسان- الببغاء، حيث راح يفتح رجليه ويلوح بيديه، فكان جسده العاري للناظرين جلياً، احمرّت وجناتُ بعض النساء وبعضهن بالغن في دهشتهن من طيرانه كتكتيك استخدمنه لتغطية محاولتهن تقدير درجة فحولته.

استنفر عريّه بعض المحافظين فاقترحوا على العمدة أن يسقطوه ببندقية صيد، لكنّه طلب منهم التريُّث ريثما يجد حلاً لهذا المأزق المفاجئ.

أمّا سعد فقد كان في عالمٍ آخر، كان يطير. وأثناء تحليقه تذكّر أنّ موعدهُ مع "سمر" قد اقترب، وقرر أن ليس عليه أن يذهب هناك بقدر ما عليه أن يهبط هناك.

بعد جولة الطيران السابعة كان رجال الشرطة قد تجمعوا عند مدخل السوق، وعندما وقف سعد على مدخنة أحد المتاجر بطلبٍ من الببغاء المتعب صاح العمدة: "انزل يا سعد، كفاك جنوناً".
"لم أعرف أنّ الجنون مرادفٌ للطيران": ردَّ سعد.
تدخّل رئيس شرطة البلدة بحزم: "انزل فأنت رهن الاعتقال بتهمة دعس الحسِّ العام".

كان عدد رجال الشرطة الذي فاق العشرين دليلاً حاسماً بالنسبة لسعدٍ على أنّه في مأزقٍ خطير، لم ينزعج من ذلك بقدر امتعاضه من إحساسه بضرورة التفكير للخروجِ من هذا الوضع، والتفكير هو أكثر ما لا يطيق.
"ماذا نفعل"؟ سأل ببغاءه.
صمت كاسر للحظة ثم تغوّط وبريقٌ يُفلت من عينيه، رفرف بأجنحته وانطلقا باتجاه ساحة البلدةِ حيث سمر لا بدّ أن تكون قد وصلت إلى مقهى "البركان الخامد".

على طاولةٍ أمام المقهى وبالقرب من حوضٍ زرعت فيه الورود، كانت سمر تتنفّس، وتراقب قلبها الذي يتلهف لرؤية الحبيب على هيئة نبضٍ سريع.

فوق العيون المحدقة والشرطة المهرولة قطع سعد عدّة أحياء، وعندما اقترب من "برج الساعة" الذي يقع في مركز الساحة التي تتوسط البلدة، انخفض تدريجياً إلى أن حطّ على قمته. وبصوتٍ لم تشهد البلدةُ بقوته من قبل صاح : "سمر... حبيبتي". توّقف فنجان القهوة في منتصف الطّريق بين شفتيها والطاولة، تماماً أمام قلبها، رفعت الهواء بجفنيها قليلاً، ثمّ وقفت، كشجرةٍ فتحت ذراعيها، وانطلق الطائر عارياً نحو الحب، بلا شيءٍ نحو الحب، إلى أن غطّ على غصن حبيبته الأيسر، فقط يصغي لدقات قلبها، وينسى أنّ الشرطة ماتزال تهرول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى