محمد علام - البنت التي تغتال الحكايات

كَحَيٍّ دائماً، لا يموت، أَطفأ النور، وأَغلقَ الباب، وحبسَ خلفه ملايين اللعنات التي تطارده طوال النهار..

من مكتبه في الشركة، إلي مقعد القيادة، فيتركه ويركض هلعًا.. إلي أين يذهب؟ في الشارع تنتظره هناك علي مقاعد الطريق العامة، في الحديقة تحت أشجار السرو والسنديان تتمدد في انتظاره، في المطعم، فوق المآذن وتحت أسطح المنازل، كانت تجيد الاختباء والترصد لاقتحامه، كادت أن تفتك به..

على جانب الطريق ترقد السيارة في لونها الزهري وباب القيادة مفتوح علي آخره، تومض وميضًا أصفر يبدد شمل الظلام لثانية ويعيده. كان الرجال وقبلهم النساء يمرون جوارها - السيارة -فيرمقونها من أعلي لأسفل ثم ينظرون لأزواجهم في ابتسامة تصطنع عدم الاكتراث. رغم أنه من أعلي برج في الحي والرجل الذي يراقب ذلك كله من خلف منظاره المعظم قد يصاب بالملل، أو بالفعل هو كذلك، فاتخذ مقعدًا قريبًا، مدَّدَ قدميه علي سور الشرفة وراح يقرأ حكايةً جديدةً لا تحتوي بين طيَّاتها البنت التي احتضنت الفتي عند النهر فمات (حبًا)، ولا الطفل الذي كان يقاوم الليل والفضول يحترق تحت جفنيه لأن يفتح عينًا يري بها أمه تتقلب جواره متأوهة، دون أن يستطيع رؤية ذلك الرجل الذي تسلَّلَ في ليلة كان القمر فيها محاقًا وكان الأب غائبًا عن البيت. سيقرأ حكايةً جديدة من نوعها لن يري فيها ذلك الفتي الذي يتمدد علي ظهره في عدسة المنظار، يشير والسيجارة بين إصبعيه إلي السماء وعلي ملامحه ابتسامة المنتصر..

" في عصر ما من عصور الجنون التي مرت علي البلاد، مرَّ الحاكم ذات يوم علي أسرة كانت تفترش الخلاء لها، مكونة من أب وأم وولدين وبنتين، إحداهما كانت تبيع الملوخية في السوق وفي ذلك اليوم طبخت بعضًا منها لأسرتها، فلما رأي الحاكم ذلك أمر بإلقاء القبض علي الأب والولدين وجلدهم ثلاثة أيام ثم علق رؤوسهم علي المشانق. بكت الأم، لطمت بنتها وعاهدتها علي ألَّا تبيع الملوخية ثانية ولا تقربها من الدار، وافقت البنت، وحافظت علي عهدها طوال سنوات كبرت فيها وأنجبت من الأولاد خمسة سألها أصغرهم ذات يوم: يا أمَّاه كيف يكون طعم هذه التي يدعونها الناس بالملوخية؟ فبكت الأمُّ في داخلها، وقررت أن تطبخ له طعامًا يشابه في هيئته الملوخية كي لا تخسر عهدها مع أمها، وأكل الولد واستمتع، ولم يعرف أحد حتى اليوم ما طبخته هذه الأم لصغيرها، إلي أن ماتت فبكي الولد كثيرًا، ولما كبر ظل فقط يحلم بأن يتذوق ملوخيةً كالتي طبختها له أمه عندما كان صغيرًا.. "

سيقرأ أشياء كهذه تسلي وحدته وتأخذه نحو النهر، ينتظر بنتًا لعلَّها تمر من هناك مصادفة، فتقبله، ويعانقها، يجلس جوارها، كلما يحاول أن يخبرها سرًا اكتشفه للتو، تقبله في فمه فتنحشر الأسرار في حلقه وتسقط في معدته إلي الأبد. سيطير إلي بلاد الرافدين والسند والصين ويعشق قوقازية يسجد في محرابها ليل نهار. سيقرأ التاريخ كله من بدايته حتى يمل القراءة فينام أو يموت، قبل أن يصل لنهاية رقيقة.. لولد كان يحلم دائمًا بامتلاك زرافة في غرفته، وعندما لم يستطع ذلك، خطف غزالة شريدة في الملكوت في لحظة تربص، ربطها إلي جوار الشرفة وتربع أمامها يحكي لها عن بنت.. عرفها يوما ما، كانت تُفتن دومًا باغتيال الحكايات..


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قاص مصري
* المجموعة صادرة عن دار ميم للنشر ـ الجزائر

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى