إيريني ثابت - طبعا!!

المسافرون المنتظمون في القطارات لا يتحدثون مع من يجلس بجوارهم.. وهي قاعدة يعلمها ويعمل بها معتادو السفر من أمثالي لاستغلال وقت السفر في بعض الهدوء ربما.. أو القراءة.. أو الاسترخاء.. أو النوم.. أو حتي مشاهدة الطريق.. ولكن القاعدة تنكسر أحيانا للضرورة وأحكامها..
جاءت لتجلس في المقعد المجاور لمقعدي، وألقت بالتحية فأجبتها، ثم جلست وفي عينيها وعلي وجهها علامات أعرفها جيدا بالخبرة تنم عن الفرحة بأنها قد وجدتني في المقعد المجاور.. فهذه فرصة ذهبية لتتحدث معي لأنها لن تبدأ الحديث لو كان الجالس مكاني رجلا.. لما أدركت الموقف لم يكن أمامي سوي اللجوء إلي حيلتي القديمة المتكررة.. وهي أن أخرج كتابي من حقيبة الكتب وأبدأ في متابعة قراءته فتدرك أنني لن أتحدث.. وقبل أن أخرج الكتاب، رمقتها بنظرة سريعة أخري فوجدتها في منتصف العشرينيات تقريبا وينم مظهرها عن مستوي إجتماعي فوق المتوسط..
هممت بفتح الحقيبة ولكن نظراتها الحائرة والإحباط الذي أصابها من انتظار أن أحدثها، جعلني أتراجع.. انتظرت قليلا فبادرتني بالحديث بسؤال غير متوقع..
هو أنا ممكن أتكلم مع حضرتك بصراحة؟
اعتقدت أن خطبا ما قد ألم بي أو تصرفاً ما قد قمت به وضايقها سوف يكون موضوع الحديث الصريح الذي ستقوله.. أجبتها أن تتفضل.. وإذا بالتساؤل الصريح يتعلق بها هي شخصيا والمقصود أن أشير عليها بما يجب أن تفعل..
قالت بأدب جم:
أنا أول ما شفت حضرِتِك حسيت اني ممكن أتكلم معاكي من غير أي تحفظ..
اتفضلي طبعا.. أهلا بيكي..
العجيب أنها لم تتعرف عليّ بالطريقة التقليدية المعتادة وإنما سألتني باستحياء:
حضرِتِك عندك أصدقاء.. أقصد صديقات؟
طبعا!!
ليه طبعا.. ليه قلتي طبعا بثقة كده!!
عشان الحياة ما تحلاش إلا بالأصحاب.. اهميتهم زي أهمية وجود الأهل والشغل.. واكتر حاجة تهون ثقل الحياة اليومية الأصحاب.. مش كده؟!
الحقيقة كانت إجابتي من أغبي ما يمكن.. ولم أكتشف ذلك إلا بعد أن نطقت بها.. إذ قالت في حزن:
أنا عارفة كل اللي حضرِتِك بتقوليه ده.. المشكلة اني عارفاه كويس.. بس عمري ما كان لي صاحبات.. من أول ما كنت صغيرة في المدرسة في أولي ابتدائي واللا حتي في كي جي؛ كنت أحاول أكلم أي بنت في الفصل أو أتصاحب عليها بس حتي لو ردت عليّ ما ترضاش تلعب معايا في الفسحة.. كنت أشوف كل البنات مع بعض اتنين أو تلاتة.. بيتكلموا ويضحكوا.. إلا انا.. دايما وحدي.. كنت بأرجع من المدرسة أعيط لماما.. تقول لي ما تزعليش أكيد ربنا شايل لك صاحبة حلوة وطيبة زيك..
انتظرت الفتاة التي كانت علي وشك البكاء قليلا لربما أتكلم.. ولكنني في الحقيقة أدركت حمق ما قلته لها والآن لا أستطيع التراجع.. ولا يمكن أن أقول لها مثلا ان في الحياة أشياء أخري جميلة غير الصداقة.. اضطررت أن أسألها:
طيب ولما كبرتي في اعدادي وثانوي برضه ما كانش فيه صديقة مناسبة؟
ولا صديقة غير مناسبة!! أنا فعلا كنت محتاجة أي صديقة ولو حتي تكون منبوذة زيي!! ما كنتش بأدور علي صداقة البنات المشهورين والاجتماعيين في المدرسة.. لأن ده كان يعتبر حلم مستحيل بالنسبة لي.. كنت بأشوف نفسي قليلة أو أكيد فيّ عيب بيخلي البنات تبعد عني زي ما يكون عندي مرض جلدي.. تصوري!!
بعد الشر.. ليه بتقولي كده؟ انتي باين عليكي حساسة زيادة عن اللزوم..
لا والله.. أنا انسانة عادية ويمكن أكون مش متكلمة أوي.. مش اجتماعية.. لكن ياما ناس زيي وأقل اجتماعية ولهم أصحاب اتنين وتلاتة.. أنا كل اللي كنت باتمناه صاحبة واحدة.. ولما دخلت الجامعة كان عندي أمل في المكان الجديد بعيد عن المدرسة اللي قضيت فيها كل سنين التعليم لحد ثانوي.. قلت الجامعة فرصة جديدة لي.. وبعد ما كنت فقدت الأمل، رجعت أفكر تاني في صديقة..
قلت مقاطعة: انتي ليكي اخوات بنات.. أكيد لأ!!
لا.. لي أخ واحد بس.. حاولت تاني في الجامعة.. فشلت فشل ذريع.. عارفة حضرِتِك!!؟؟ اتعقدت أكتر.. لأن كل الناس في الجامعة ماكانوش يعرفوا بعض.. واتعرفوا علي بعض.. واتصاحبوا.. إلا أنا..
مش معقول.. انتي بتبالغي شوية.. يعني ما كانش فيه كلام بينك وبين زمايلك.. مذكرات.. محاضرة تكملوها من بعض!!؟؟ مش معقول يعني..
لا كان فيه.. كنا بنتكلم عادي ونتعاون كزملاء.. أولاد وبنات كمان.. لكن أنا ماليش صاحبة.. صديقة.. مجرد زملاء وبس.. فيه بنات كانوا متصاحبين علي بنات.. وبنات متصاحبين علي أولاد.. لكن أنا كأني هوا.. محدش شايفني.. أو كأن فيّ حاجة بتنفر الناس مني.. حضرِتِك شايفة ايه؟
شايفة انك بنت لطيفة وأمورة ومفيش فيكي أي حاجة منفرة بالعكس انتي بتتكلمي بلباقة وشكلك آخر شياكة كمان!!
أومال ليه الناس بتهرب مني؟
الحمد لله انها قاطعتني قبل أن أحاول الاجابة.. فليس عندي إجابة.. قالت:
تصوري أنا عملت ايه من كتر ما انا متضايقة من الموضوع ده؟ دخلت علي مواقع تكوين صداقات.. كنت باتكلم عالنت مع ناس وأحاول ألاقي منهم صديقة.. أو حتي صديق.. بس اكتشفت ان النت كله فشر في فشر.. بتتكلمي مع ناس مالهمش وجود حقيقي في حياتك.. وياتري هما فعلا اللي بيقولولك عليه.. واللا هما حد تاني.. المهم بعد فترة قصيرة زهقت أوي وقفلت الموضوع ده تماما..
استمعت إليها جيدا.. ليس مجرد استماع بالأذن بل تفاعلت كثيرا معها.. تضايقت من أجلها.. لم أكتشف فيها طوال الساعة ونصف التي جمعتنا في القطار أي سبب واضح يجعلها لا تكوّن صداقات.. ولكنني بالرغم من تعاطفي معها، لم أستطع بكل صراحة أن أساعدها.. اقترحت عليها عدة طرق لتكوين صداقات، وأنا نفسي غير مقتنعة بأن لتكوين الصداقة طرقا علمية محددة.. وبدت اقتراحاتي كلها بدائية وغير واقعية في مقابل ما قصته لي من محاولاتها المستميتة لتكوين أي صداقة والحفاظ عليها..
ثم جاء مفتش القطار يري تذاكرنا.. وبينما ننتظره ليبتعد حتي ما نكمل حديثنا كنت أفكر في حديثها الذي أثار في نفسي أفكارا لم أكن أتأمل فيها كثيرا مثل: هل الصداقة هبة تمنحها الحياة للبعض وتحرم البعض منها؟ ربما يسعي الإنسان للاحتفاظ بصداقاته والحفاظ عليها ولكن هل يسعي لخلقها؟ كيف تتولد الصداقة بين اثنين أو أكثر وتنمو مشاعر المحبة والود والتعاون والقلق والخوف والأخوّة والتفاهم بينهم؟ هل يجب أن يندم الإنسان إذن علي أصدقاء لم يحافظ علي علاقته بهم عندما يري هذه الفتاة؟
كان المفتش قد ابتعد وأنا في شرود أفكاري حتي أعادني سؤالها إلي الحديث الذي كان علي وشك أن ينتقل لي وتوقعت أن يكون سؤالها لي عن رأيي وهل من المفترض أن تستسلم وتمتنع عن محاولة صداقة مع أحد بعد أن تجرب اقتراحاتي غير الفعالة أم لا.. ولكن سؤالها كان مفاجئا مباغتا لي!! قالت:
لو طلبت منك تكوني صديقتي، تقبلي؟
أجبت بارتباك: طبعا!!
عندما أجبت (طبعا) علي سؤالها لي: (عندِك صديقات؟)، كنت أعنيها تماما.. أما هذه الـ (طبعا) فكانت ضرورة أخلاقية إنسانية بروتوكولية.. وجاءت عربة المشروبات التي تمر في القطار ويسأل الجرسون الركاب: شاي؟ نسكافيه؟ حاجة ساقعة.. دعوتها (تحبي تشربي ايه؟) رفضت بأدب جم.. وكأنها تقول لي: أنا أفهم أنكِ لن تكوني صديقتي.. وقبل أن نتكلم أبطأ القطار قليلا فنظرت من النافذة..الحمد لله أنها محطتي.. هممت بالقيام وكانت هي ستبقي وحدها ربما للمحطة التالية أو لنهاية الرحلة.


* عن جريدة أخبارالأدب المصرية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى