حسام المقدم - رأس مضاد

فى السابعة عشرة، تمكّنَ هذا الولد من إخفاء حفنة نجوم تحت قدميه دون أن يراه أحد. رفرفت معه طيور الدنيا، طارت الفراشات كرنفالية الألوان فى غناء «ليلى نظمي»: «جَاى منين؟.. م الثانوية. رايح فين؟ ع الكُلّية».
نعم، كل ذلك رائع.. لكنه مأخوذ بنداء حاسم: على الكُليّة سِرْ. يسمع الصوت آمراً، بلهجة ممطوطة حازمة، من جهة مجهولة.. جهة فى مداها البعيد شيء مُغوٍ وغامض. يسحب الملف غالى الثمن ويذهب مع الذاهبين لاختبارات يعرف أنها غير عادية.
فى اليوم الأول يرى الوجوه البيضاء المُحمرّة للمتقدمين معه. ماذا يأكلون؟ سؤال لم يكن يشغله سوى تجاه وجوه البنات الفائحات بالحلاوة. وجد نفسه مشغولا بنفس السؤال نحو هؤلاء الزملاء الذين يبادلون بعضهم الابتسام كأنهم جاءوا من شارع واحد. فى المقابل كل شيء يُحرضه على الشعور بالهَيبة، خصوصا الأقدام الدابّة على الأرض بصرامة، وأصحابها بوجوههم المزمومة، وهيأتهم المشدودة.
يترجرج القمر المخبوء فى صدره. يوشك أن يميل به فى وقفته المنتبهة مثل عمود. يبلع ريقه، ويطحن الفراغ بين أسنانه مع كلمات مهموسة تُضيء منارات على البُعد: “اثبتْ، من هنا يخرج الكبار منذ خمسين عاما. البياض ليس شرطا، وأنت لستَ أسود”. يتذكر: “حتى لونى قمحي..”. احتمل نفسه: سمكة ملساء يُقلبها كل مَن هبّ ودبّ فى كشف الهيئة. فى قدمه إصبع يتعاشق مع جاره. جاهدَ فى فضّهما لحظة الفحص. عرف ذلك من رفيق تم استبعاده لهذا السبب التافه. الثبات الثبات. ينتهى الكشف الجهنمى بنجاح. يجد نفسه فى اختبار ما سمع به من قبل، مع صوت آمر خشن يصيح: يا الله، على الساقية! طابور منتظم يسير بإيقاع تنقصه موسيقى المارش.
حجرة مستطيلة تصطف على جوانبها كراس جلدية، وفى المنتصف شيء يشبه الملاهي. درجتان عاليتان تُفضيان إلى عنكبوت حديدى الأذرع. فى نهاية كل ذراع كرسى بمسند. ينادون عشرة كل مرة. صعد مع الصاعدين وجلس. ضبط نفسه وشحذ كل خلية فيه مع الصوت المُلقى بالتعليمات: ستدور الساقية بسرعة ثم تقف مرة واحدة. امسك نفسك جيدا. بعدها ستنفذ الأمر بالدخول من أحد الأبواب المُرقّمة أمامك. ابدأ..
الأرض كلها تدور، هناك مَن يدفعه للسقوط فى بئر غويط. هناك مَن قذف به خارج الفضاء كله. عينان مغمضتان وضغط فى الرأس يوشك أن يقع به فى الأرض حيث لا أرض. الكرسى سيطير منفلتا من مكانه. كل الجسد فى القبضتين الميتتين. ماذا لو خارتا؟ غيمة مدوخة، غيمات. جسد مرتطم بالأذرع الصلبة تلوكه كيفما شاءت. صوت. هناك صوت يُشخشخ فى ريح الأُذن. استعد. ستقف الساقية. هل سمع فعلا؟ هل مات على الكرسي؟
لو انفتحت العينان الآن، فماذا يمكن أن يرى غير سريالية مُزغللة. هو دائخ، بل على الأصح كل عصب من أعصابه فقد الاتصال نهائيا. غثيان بطعم القيء يشمله. يوشك أن يتوسل لهم ليوقفوا ذلك الدوران الجحيمي.
أولاد ال.. لقد سمعوا استغاثته ويا ليتهم ما سمعوا. سيظل مدى حياته متذكرا لحظة الإيقاف تلك. كيف يمكن لواحد أن يجرى بأقصى ما فيه ثم يطلبون منه الوقوف مستويا فى ذات اللحظة التى يسمع فيها النداء الحاسم؟ سيتخلخل بالتأكيد، وفى الخلخلة ارتجاجات تُنذر بالانكفاء أرضا. بالفعل ارتجَّ العنكبوت الحديدى فى الوقفة المكبوحة قسرا بالأمر الغشيم. حدثت هزتان، نفضتان، فى الحيّز الضيق المحكوم بالكرسي. انجرف لأقصى اليمين ثم ارتدّ مرة أخرى. جعلوه يفيق من الدوخة الساحبة للروح فى لمحة واحدة. هناك مَن ضربه على رأسه بشومة فى قلب كابوس مرعب. لكن لا وقت لتجفيف العَرق والاستعاذة أمام الصوت الذى يصل بالكاد لأُذن مثقوبة.
يبرق النداء الآمر بأن يقوم الجالس على كرسى رقم خمسة ويدخل سريعا من باب ثلاثة. تنفتح عيناه، يتشكل أمامهما الوجود من جديد، بعد رحلة المتاهة الحلزونية. تعود الأسماء لتأخذ مسمياتها. يصلب جذعه ويقف. يكتشف أن قوة ما لا تزال باقية فيه. يرفع قبضتيه الميتتين ويُدلك صدره برفق. القمر بين الضلوع لا أثر له. القدمان تخطوان خطوات رائد فضاء على أرض غريبة. الأرض ليِّنة، رخوة، مع مفاصله الإسفنجية. باب ثلاثة، نعم ثلاثة. أنا رقم خمسة وسأدخل من باب ثلاثة. ويدخل من الباب البنى الغامق ليجد رجلا على مكتب يستفسر منه عن بياناته.. مُخى يا عالم! أمسك رأسه بحذر ومسح على شعره. استجمعَ تركيزه، الأصح شدَّه شداً من قلب الدوخة والضباب. أجابَ بكلمات ملضومة فى بعضها، ووقّعَ باسمه الثلاثي. كاد القلم يستعصي. ارتعشَ وتذبذب، لكنه بحزم قبضَ عليه بأصابعه التى عادت للحياة منذ قليل. سمع الكلمات التى طالما انتظرها: بعد غد تحضر فى الثامنة صباحا لتكملة الاختبارات. قيلت له قبل ذلك مرتين وكان يفرح جدا بها. هذه المرة شمله شعور امتزاج العذب بالمالح، دخول ليل فى نهار، ونهار فى ليل. لن تحتويه فرحة بأى شكل، سيشرد فى القادم المخبوء. يُحس بقمره بين الضلوع عاد مُتقلقلا. يتذكر أن ذلك ربما كان إشارة، علامة لم يقف أمامها فى ذروة الجرى اللاهث.
ستدور الدوائر من اختبار لآخر، جسدى أو عقلى أو كلاهما معا. تتوالى القفزات فى الطريق المفروش بقمر غائب فى الصدر. لقد سكنَ وكفّ عن الغضب، انتظارا لشيء ما لابد أن يُنهى الأمور على أى شكل. قمر مُخادع. لا، ليس القمر. هو الذى كان أعمى، أو كان يتعامى. لا فرق مع النهاية التى جاءت لسبب بعيد ومألوف: عَمّ أو جَدّ بعيد لم يره أبدا. اللقب هو المظلة الحاوية، الكفيلة بعزل كل أبناء العائلة خارج أبناء الشارع الواحد.
لسنوات سيظل مُمتنا للتجربة رغم كل ما فيها. بقيت ذكرى الساقية هى الوفيّة. تأتى دائما فى الوقت الذى يتطلب التطَهُر، تعذيب النفس لاستئصال كل شوائب الأفكار وأقمار الضلوع. ما وجد نفسه مُتلبسا بفكرة؛ إلا وسارع لساقية قد تتغير شكليا حسب الظروف. من أرجوحة أطفال دوّارة بعنف، إلى الطبق الطائر الذى يخلع القلب من مكانه ويُعيده مرة أخرى مترجرجا مثل كُرة. لا يشعر بالراحة إلا بعد أن يلف رأسه ويدوخ. فى إحدى المرات، وعند سرعة الدوران القصوى، انفصل رأسه وحَوّم بعيدا حتى اختفى فى سحابة غامقة، دارَ مع قوس قزح إلى أن رجع من جديد بين كتفيه. عاش لأيام سعيدا برأس مُحاسِب، مع حسابات وأرقام وأوراق بنكنوت. فى مرة أخرى أحبّ أسماء الماركات النسائية للعطور. ما أجمل ذلك! رأس عامل فى مصنع عطور شهير. وحين سمع طقطقات مقص تتلاحق فى أذنيه على الدوام؛ آمنَ أن مهنة الحلاق أروع مهنة فى العالم. رؤوس كثيرة ستعيش وتتبدل ببساطة على مرور الأيام، طالما ظلّ على إيمان بندائه الحميم: غَيِّر رأسك يا أخي، فقد مضى عهد استعمار الرأس الواحد!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى