شيرين ماهر - الناجون من الحياة.. قصة قصيرة

على حافة النهر جَلَست تٌطالِع أطيافها المُنعكِسة التي باحت بارتجافاتها الخبيئة، وما إن تلاشت ورحلت أطيافها الحزينة مع الموج الهادئ، حتى عادت تختطفها دوائره المهاجرة من جديد، كالوليد الذي يخشى الحياة، ويطلق صرخاته كوسيلة دفاعية فطرية يدرأ بها شر المجهول، مُعلِنًا رغبته في العودة من حيث أتى، ولكن هيهات أن ينفَض هذا الاشتباك، فالحياة لا تُفرِط بسهولة في زائريها، فمع مَن تُمارِس إذن كواليسها الدنيوية؟

يقطع تيار تأملاتها ذلك "الطيف الأخير" الذي عانقَ دائرة الموج الراحل، فإذا بها تُودِع انعكاسها المُهاجِر الذي ارتسم على صفحة المياه، كان الموج لا يعكس خيالها فحسب، وإنما يعكس مشوارها ووعود الحياة لها عبر ترحالها الطويل، وإذا بها تُلَملِم أحلامها وتنهض، كي تنسدل ستائر التمني على جلستها المُتراخية التي أبت الانقضاء، فهي في الواقع لا تريد المُغادرة أو النهوض، فقد جاءت هاربة من الدنيا إلى ذلك النهر الدافىء، الذي احتضن وعكاتها دون أن يطالبها بقرابين الولاء وصكوك الطاعة.

كان يسمع شكواها كمَن ينتظرها منذ عهود طويلة، نظراتها الشغوفة المُحملِقة إلى مياهه الغزيرة المتدفقة، أهدتها حماية لم تجدها في دائرة النار التي أحاطتها، ليتها وجدت مِن يُدثر وجعها. ليتها استطاعت أن ترتمي في صدر عميق، تختبئ فيه كطفلة فقدت ذويها وتخشى الغرباء، لكن الطبيعة كثيرًا ما تجود بما يعجز عنه البشر!

تحمل أوراقها وتلقي نظرة أخيرة على تلك الصخرة المخلصة التي لم تزهد جلستها الطويلة، خُيل إليها أنها ترمق علامات الحزن قد ارتسمت على المكان فور مغادرتها، أو هكذا تمنت أن ينتمي لها المكان مثلما انتمت إليه، فالأشياء تبدو أكثر ولاءً من الأشخاص.

تساءلت وهي أقرب للغفوة من اليقظة، وللشرود من الوعي: ترى مَن هم الناجون من الحياة؟ وما هو سبيلهم للنجاة؟ وإذا ما كانت الحياة تتلاعب كثيرًا بقاطنيها وتجيد تلك المقامرة، كيف لنا الخلاص مما نتصوره خلاصًا؟ وعندما تُكتَب لنا النجاة، في أية بقعة سنجد أنفسنا إذن؟ وهل يمكننا التخفف من ذرات أجسادنا الثقيلة والطفو بعيدًا إلى حيث لا ندري؟

هكذا ظلت الأسئلة تتراكم وتتسارع على رأسها، تُتَمتِم بها وحيدة وهي في طريقها للعودة، بينما تفر منها الإجابات كالماء المتسلل عبر الأنامل المرتعشة. تعود إلى منزلها، ولاتزال تطاردها الأسئلة، وكأنها قد استيقظت توًا من حُلم يثير فضولها ولا تجد منه سوى قصاصات مبعثرة، تحتاج المزيد من الوحدة والصمت كي تعيد ترتيبها، ربما أمكنها استدراج الأحداث المبتورة.

تخلد إلى أريكتها وتضع سماعات الرأس، ثم تستجمع مقطوعة حانية، حتى يتسلل الخدر إلى جسدها، ربما أمكنها العثور على إجاباتها الحائرة داخل حُلم جديد، تنجو فيه من الحياة، وتخلق معه عوالمها المتلاشية عبر الواقع، ربما أمكنها الولوج إلى معبرها اليتيم الذي يُلقيها على الضفة الأخرى من الحياة، حيث التخفف من كافة العثرات والخيبات!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى